إرادة الحياة

هزم المرض مناضلاً بإرادته وعينيه
إعداد: روجينا خليل الشختورة

د. جميل زغيب:

الحياة مغامرة في طور الكتابة، فابدأوا الآن...

طبيب أطفال لبناني، يعمل في الطب منذ العام 1992. بنى نجاحاته من خلال مثابرته وكفاءته وإخلاصه لمهنته. في العام 2008، وفي ذروة نجاحه، أصيب بالتصلب الجانبي الضموري A.L.S. Amyotrophic Lateral Sclerosis، وهو مرض عصبي خطير ونادر، أدّى إلى شلله كليًا.
إنّه الدكتور جميل زغيب الذي هزم المرض، وتمسّك بالحياة بفرح مذهل، وأراد أن ينظر إلى العالم في كل يوم، وكأنّه يراه للمرّة الأولى.
مشوار شاق خاضه برفقة زوجته وأولاده الثلاثة، سلاحه: إيمان كبير وقدرة عجيبة، وأجهزة متطوّرة يستخدمها بواسطة عينيه، ليتواصل مع الناس ويؤلّف الكتب ويكتب المحاضرات.
«الجيش» تواصلت مع الدكتور زغيب وكان هذا الحوار.


التحدي والانتصار
• د. زغيب، عندما أصبت بالمرض، كنت طبيبًا ناجحًا وفي عزّ عطائه، كيف استطعت تحدي هذا المرض والانتصار عليه؟
- عندما بدأ كل ذلك، سألت نفسي: هل سأنسحب من هذه الدنيا كما يفعل معظم الناس، أم سأكمل الحياة؟ فقرّرت أن أحيا، أو على الأقل أحاول أن أحيا، وكما أريد، بكرامة وشجاعة، بإيمان ومزاج جيّد، وأيضًا بسلام. واليوم أعيش حياة بعيدةً عن كل ما توقّعته لنفسي عندما أصبت بالمرض. فأنا أتلقى كل يومٍ عبر البريد الإلكتروني والفيسبوك، رسائلَ من أناسٍ مجهولين يعبّرون فيها عن مدى تأثيري في حياتهم بطريقةٍ أو بأخرى. وهذا يدفعني للاستمرار في النضال والمكافحة. أشعر بالنعمة تباركني وبالفرح يملأ قلبي.
ما لم أكن أعرفه هو أن شللي أو «عبئي» قد كان بركةً أتاحت لي فرصًا فريدةً للتقرّب من الآخرين والتعاطف معهم وتقبّل آلامهم والتخفيف عنهم. ولذلك، آمنت لاحقًا بأن الله محبّة وبعيد عن كل شرّ، وبأنه يحبني ولكن على طريقته الخاصة! لقد اختارني في مهمة مميّزة هو وحده عرفها في البدء، وفي ما بعد اختبرتها بنفسي. ولهذا السبب، تقبّلت شللي بصبر، فسلّمت أمري لله من دون خجل أو تكتّم. كنت متأكدًا بأنني يومًا ما سوف أفهم أن هناك معنى كاملاً لكل ذلك.
وباعتقادي يعيش المرء في بعدين اثنين: الجسد (وهو يشكّل 5%) والروح (وهي تشكّل 95%). أنا نسيت جسدي لأعيش فقط بروحي الحرّة وأحلّق معها فوق الطرقات والمدن والبلدان من دون الاستعانة بأي من عضلات جسدي.
أنا متأكد أنّه مقابل كلّ عجز يصيبنا، يُنعم علينا الله بما يكفي من القدرات لمواجهة التحدّيات. ويكفي التسلّح بالرغبة في الوصول إلى مبتغانا حتى تتحقّق أهدافنا. ففي كل مرّة كانت الحياة تواجهني بسبب الاستسلام، كنت أظهر لها ألف سببٍ وسبب للتمسّك بها ومتابعة الدرب. خطف مرضي مني الحركة، فأكملت بروحي وساعدتني التكنولوجيا المتطورة. حرمني مرضي القدرة على الابتسام والكلام، فتواصلت مع الآخرين وابتسمت بعينيّ. وهكذا هزمت المرض وأنا أعلم أنّ ما من شيء يحدث من دون سبب.
وهناك حقيقة رائعة وأساسية في الحياة، أستغرب كيف أن المدارس والجامعات لا تعلّمها: لكل منّا هبة أو موهبة أو كفاءة أو معرفة، وغالبًا ما تكون هي درب سعادته. هذا بالضبط ما تعلمته وأفعله للاستمرار.


التواصل والكتابة بالعينين

• هل يمكن أن تعرّفنا بالجهاز المتطوّر الذي من خلاله تتواصل مع العالم وتتابع حياتك العلمية؟
- في غياب أي علاج لمرضي، بدأت أبحث عمّا تبقّى لي من قدرات، من أجل اكتشافها وتطويرها. كان لديّ، فكري وقلبي وعينيّ، وكم من الأمور يمكن القيام بها بواسطة الفكر والقلب والعينين... بدأت أبحث عن وسيلة لمشاركة الآخرين خبرتي الطبية وتجربتي الإنسانية. ثم وجدت في جهاز الكمبيوتر ما كنت عاجزًا عن القيام به، لعدم قدرتي على الحركة والكلام. وبالصدفة اكتشفت الجهاز الذي أستعمله، وهو يعمل من خلال حركة العين وبواسطة الأشعة تحت الحمراء، التي يبثّها جهاز مثبّت تحت الشاشة أمام عينيّ، وتلتقطها شبكة العين ثم تعكسها على الجهاز نفسه، فيتحرّك المؤشّر على الشاشة وفق حركة عينيّ، كما يفعل الإصبع. وبمجرّد تثبيت العينين على حرف من لوحة الحروف على الشاشة أو على أيقونة ما لمدة أقلّ من عشر واحد من الثانية، ينطبع الحرف أو تفتح الأيقونة. هكذا كتبت جميع كتبي، حرفًا حرفًا. لا أدري ما الذي كان ينتظرني لولا هذا الجهاز الذي قلب حياتي رأسًا على عقب، فبواسطته استطعت أن أشغل أيامي ولياليّ، وباتت حالتي حديث الناس.
«متعقّب توبي» الذي يتعقّب حركة العين و«محاور توبي» غيّرا مجرى حياتي، فمن خلالهما أصبحتُ قادرًا على استخدام الحاسوب ومحاورة الآخرين. التكنولوجيا مكّنتني من التواصل مع الجميع: زوجتي، أولادي، أهلي وأصدقائي، بفضلها استطعت أن أكتب ما أشعر به وأعبّر عن أفكاري، ألفت الكتب وترجمتها، وقمت بإعداد محاضرات طبية وشهادات حياة، في لبنان والخارج. كما أنشأت صفحةً للاستشارات الطبية على موقع فيسبوك، أُقدّم من خلالها نصائح طبية مجانية لمرضاي أو لأي شخصٍ آخر، في لبنان أو خارجه. بعد ذلك، أنشأت موقعًا إلكترونيًا خاصًا على شبكة الإنترنت لتسجيل نشاطاتي وإنجازاتي. كلّ ذلك بواسطة عيني، فحيث يتوقّف الجسد تكمل التكنولوجيا.

 

حياتي، قصتي وكتب أخرى
• نعلم أنك أصدرت العديد من الكتب وأنت في حالة المرض، أخبرنا عنها.
- الكتابة تبقيني منشغلاً وتشعرني بأنني نافع ومنتج، وبالتالي تنسيني أعضائي المعطّلة. عندما أحتاج إلى التعبير، تأتيني الكلمات عفويةً، تحاكي اختلاجات النفس: غضب وهدوء، فرح وحزن، ثورة وسكون، متعة وشجون وأمل وخيبة. كتبتُ حتى اليوم وبعينيّ أربعة كتب باللغة الفرنسية ثم ترجمتها جميعًا إلى العربية و/أو الإنكليزية، ليبلغ عدد الكتب التي أصدرتها بين العامين 2012 و2015، تسعة، وهي:
- حياتي، قصتي، سيرة ذاتية منذ الولادة حتى بداية المرض ومعاناته، ترجمته إلى العربية والإنجليزية.
- نصائح عملية لصحة الأطفال، يتضمن نصائح توجيهية عملية للوالدين، في المشاكل الصحية الأكثر شيوعًا التي يواجهها الأطفال، وقد ترجمته إلى الإنكليزية.
- الحياة بصمت وبلا حراك، يعبّر عن آرائي في الحياة والمجتمع في إطار روائي، وقد ترجمته إلى العربية.
- مذكّرات مصاب بالشلل، مجموعة من المذكرات خلال مرضي، مع أفكار فلسفية حول الحياة والموت ومواضيع أخرى كالحب والصلاة، وأيضًا ترجمته إلى العربية.
من ثم تمكّنت من تحويل جميع كتبي إلى كتب إلكترونية، وهـي متوافـرة على موقعَي Kindle Amazon وAppstore.

 

• النظام الذي تستخدمه للتواصل يقتضي أن تبذل عيناك مجهودًا، كيف تتحمّل هذا الأمر وتتكيّف معه؟
- بالطبع تتعب عيناي، لا سيما إذا كان لدي عمل كثير، فالأشعة تحت الحمراء تجفّف العين ما يؤدي إلى احمرار ووجع فيها، ويمنع الرؤية الصحيحة. ولذلك، أستخدم الدموع الاصطناعية، وأمنح عيني فترات متقطّعة من الراحة للحدّ من المشكلة، وبالتالي للحدّ من المعاناة.

 

التجربة في خدمة الآخرين
• لقد أسّست جمعية هي الأولى من نوعها في العالم العربي تعنى بمرض التصلب الجانبي الضموري، أخبرنا عن هذه الجمعية.

- في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المصاب بمرض التصلب الجانبي الضموري، يستطيع أن يتابع حياته، لا بل يمكن لهذه الحياة أن تستمر بسعادة وانشراح، إذا حظي المريض بإحاطة جيدة وتأمّنت له الرعاية اللازمة. فالوعي والقدرات الفكرية تبقى سليمة، لكن المريض يحتاج إلى التنفس الاصطناعي (شرط أن يكون ذلك قبل حصول المضاعفات الرئوية)، كما يحتاج إلى أنبوب المعدة الذي يوفر له التغذية المتوازنة. ولحسن الحظ أنّ التقدم الحاصل في مجالي الطب والتكنولوجيا، يساعد المريض على العيش باستقلالية ذاتية نسبيًّا. ولكن هذا كله يحتاج إلى موارد مادية وإلى معرفة بالمرض وبكيفية التعامل معه. فالعديد من المرضى يقضون بسبب جهلهم وأهلهم لهذا المرض، وبسبب الكلفة الباهظة للعناية به. لذا، قررت إنشاء الجمعية اللبنانية للتصلب الجانبي الضموري، وهي الأولى في العالم العربي. من أولويات الجمعية: توفير المعلومات حول المرض، الإصغاء إلى المريض وأهله، الدعم، تبادل الخبرات، نشر الأمل، تشجيع البحوث العلمية، تعزيز التعاون مع الجمعيات الأخرى المختصة بالأمراض العصبية، وتوعية الرأي العام حول هذا المرض. من سريري، أطلقت، النداء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كتبت أنظمة الجمعية وأهدافها، عيّنت مجلس إدارتها ومجلسها العلمي، ثم أنشأت موقعها الالكتروني ووضعت محتواه بثلاث لغات (العربية، الفرنسية والإنكليزية). وقد ساعدت الجمعية، بعد عام واحد من إنشائها، العديد من المرضى.

 

• هل تتواصل مع أشخاص يعانون المرض نفسه؟ وما الهدف من هذا التواصل؟
- بالطبع، أنا على تواصل دائم مع العديد من المرضى بهدف تشجيعهم في نضالهم ضد المرض. أحاول التخفيف من معاناتهم ومساعدتهم في حلّ مشاكلهم المختلفة، الطبية أو العملية. طموحي أن أرى شخصًا من بين هؤلاء المرضى يقول لي: أنت السبب في أنني لن أستسلم.

 

لاحقوا أحلامكم
• هل من رسالة تريد إيصالها من خلال مجلتنا؟

- أودّ توجيه عدة رسائل عبر مجلّتكم وخصوصًا إلى ضبّاط الجيش وأفراده.
أولاً، عندما تسيطر المحبة على فكر الإنسان، تزداد قوته بشكل غير محدود. إنّ الله محبة.
ثانيًا، بالأفكار الإيجابية، تصبح كل الأيام مباركة وسعيدة.
ثالثًا، إذا اجتمعت المحبة والأفكار الإيجابية، تصبح لدينا أعظم قوة في العالم.
أخيرًا، غالبًا ما أحاول التفكير بالحلول بدلا من المصاعب. وأنا أميل دائمًا إلى القول بأن هناك أشخاص أكثر تعاسة مني. أنا هنا لأقول أيضًا، مهما كانت المصاعب كبيرة، فلدينا دور نؤدّيه في الحياة طالما بإمكاننا التنفس.
لا أستطيع وضع يدي على كتفكم لطمأنتكم، ولكن يمكنني التكلّم معكم من أعماق القلب. مهما صادفتم من أهوال، يمكنكم التغلّب عليها، ولديكم القدرة على تغيير أوضاعكم وقلب المقاييس، لأن هناك قوة أعظم من القوة الكهربائية وحتى الذرية؛ إنها قوة الإرادة. لاحقوا أحلامكم حتى الرمق الأخير، أيًّا كانت أحلامكم. حياتكم مغامرة ما زالت في طور الكتابة، عليكم البدء بكتابة الفصل الأول الآن! إملأوه بالمغامرة والإيمان بالله، بالأعمال الصالحة والمحبة. وعيشوا قصتكم كما تكتبونها!