الإعلام الأمني

هلال طرابلس يقطر دمًا: الوقائع وما كشفته التحقيقات

لم يكن فطر طرابلس هذا العام عاديًا. فقبل أن يبيت هلال العيد ليلته الأولى كان ثمة من يحضّر في الظلام لمخططٍ أسود، مدفوعًا بعقيدةٍ تكفيرية. هل كان الحدث فرديًا، أم أنّه من عمل جماعة حاولت إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، على بعد أشهر ثلاثة من ذكرى عملية «فجر الجرود» التي شهدت هزيمة عسكرية موصوفة لفلول الإرهابيين بكل تشكيلاتهم؟ سؤال سوف تتولى الإجابة عنه التحقيقات الجارية.
فنكبة عاصمة لبنان الثانية تركت اثرها على رقعة الوطن, من البقاع حيث رقد الدركي الشهيد يوسف فرج، الى الجنوب حيث تعانقت برعشيت التي ضمت الى ترابها النقيب الشهيد  حسن فرحات، مع العيشية، البلدة التي توقف عداد شهدائها عند المئة مع شهيدها الرقيب في قوى الامن الداخلي جوني خليل، مرورا بقاعا بحوش تل صفية  قرية الشهيد  ابراهيم صالح، فيما ابى جبل لبنان وبيروت الا ان يشاركا في عرس الشهادة، فارشان طرقاتهما لرحلة الابطال الاخيرة.

 

خلافًا لما جاء في مسلسل التحليلات والتخمينات الكثيرة، التي بُنيت على ما حدث، والتسريبات المتناقضة التي ساهمت الأوضاع السياسية المأزومة في تأجيجها، ثمة جهد وعمل جدي بعيدًا من الشاشات والأعين، لتبيان حقيقة ما جرى وتفكيك شيفرته وألغازه، أملًا في تدارك أحداث مماثلة مستقبلًا، خصوصًا أنّ هناك من يحاول الربط بين ما حدث وما قد تشهده الساحة اللبنانية في حال حصول تطورات سورية دراماتيكية، وهو ما تعيه الأجهزة الأمنية اللبنانية جيدًا، وتعمل على استيعابه واحتوائه.
بحسب ما بات واضحًا حتى لحظة إعداد هذا التقرير، أعدّ الإرهابي المفترض العدة لتنفيذ عمليته قبل أيام قليلة، إذ عمد إلى بيع أثاث منزله لشراء دراجة نارية وكمية من الأسلحة والذخائر هي عبارة عن  رشاش «كلاشينكوف» وعدد من المماشط، إضافة إلى أربع رمانات يدوية.
وقد أوقفت القوى الأمنية الشخص الذي أمّنها له، إلى جانب عدد من الموقوفين (١٢ موقوفًا) وأحيلوا الى القضاء المختص، لتحديد خريطة تحرّك مبسوط، وما إذا كان هناك من خلية أو عقل محرّض ومدبّر أو شركاء له في ما قام به.

 

التحقيقات
نجحت الجهات المسؤولة عن التحقيقات برسم صورة واضحة لخريطةٍ تنقل المبسوط لتنفيذ «غزوته الثلاثية»، والتي انتهت به أشلاء متناثرة، ورسالة اعتذار، في شقة لجأ إليها قبل أن يُحاصر داخل بناء في شارع دار التوليد، بعد أن نفّذت وحدة خاصة من مديرية المخابرات عملية أمنية دقيقة، انتهت إلى القضاء عليه.
وبناءً للمعلومات المتوافرة فإنّ شابًا فلسطينيًا يستقلّ سيارة من نوع «بي. أم. دبليو»، تمكن من صدم الإرهابي الذي عاجله بإطلاق النار باتجاهه، ما أدى إلى إصابة الشاب بأكثر من طلقة، بينما فرّ مبسوط باتجاه البناء الذي حوصر داخله ليتحصن على سطحه قبل أن يعود ويقتحم إحدى الشقق في الطابق الرابع، والتي كانت خالية من قاطنيها.
في مراجعةٍ لبعض التفاصيل، سمحت الاستجابة السريعة للقوى الأمنية والعسكرية، بتحديد مكان وجود الإرهابي، فتمّت محاصرته، وعُمِل على تحييد المدنيين وسط ظروف دقيقة، ما أدى إلى استشهاد الملازم أول حسن فرحات وإصابة عدد من العسكريين، نتيجة التروّي خوفًا على حياة المدنيين، وتحسبًا لوجود رهائن يحتجزهم الجاني. في أي حال هذه الضريبة لطالما دفعها العسكريون مقابل حرصهم على حياة المدنيين.
في هذا السياق لا بد من التنويه بشجاعة الملازم أول فرحات، وتفانيه في أداء واجبه، فقد حاول «خلع وكسر» مدخل البناء المقابل لرصد الإرهابي وتثبيته، إلا أنّ رصاصات الإرهابي كانت أسرع، فأصيب الملازم أول، وما لبث أن فارق الحياة في أثناء نقله إلى المستشفى.
هنا يجدر التوقف عند نقطتين أساسيتين: الأولى، بينت وقائع الاشتباك الذي حصل بين القوة المداهمة والإرهابي مبسوط، أن الأخير يتمتع بكفاءةٍ قتالية لا يستهان بها، وهي نتيجة تدريبات عسكرية يبدو أنّه خضع لها في سوريا، والثانية سرعة وصول وحدات الدعم النوعية من بيروت، والتي أنهت العملية في دقائق معدودة، ما يدل على الجهوزية الدائمة، وذلك من دون أن ننسى سرعة تحرّك الوحدات العسكرية والأمنية، المنتشرة على الأرض، والتي أسهمت في شل حركة الإرهابي وحصاره، تمهيدًا للقضاء عليه.

 

كيف بدأت القصة؟
بالعودة إلى ملف عبد الرحمن مبسوط، فقد تبين أنّه بتاريخ ٦/٨/٢٠١٦، أوقفت وحدة الأمن العام في مطار رفيق الحريري الدولي، عند الساعة ٥٥،٩ دقيقة، كل من عبد الكريم علي ديب (مواليد ١٩٩٣) وزوجته عائشة إبراهيم (مواليد ١٩٩١) وعبد الرحمن مبسوط (مواليد ١٩٩٢)، قادمين من تركيا بعد ترحيلهم منها. وتبين من جوازات سفرهم أنّهم موضوع عدة تدابير تقصي بجرم الانتماء إلى تنظيمات إرهابية، فتمّت إحالتهم إلى فرع التحقيق في شعبة المعلومات لإجراء المقتضى، فيما تُركوا بسندات إقامة بالنسبة للترحيل، بناءً لإشارة القضاء المختص.
لم تتأخر شعبة المعلومات في إنهاء تحقيقاتها وإحالة الموقوفين إلى النيابة العامة العسكرية، قبل أن تصدر هيئة المحكمة العسكرية الدائمة بتاريخ ٢٠/١/٢٠١٧ حكمًا مشددًا بحق مبسوط قضى بسجنه لمدة سنة ونصف مع الأشغال الشاقة. وقد تبين أنّه لم يشارك بأي أعمال قتالية على الأراضي اللبنانية.
وكان سبق أن تم توقيف مبسوط بتاريخ ١٤/١/٢٠١٠ من قبل مديرية المخابرات، نتيجة خلاف بينه وبين أحد أصحاب الصيدليات في بلدة بطرام على خلفية تصويره للصيدلية بواسطة هاتفه الخليوي بعد رفض الصيدلي بيعه مهدئًا للأعصاب (بنزكسول) من دون وجود وصفة طبيب.
بعد الإفراج عنه بتاريخ ١٢/٩/٢٠١٧، مع انتهاء محكوميته، حاول مبسوط إيجاد عمل له من دون أن يوفّق، إلى أن حضر بتاريخ ١٦/٣/٢٠١٩ إلى مرفأ طرابلس طالبًا العمل كـ«حمّال»، إلا أنّ مراجعة ملفه بيّنت أنّه من أصحاب السوابق فتمّ رفض طلبه، ما جعله يثور شاتمًا الدولة اللبنانية، فتدخلت وحدة الأمن العام في المرفأ وأوقفته، ليتبين لها أنّ اسمه مدرج على الوثائق ٣٠٣، فتمّ تسليمه إلى الشرطة العسكرية. بعد التحقيق معه ومراجعة المدعي العام العسكري أُخلي سبيله، كونه نفذ محكوميته.
كان مبسوط، يحسب التحقيقات معه أمام المحكمة العسكرية، يعمل موظفًا مياومًا في اتحاد بلديات طرابلس. وخلال محاكمته اعترف بأنّه قرّر السفر إلى تركيا ومنها إلى سوريا للالتحاق بـ«داعش». تحدث عن صديقه محمد جابر الملقب بـ«أبو يوسف»، وبلال نعوم اللذين كانا التحقا في وقت سابق بـ«داعش» وقاتلا إلى جانبه في سوريا. وقد ضغط جابر على مبسوط وحثه على التشدد الديني مرسلًا له كل ما يتعلق بإصدارات «داعش»، وطلب منه التنسيق مع «أبو زيد» بغية تأمين سفره إلى تركيا، لكنّ الأخير لم يستجب لطلب مبسوط.
بعدها اشترى مبسوط خطًا هاتفيًا تركيًا واتصل بمحمد جابر ولاقاه إلى تركيا، طلب الأخير منه البقاء في أضنة بانتظار ما سيسفر عن تواصله مع قيادته في الرقة، كما طلب منه التريّث بانتظار تكليفه بمهماتٍ أمنية ووعده بتأمين جميع احتياجاته ومصاريفه بانتظار دخوله إلى سوريا.
بعد نحو أسبوعين من وصوله إلى تركيا أرسل له جابر إصدارًا هو عبارة عن فيديو يُصوّر دخول من خلاله نحو ٢٠٠ مقاتل إلى سوريا على مرأى من الشرطة التركية، فقام بتنزيل خدمة التلغرام بعد اعتكافه عن ذلك.
ألحّ مبسوط على جابر لمساعدته على العبور من تركيا إلى سوريا بسبب كثرة المصاريف التي يدفعها. ثم عاد وتوجه إلى منطقة غازي عنتاب وتواصل مجددًا مع محمد جابر، وأبلغه عن مكان وجوده وحاجته إلى المال فطلب منه التواصل عبر الـ«واتساب» مع «أبو الحسن»، وأرسل له صورة جواز سفره فأرسل له الأخير مبلغ ٢٠٠ دولار.
لاحقًا حضرت المخابرات التركية إلى الفندق حيث يقيم وأجرت معه تحقيقًا، فقال إنّه سائح، ثم طلب المزيد من المال من «أبو الحسن» الذي أرسل له ٢٠٠ دولار إضافية.
بعد تكرار المخابرات التركية سؤاله عن سبب وجوده، غادر الفندق محاولًا التفتيش عن سبيل للوصول إلى سوريا، فتواصل مع شخص يدعى سميح فضل ومع مجموعته، وأبلغهم بنيته زيارة سوريا بهدف «الجهاد»، فتمّ تزويده رقم هاتف شخص تركي تواصل معه وأمّن له الوصول إلى منطقة حدودية برفقة أحد الأشخاص السوريين، ثم قام أحد المهرّبين بإدخاله مع مجموعة من الأشخاص إلى سوريا سلّموا لاحقًا إلى جماعة «فيلق الشام» إحدى فصائل «جيش الفتح». وهناك خضع لدورة شرعية في إدلب، ثم تمّ اصطحابه إلى أحد شرعيي المعسكر ويدعى «أبو الفداء السوري» الذي ساعده على شراء هاتف، وتواصل مع عائلته فطلبت منه العودة إلى لبنان لكنّه لم يستجب.
تواصل مبسوط لاحقًا مع محمد جابر الذي نعته بالكافر والمرتدّ بعد إبلاغه بالتحاقه بـ«فيلق الشام»، لأنّه بحسب رأيه أي تنظيم في سوريا غير «داعش» هو فصيل مرتدّ، فقطع مبسوط الاتصال بجابر.
ومن خلال تواصله مع شاب تونسي يدعى «أبو عمر» تعرّف إلى «أبو عبيدة» اللبناني وأبلغه أنّه في صفوف «النصرة» وعرض عليه الالتحاق معه، وقد تبيّن وجود معرفة بين العائلتين المقيمتين في طرابلس.
كما تواصل عبر «الفايسبوك» مع «أبو هريرة» أي بلال نعوم صديق «أبو عبيدة»، الذي أنّبه لالتحاقه بـ«النصرة»، طالبًا منه الالتحاق بـ«داعش»، وواعدًا إياه بمدّه بالمال اللازم شرط استلامه من شخص يدعى «أبو أسامة» حقيبة متفجرة يضعها في مقر «أبو عبيدة» ويفجّرها. وافق مبسوط على ذلك بدافع رغبته بالمال، وقد سأل «أبو عبيدة» لاحقًا عن سبب خلافاتهم مع «داعش» فأكد له أنّ السبب شرعي وشخصي مع بلال نعوم. عندها أبلغ مبسوط «أبو عبيدة» بما يريد فعله بلال نعوم به، فطلب منه إيهام الأخير بعدم إخباره لحين وصول المرسَل من قبله «أبو اسامة» والقبض عليه.
وهكذا حصل إذ قامت مجموعة «أبو عبيدة» بتوقيف أسامة عندما حضر لتسليم الحقيبة ومبلغ ١٧٠٠ دولار لمبسوط الذي طُلِب منه مغادرة المقرّ والعودة إلى تركيا، ومنها إلى لبنان عن طريق مهرّبين، ثم قامت السلطات التركية بترحيله إلى لبنان بعد التحقيق معه.

 

المعركة مع الإرهاب طويلة
تؤكّد المعطيات الأمنية أنّ الاعتداء الإرهابي هو موضع تحليل ومراجعة لتحديد الثغرات، بعدما هدأت النفوس، مشيرًا إلى أنّ ما حصل أمر وارد في أي لحظة، وذلك سواء أكان عملًا فرديًا ناجمًا عن ظروف معيشية واجتماعية، وهو ما يتكرر بكثرةٍ في السنوات الأخيرة حتى في أكثر الدول أمنًا من الولايات المتحدة الاميركية إلى أوروبا، مرورًا بنيوزيلندا، أم كان في خانة عمليات «الذئاب المنفردة»، وهو ما عجزت عن مواجهته حتى الساعة أكثر الدول تطورًا على الصعيد الأمني.
إنّ المعركة مع الإرهاب طويلة، وجولاتها عديدة، وبعض مواجهاتها مكلفة، وعلى اللبنانيين أن يعوا جيدًا أنّ الحرب مع الفكر التكفيري لم تنتهِ ولن تنتهي قريبًا، خصوصًا في ظل البيئة المعقدة التي تعمل ضمنها المجموعات الإرهابية بكل مسمياتها، والتي قد تجد تعاطفًا في بعض المربعات الجغرافية من المخيمات الفلسطينية ومخيمات النازحين السوريين.
إنّ عين القوى العسكرية والأمنية ساهرة للحفاظ على الأمن والاستقرار، وهي تعمل بكل طاقاتها لمتابعة الإرهابيين والضالين ورصد كل التحركات المشبوهة، في إطار التنسيق فيما بينها، وبالتعاون مع قوى المجتمع المدني، مذكّرًا بأنّ الحرب الاستباقية التي تقودها الجهات الأمنية قد نجحت في منع وقوع عشرات العمليات الإرهابية. كما أنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية باتت تملك كل الإمكانات والوسائل التي تسمح لها بحسم المعركة في النهاية لمصلحتها، بأقل كلفة ممكنة، مؤكّدة للّبنانيين أنّ حماية الوطن تبقى فوق كل الاعتبارات أيًا كانت، وأنّ أفراد القوى المسلحة اللبنانية جاهزون للتضحية متى دعا الواجب كما عهدهم اللبنانيون على الدوام.
مرة جديدة، يدفع العسكريون ضريبة غالية فداءً عن كل الوطن، في درب جلجلة بدأ منذ معركة الضنية (٢٠٠٠)، ولم ينتهِ بسقوط المجموعات الإرهابية عسكريًا (٢٠١٧)، مرورًا بحرب البارد وما تبعها من سلسلة تفجيرات إرهابية استهدفت اللبنانيين الآمنين منذ ٢٠١٤. درب يشق طريقه المسقيّة بالأحمر لتنبعث حياة جديدة لوطنٍ يستحق الحياة.


بطاقة إرهابي

الإسم: عبد الرحمن خضر مبسوط.
اسم الوالدة: نظيرة.
مواليد: ١٩٩٢.
سجل: ١٩٨.
الجرم : إرهاب.
تاريخ صدور الحكم ومضمونه: ٢٠/١/٢٠١٧، الأشغال الشاقة سنة ونصف.
تاريخ إخلاء السبيل: ١٢ / ٩ /٢٠١٧.