بلى فلسفة

هلموا... الى الطّرب
إعداد: العقيد اسعد مخول

رأيت في ما رأيت، بإحدى المرات التي سلّمت فيها نظر العينين لشاشة التلفزيون، رجلاً كاشفاً نصفه الأعلى وحاجباً نصفه الآخر وقد ربط قطعاً من القماش الملوّن حول جبينه وزنديه. وكان أمامه طبل كبير يضرب عليه ضرباً مبرّحاً، موجّهاً من خلاله تحذيرات متتالية لامرأة مجاورة تصرخ متألمة شاكية نادبة متأثّرة متواجدة. كان الرّجل ينظر الى جارته من وقت لآخر بشراسة ووحشية وكأنه يتمنّى وجودها في داخل الطّبل تحت ضربات ساعديه، خالية جوفاء مجوّفة يبلغ صداها الأرجاء المحيطة، أو كأنّه يتمنّى وجود الطّبل في داخلها هي فتبدو بفضله منتفخة مكوّرة ملأى، مكتومة الصدى مخنوقة الأنفاس تنتظر لحظة الانفجار والتمزّق والتفجّع والهلاك، تصرخ بالحلق واليدين والقدمين، وتستغيث مولولة وكأنها في الرّمق الأخير من الحياة، طالبة من صاحبها، ومن صاحبنا، أن يتقدم منها ويضربها على قفاها بعصاه الغليظة تلك، فتصحو من جديد وترى أنها لا زالت تحيا على سطح الأرض مثل باقي المخلوقات، وتسأله عند ذلك عن مصدر الجلد الذي يربطه على طبله، والذي تمكّن بواسطته من بلوغ هذا الإبداع الفني، فيقول لها: سلخته عن جسد أخت لك من بنات حواء، جفّفته فوق نار أشواقي ولهيب مشاعري، وربطته بعروق فؤادي، فارقصي واطمئني، ليس في الأمر شيء غريب، وإن تمزّق هذا الجلد فجلدك أنت هو البديل. إنه من خير أختك، وأنا عاشق الاثنتين، أنت وهي. واعلمي انّه لن يهدأ لي بال إلا إذا ضربت جلدك وجلدها، وضربت نفسي، وضربت العلم والفهم، والقريب والبعيد، في الأمس وفي اليوم، وفي الغد أيضاً، بالشكل الذي لا يحلم به أي فنان من غير مستوى فنّك وفنّ أختك... وفنّي أنا في كلّ حال. وتنحني المغنية الفنّانة، صائحة شاردة ممزّقة، أمام زميلها. ثم تضع الكفّين على الأرض فتصبح وكأنّها على أربع. تخفض البطن وتلحق به الظهر، إلا أن رأسها يبقى ساعياً الى الأعلى، يقابله رأس ثان خلفي يرتفع هو الآخر، لكن، لا يُعرف، في ذلك كلّه، أيّ من الرأسين فارغ وأيهما ملآن... والمسألة مشرّعة على كل احتمال!
تُواصل ابنة التلفزيون انتظار أن ينهال عليها رفيقها بالضرب، يؤدبها، يطهّرها مما تبقّى من محاسنها، ومن مآثرها على الفنّ والانسانية، لكنه يهدد ولا يفعل... يتمهلّ ويؤجلّ... فلا تلبث هي أن تنتصب واقفة مرعوبة مُرعِبة، صارخة نازعة ما تبقى من ثيابها... ويختفي المشهد من الشاشة كلياً، فيظنّ المشاهد أن عطلاً قد حصل. لكنّها حالة جديدة تظهر، روادها كثر هذه المرة، يختلط فيهم النابل بالحابلة، والنابلة بالحابل، ويشترك الجميع في الضرب والصراخ... ويعمّ السّلام!
ويستلطف مغنٍ من نوع آخر أن يبوح بإحدى أغانيه الزائلة بأسلوب مختلف، فيتقدّم من حبل مشنقة ويربطه حول رقبته. لعلّ هذا الفنّان يريد القول أن بلعومه يستطيع الصراخ والغناء حتى ولو كان تحت تأثير الشدّ القاتل الذي لا فكاك منه. أو لعله يريد القول أنّه عاشق متيّم ولهان متأثّر ملوّع مسكون بالهواجس والوساويس والظّنون والأفكار المخيفة والتخيلات اللعينة، وأنّه مربوط مقيّد مقهور مهدّد ينشد الحريّة ويطلب النجاء. أو لعلّه عُدم سبل التعبير فاستدعى مشهد الإعدام والموت الذي قد يلفت المشاهدين الى ضرورة التجمع والاعتصام والتظاهر لإنقاذه وإنقاذ فنّه من السقوط المحتّم. لكن، ألم يكن لدى مغنّينا هذا، أو لدى كاتبه وملحّنه ومصوّره ومرافقه، أو مرافقيه من الذكور والإناث، أيّ ذرة من الذوق والإحساس بحيث ينتبه هو وينتبهون، الى أنّ في ذلك أذى في الشعور وأذى في العاطفة للناس في كل مكان، من ذوي المعدومين "المموّتين" الى ذوي طالبي الموت الآمرين به، تحت أقواس المحاكم أو في المغاور والأدغال، مظلومين كانوا أو ظالمين؟ ألم يكن لديه، أو لدى من يحيط به من المحبّين والمعجبين والعاشقين والمفيدين والمستفيدين أيّ علم حول صعوبة الإعدام، وصعوبة إصدار الأوامر به، وحول قساوة التقاليد والأعراف والأنظمة الملزمة المحيطة به؟ أليس من رهبة للنّهاية عند هؤلاء، خصوصاً إن كانت مقررة متوقّعة باسطةً ظلاً سميكاً محتّماً أين منه ظلّ الطائرة التي تهبط، أو الصخرة التي تهوي أو عاصفة الرّمل التي تهبّ؟
ويفلت مغنّينا المقهور من المقصلة الشنيعة تلك، ويسرع الى البعيد كالمجنون، فإذا عربة تنفجر، وزجاج يتساقط، ونار تندلع وتنتشر في كلّ مكان، وإذا نسوة يصرخن ويولولن وأطفال يبكون ويهربون. وينطلق هو من خطر الى خطر، يضرب على جبينه من هول الفواجع، ويستمر مندفعاً من دون تحديد للهدف، الى أن يتوقف فجأة. يلتفت، يفتش عن حبيبه من دون جدوى، ثم يتكئ الى أحد الجدران المهدومة ويغنّي، ويغنّي كثيراً... حالماً بالعصا نفسها التي كانت مع زميله، يضرب بها الطّبل والنّغم وكل ذي أذن وعين، متابعاً مسيرة الفنّ الى النّهاية... لقد كنـت أعـرف في الريـف عصا مثل هذه، فيها كثير من الغلظة وقلـيل من الانحـناء لكي تؤتي النـتيجة بين يدي الفـلاّح هنـاك في ضــرب "عرانيس" الذرة وفصـل حبات الخير فيها عن الهياكل الخشـبية الصغـيرة. لم تكن آلات الميكانيك قد "تفضّلت" آنذاك وعرضـت خدماتـها الجلـيلة في الزرع والحصاد. كان يتم تجميع الغلال في غرفة مقفلة أشبه ما تكون بغرفة تأديب زراعـي وفقاً لقوانين الطبيعة، وكان العرنوس حين يفلت من العصا ينطـلق هارباً، لكنه يصطدم بالـسقف أو الجدار، ويعود الى حيث كان. يحاول الهرب ثانية وثالثة... لكنه خلال ذلك يكون قد خسر حباته واحدة تلو الأخرى، فيتم العفو عنه، ويفصل عن كومة الحبات اللامعة الطيبة، ويرمى عارياً حزيناً في إحدى الزوايا.
ولا يجـمع عصاي تلك الى عصـي أصحابنا الفنانين الموسيقيين الموهوبين إلاّ الضرب المبرّح، الذي لا تساهل فيه ولا هوادة، في "الغرفة الفنية الصغيرة" التي يجري فيها تجريد الأعمال الفنيّة من كل حس رهيف، قبل نشر مشاهدها أمام العالم بأسره. ويطمئـننا البعض عندنا الى أن هذه "الغرفة الفنية" لا تشكل خطـراً على الثقـافة والذوق، ولا تقف عائقاً في درب القلم والورقة والكتاب، ولا تقتنص من المشاهدين ساعات وساعات للاطلاع على ما يمكن الحصول عليه في دقائق. ويتلهّى آخرون في البحث عن الترجمة المناسبة لاسمها: أهي تلفزيون، أم تلفاز، أم شاشة فضية ناطقة...؟ وقد انطلق مروّجوها من وراء ظهور الجميع، ونشروها في كل مكان متاجرة بالأعياد، وتلاعباً بالأفراح، وتلهّياً بالأحزان، وتعديلاً للتربية، وتشويهاً للثقافة. يرقص فيها الرّاقصون، ويثرثر المفكرون، ويطبخ الطابخون ويأكل الآكلون، ويتبرّج المتبرّجون، ويبرّج المبرّجون، ويصـفّق المصفّقون "تصفيقة" كبيرة أو "تصـفيقة" صغـيرة وفقاً لدعـوة البهلوان المسؤول، إذ أن الدقّة في العمل هي "الشعار". ناهيكم عن الإعلانات والمروجات التي يحشر أصحابها الأنوف في كل موضع، فتلك صوَر عن طعام للكلاب تتخلّل برنامجاً يدعى ثقافياً، وتلك صوَر عن تنظيف الأجساد بالصابون وما إليه تضـاف الى برنامج يعرض للدين، وتلك صوَر عن مرابع اللّهو الهرج تسبق كلاماً ينعى فقيداً أو يأسف على راحلة... وإن أنصـت اليكم أحد أسرى هذه "الغرفة الفنية"، وسايركم ورحّب بكم وقـبّل وجناتكم وعـشق اجسادكم وأرواحـكم، فإنه قد يوزّع انتباهه مناصفة بينها وبينكم. وإذا أعلن الغضـب عليـها لأنها قد تلهيه عنكم فإنه قد يبدل برنامجـها ببرنـامج آخر، أو قد يخـفّف صوتها ويكتـفي بصورها المتلاحقة كتلاحق مياه الأنـهار وطبقات الغيوم. لكنّه يستمر يراها ولا يراكم، مكتفياً بسماع أصواتكم وكأنّكم تزورونه عبر الهاتف. والمكالمة الهاتفية بأي حال تترك للمتكلمين كل حرية، فقد يتمكن الواحد منهم، أو الآخر، من أن يكون في الصالة، أو في السرير، أو في القفص، أو في المرحاض، أو على السطح، أو قد يكون منشغلاً بتفقّد أجزاء جسمه بطناً وظهراً وساقين في هذا الوقت الضائع، من دون أن ينقطع عن إعلان المحبة لمحدّثه: إيه، نعم، مشتاق إليك، دعني أراك، أنقل سلامي الى الزوجة والأطفال...
 
إنّني أعلن الهزيمة المتكرّرة أمام هذه "الغرفة الفنية"، وأعترف بقوّتها ومكانتها ونجاح أدائها وانتصارها على عيون النّاس وعلى عقولهم.. لكنني لن أرفع لها راية الولاء، ولن أسلّمها انتباهي!