مقابلة

هل أفلست المصارف فجأة؟
إعداد: حوار: تريز منصور

الوزير السابق جورج قرم: الفوضى المطلقة تعمّ لبنان والحل في لجنة تحقيق
 

كيف وصل الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان إلى ما وصل إليه؟ ما هي السياسات الخاطئة التي قادتنا إلى الانهيار الكارثي، وكيف يمكن النهوض؟ هذه الأسئلة حملناها إلى وزير المالية الأسبق الدكتور جورج قرم. فماذا يقول حول الواقع الصعب والقلق المتصاعد؟
في ما يأتي نصّ الحديث:


• ما هي العوامل التي أوصلت الاقتصاد اللبناني إلى هذا الواقع الخطر؟
- الوضع الاقتصادي والمالي المتردّي اليوم، هو نتيجة سياسة التقشف الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومة المستقيلة منذ نحو السنتين، بدلًا من مساندة الاقتصاد من خلال زيادة الإيرادات الضريبية، كي ترتفع إيرادات الدولة بدورها.
أضف إلى ذلك، السياسات التي اعتُمِدت منذ بداية التسعينيات، والتي حوّلت لبنان إلى مجرّد ساحة مالية منحرفة. فقد كان الأثرياء يقترضون الدولار بـفائدة ٦ و ٧٪، ويوظّفون الحصيلة بسندات خزينة بالليرة اللبنانية وصلت الفوائد عليها إلى ٤٥٪ ما بين العامين ١٩٩٤- ١٩٩٨. وهذا ما أدّى إلى مشكلة المديونية العامة، التي تفاقمت عبر السنين من دون معالجة أو أي تدخّل من البنك المركزي للقضاء على هذه الظاهرة الشاذة.
وتابع الوزير قرم: إنّ سرّ مديونية الدولة ناتج عن هذه السياسات الخاطئة التي نُفّذت تحت إشراف البنك المركزي، وهو بدوره أساء التصرّف. بينما حقّق القطاع المصرفي اللبناني أرباحًا طائلة وبات حجمه يمثّل أربع مرات حجم الاقتصاد الوطني. وهذا ما سبّب انكماشًا كبيرًا في معدلات النمو. فقد بقيت هذه المعدلات متدنّية، بينما كان من المنتظر أن تبلغ ما بين ١٠و١٥ ٪ سنويًا، خلال فترة إعادة الإعمار بعد الحرب الطويلة المدمّرة ( ١٩٧٥- ١٩٩٠).


مليارات مهدورة
وأضاف قائلًا: قدّرت شركة Bechtel، وهي من أشهر الشركات للاستشارات الاقتصادية، كلفة إعادة بناء البنى التحتية بمليارين ونصف مليار دولار. لكنّ هذا التقرير وُضع جانبًا وطُلب من مجلس الإنماء والإعمار وضع خطّة، فكانت خطّة «آفاق ٢٠٠٠» بكلفة ١٨ مليار دولار، وهذه كانت المصيبة الكبرى، إذ كلّفت عمليات الإعمار مبالغ طائلة، وذهب جزء منها إلى جيوب المقاولين المقرّبين من الحكومة، وإلى مجلس الإنماء والإعمار. بالإضافة إلى ذلك ارتُكبت أخطاء أخرى مثل السماح لمجلس الإنماء والإعمار بتولي جمع النفايات ومعالجتها، فتأسّست شركة سوكلين من أجل ذلك، خلافًا للقانون الذي ينصّ على أنّ البلديات هي المسؤولة عن هذه الوظيفة.
أُنشئت سوكلين برأسمال ١٥ ألف دولار فقط، وبدلًا من أن تعقد اتفاقًا مع وزارة الداخلية والبلديات وفق القانون، كان الاتفاق مع مجلس الإنماء والإعمار الذي مُنح صلاحيات وسلطة بشكل مخالف للقانون والمنطق، وكانت قيمة العقد ٦٠ مليون دولار سنويًا. هذا مثل من عدّة أمثلة تُظهر كيف تمّ نهب أموال الدولة اللبنانية.
شركة سوليدير مثل آخر، مع هذه الشركة تمّ التعدّي لأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية على الملكية الخاصة، فقد وضعت يدها على أملاك المواطنين وأرزاقهم واستملكتها بأثمان بخسة، وارتكبت «مذبحة تراثية» بتدمير مئات المباني التراثية الجميلة بحجّة إعادة الإعمار.
كان بالإمكان ترميم جميع هذه الأبنية، كي تحافظ بيروت على طابعها المعماري التاريخي العثماني – الفرنسي، من خلال توفير الدولة والمصرف المركزي القروض الميسّرة للمالكين. أما ما حصل فكان القضاء على جزء كبير من تاريخنا المعماري، لتحلّ مكانه أحياء جديدة بعيدة جدًا بهندستها عن النمط المتوسطي الذي كنّا ننتمي إليه.
وفي ما يتعلّق بالاستثمارات الأجنبية التي تدفّقت إلى لبنان في ذلك الوقت، أكدّ الوزير قرم أنّنا لم نكن بحاجة إلى استثمارات أجنبية، على اعتبار أنّ لبنان يضمّ ثروات كبيرة، إضافة إلى ثروات الكثير من المغتربين المحقّقة في منطقة الخليج العربي.
وتابع القراءة في الأسباب التي أوصلت الأوضاع إلى ما هي عليه، فقال: من أخطاء الحكومة آنذاك إنشاء وزارة للمهجرين عوّضت عن المنازل المدمَّرة من دون التعويض عن المصانع المدمَّرة في تلك الفترة. يضاف إلى ذلك بروز ظاهرة شاذة هي تخفيض ضريبة الدخل إلى مستوى غير طبيعي راوح ما بين ٢٪ و١٠٪. هذا الأمر لم يحصل في أي دولة في العالم خارجة من حرب مدمّرة دامت زهاء ١٥ عامًا. كان من الضروري يومها فرض ضريبة استثنائية على من استفاد من الحرب، كما حصل في عدّة دول.
كل هذه الحقائق، أسّست لنمط اقتصادي مزيّف اعتمدناه طوال ثلاثين سنة، والنتائج المدمّرة أمام أعيننا.


نحن في قلب الانهيار
• ماذا عن الوضع الاقتصادي والنقدي اليوم؟
- نحن اليوم في قلب الانهيار الاقتصادي والنقدي، نتيجة السياسات التي اتُّبعت منذ نحو ثلاثين عامًا، والتي حذّرنا منها طوال الوقت وكتبنا عنها مئات المقالات والكتب.
الواقع الحالي، وما يحصل في القطاع المصرفي، يتطلب لجنة تحقيق مؤلفة من خبراء مال ومدقّقي محاسبة محليين ودوليين، لمعرفة حقيقة ما حصل.
فالمصارف وضعت ٨٪ من موجوداتها في المصرف المركزي بشكل شهادات إيداع، والهندسات المالية أمّنت للقطاع المصرفي أرباحًا ضخمة. وبالتالي ثمّة أسئلة جوهرية تُطرح اليوم، ماذا حصل للقطاع المصرفي اللبناني؟ وكيف نسمح بأن تُمارس هذه الديكتاتورية تجاه المودعين؟ هل أفلست المصارف والمصرف المركزي بين ليلة وضحاها؟ هل أفلس الإثنان معًا؟
وتابع قائلًا: كل التقارير المصرفية المصدّقة من قبل مدقّقين للحسابات تشير إلى أنّ أوضاع المصارف كانت ممتازة، فهل أفلست فجأة؟ كيف ولماذا؟ هل حوّلت جزءًا من أموالها إلى الخارج؟
لا نملك الحقيقة، طالما أنّنا لا نملك المعطيات الكافية. لكن من دون أدنى شكّ أنّ البنك المركزي في الثلاثين سنة الأخيرة، تدخّل وتوغّل في جميع القطاعات في الاقتصاد اللبناني، بدلًا من التركيز الحصري على الأمور النقدية، مع الإشارة إلى أنّه تمّ العمل على تثبيت سعر صرف الليرة، بدلًا من اعتماد سعر صرف عائم ضمن حدود تسمح بالمرونة الكافية، وتعطي إشارات مُسبقة عن نشوء مشكلة في الميزان المدفوعات. لذلك، فإنّني أرى أنّه من الضروري تعديل نظامنا النقدي، وربط سعر الصرف ليس فقط بالدولار الأميركي بل بسلّة من العملات التابعة للدول التي نتاجر معها بشكل رئيسي (دولار، يورو، يوان، استرليني...). وهكذا يصبح اليورو وغيره من العملات الرئيسية الداخلة في السلّة، نظرًا لكثافة تجارتنا مع دول الاتحاد الأوروبي (والصين مؤخرًا)، في حين أنّ علاقة لبنان التجارية بالولايات المتحدة الأميركية ليست ذات أهمية.
خلال السنوات الثلاثين الماضية تمّ التشجيع على التعامل بالدولار الأميركي وبات اقتصادنا مدولرًا، خلافًا لما كانت عليه الحال في الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي.


دين بالإكراه
وفي عودة إلى الدين العام، قال قرم: خرج لبنان من حرب مدمّرة بدين داخلي قيمته مليار ونصف مليار ليرة لبنانية. لعبة الاستدانة بالدولار، والتسويق بسندات خزينة بلغت فوائدها سقف الـ٤٥٪ في العام ١٩٩٥، هما المسؤولان عن تراكم الدين وبلوغه مستويات خيالية نسبة إلى الناتج المحلي.
هذا الدين العام هو دين بالإكراه على خزينة الدولة، وبالتالي يجب إعادة النظر فيه بشكل يتيح التراجع عن الفوائد المجنونة.
وأضاف: إنّ الوضع اليوم سيّئ للغاية، فالفوضى المُطلقة تعمّ الأسواق، ولليرة اللبنانية عدّة أسعار مقابل سعر صرف الدولار ونحن سائرون نحو الهلاك، إذا لم يتمّ استدراك الأمور بشكل منطقي، وهذا يحتاج إلى بنك مركزي وحكومة.
وعن سوق الصيارفة وسعر الصرف الموازي قال: إنّنا نعيش في (عصفورية)، وللبنك المركزي السلطة القانونية المطلقة على هذا السوق، وبالتالي لديه القدرة على ضبطه.
في ما يتعلق بإمكان توسيع مصرف لبنان حلقة القطاعات المستورِدة بموجب التعميم رقم ٧١٤٤ الذي أصدره، شدّد على أنّ هذا الأمر يقع ضمن مسؤولية وزارة الاقتصاد والتجارة، فالبنك المركزي ليس سلطة تجارية. وأشار إلى أنّ الصين قد تكون المصدر الأنسب للاستيراد في هذه الظروف الصعبة.
واعتبر أخيرًا أنّ الواقع سريالي والأسواق «مكربجة»، وقد يكون هذا الوضع جزءًا من مؤامرة إقليمية في الصراع بين إيران والولايات المتحدة. ومن دون لجنة تحقيق وتدقيق مالي في ما حصل، لا يمكن تصوّر حلّ مناسب للخروج من الأزمة. إنّ جميع الاقتراحات اليوم هي اقتراحات ملتوية وعشوائية، وللخروج من هذه الأزمة الخطرة، يجب الإسراع في إيقاف إفلاس المؤسسات التجارية والصناعية، ودعم القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية والبدء بالتصدير، ودفع متأخرات كل القطاعات (مستشفيات، استملاكات، متعهدين...). وإذ أكد أنّه لا خوف على رواتب القطاع العام، أقرّ أنّ لبنان بحاجة اليوم إلى مساعدات خارجية.