نافذة

هل سمعتم يومًا بعينٍ تغنّي؟
إعداد: روني ألفا

عزَفَت عينُكَ أوبريت العتمة على كَمنجاتِ الوطن. فقأها حجرٌ صديق. من أجلِ لبنان تُصادِقُ عيناك الحجَر. أغمضتْ جفنَك رَميَةٌ من دون رامٍ. أغلقت وَجَعًا لا يسري عليه مرور الوطن. عينٌ مسبيَّةٌ ما زالت تسهر على جرحِ وطنٍ ينزّ.
في وجهك المتّكئ على وسادةِ عَلَم تجاعيدُ حبٍّ أسطوري وفِي صمتك يورقُ بستانٌ مهجورٌ مزروعٌ بصرخة مجد وتنهيدةِ وفاء. أيها المقهور حتى البؤبؤ والمسروق من متعة الحقول. حجرٌ ضلَّ طريقه واستقرَّ على قرّة عينك. دعنا نلمّها برموشنا. دعها أعيُنَنا تُعِرْكَ متعةَ التمتّعِ بشَرقَةِ شمسِ جبلِ الشّيخ وغروبِها على بحرِنا المتلاطمِ صخبَ حريّةٍ وانعِتاق.
حاسّةُ النّظر عطّلَها جُلمود. اقتلعها حجرٌ صديق. رمادًا صارت عينُكَ التَقَطتها تصيرُ لؤلؤة. على حافتها يتدلى عقدُ وفاءٍ أقسمَ يمين السياج. عينٌ غادرت مقلَتها يسبّحُها ضوءُ القمر ويغسِلُها صابون عشقٍ بلَدي. تواكبُ عينَكَ بسمَلةٌ وحمدَلَةٌ وهي تسيِّرُ دوريةَ شرف فوق تضاريس الوطن. يا جندي الجفن المنكّس ابكِ بعينٍ واحدة على حجرٍ ضلَّ طريقه فاستقرَّ في مآقي شعبٍ ينتظركَ بلا هَوادَة في شوارِع أحلامِه المُجهَضَة.
عينُكَ نزَفَت حقولَ تَعَب وكرومًا من عِنبٍ أشقَر. صارت وليمة ولا أشهى على مائدة صلواتنا. أرضٌ تحب العيون وتعشق دم الأبطال إذا الأبطال غفَوا. أنتَ النظرةُ المَنسية. يراك فقط من يعشقُ هديل العَلَم وكم كثروا في زمن احتجاب الرؤى وجراد الضباب الزاحف إلينا كعاصفة كوابيس. وحدَها عينُك تعلو على حاجبها وهل تُحجَبُ عينٌ نظّارةٌ إلى شواهق أحلامِنا؟ عينٌ تنام يا بطلَ كلِّ شيءٍ ممكن. عينٌ أخرى تحدّقُ في أي شيءٍ مستحيل.


بعض العيون لا تُسدَلُ. تستحي منها قَساوَةُ الحجر. تحرسُ الحقول من ذئبِ الفتنة وغولِ الغريزَة. عينان يمزّقهما الواجب فتنبتُ في مهدَيهما المُعتِمين حنجرةٌ صَدِحَة. لكلِّ جندي عينٌ تغنّي. وحده حباه الله بصوتٍ في العيون. هل سمعتم يومًا بعينٍ تغنّي؟ إنها عين الجندي تزغردُ وسطَ عذابات الليل السحيق. يكفي أن تُغازلَ نسيمَ الصباح عينُك المطفأةُ لتشرقَ شمسٌ ويتوهَّجَ نورٌ وتتلألأَ نجوم.
عينُك تسكنها الظلال. عتمةٌ مُفَونِسَة من لمعةِ ضوء التلال. رفاقٌ لكَ فقدوا ذات يومٍ فِلذة جسد. أطرافُهم دُفِنَت كما تُدفَنُ وردةٌ ذَوَت في صفحةٍ مباركةٍ من إنجيل متى. كما يعبقُ البخورُ من سورةِ مريم. الجنودُ أطرافُهم زرِعَت في الوطن حتى لا يثورَ فيه طرفٌ على طَرَف.
الحجرُ كَفيفٌ قصيرُ النَّظَر. فقَدَ بصرَه والبصيرة. سافرَ في المتاهة واستقرَّ في عينك الحارسة. أكشفُهُ جفنَك المُحتَجِبَ في لحافِ الآخ. أعشقُ فيه حباتِ الزيتون الداكنَة وهَدْأةَ ليلٍ مهيب على الحدود وبقايا كحلٍ مطيّبٍ بعِطر العِطر. فوقه جبينٌ يجوعُ إلى الزئير إذا الخَطَرُ دهَمَ وَوَغى. فيه تخمةُ مجدٍ وشهيةٌ للموت المقدس بزغاريدِ الأحبّة. من حجرَةِ عينك الدامسة يلتمعُ النورُ من الطَّحالب ويحتفلُ البحرُ بكل زبدِه الفخور وأمواجِه المتلاطمة.
كلماتنا في مدحِ عينيكَ رغوةٌ متبَخِّرَة وفقاعاتُ لغةٍ رثّة. إذا رمقتَ الخوفَ شطبْتَهُ بمِمحاة الرِّمش. تنظرُ إلى خطرٍ مُحدِقٍ فلا يخاطرُ بالتَّحديق فيك. وأنتَ في حالِ استراحةٍ لا يمازحُك الدم ولا يُخاويكَ النَّوم. يسيلُ القاني على وجنتك وقورًا. يعتَذِرُ من لونِه. تبقى جامحًا في تعبِك المتناسِلِ كالولادَة ومستهابًا في غطيطِ المقلة. عينُ الله ترعاك. تستضيفُ رأفتُه وجهَك النَّعِسَ كضمّةِ أُمّ قبل طقسِ رِضاعَة. تدغدغُ جرحَه بتعويذةِ أرزةٍ تتواقَحُ على تقادمِ الأيام. أما أنت فتُبقي جرحَك النّازِفَ بلا طبلٍ يطنّ ولا زمرٍ يرنّ. عينُكَ رغيفٌ من طحينِ الواجب وعجينِ الطاعة. عينُك تلك فَيلَقٌ يرابضُ فوق سنّ الرُّمح وكَتيبَةٌ مِن السَّهَر على الآتي من الأيّام.