مواضيع ساخنة

هل لدينا ما يكفي من القوانين لمكافحة الفساد؟
إعداد: تريز منصور

محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة مطلب موحّد للّبنانيين، وهذا المطلب وإن لم يكن ابن الأوضاع الحالية، فإنّ هذه الأوضاع جعلته أولوية الأولويات بعد أن وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.
في هذا السياق يُطرح سؤال أساسي: هل لدينا من التشريعات ما يتيح مكافحة الفساد أم أنّنا بحاجة إلى إقرار قوانين جديدة؟


يوضح الدكتور وسيم منصوري (محامٍ ومدير الفرع الفرنسي لكلية الحقوق والعلوم السياسية) لمجلة «الجيش» أنّ ثمّة قوانين جيّدة متوافرة اليوم في لبنان، ويُسهم تطبيقها في مكافحة الفساد. من هذه القوانين قانون العقوبات اللبناني، فالمادة ٣٥٠ منه تقدّم تعريفًا شاملًا لدور الموظف أو كل الذين يقومون بخدمة عامة، سواء كانت لقاء بدل أو من دونه، ما يعني أنّ ثمّة إرادة لتوسيع الرقابة على كل من يعمل في الشأن العام. كما تتناول ملحقات هذه المادة الرشوة والاختلاس والاستثمار الوظيفي، وثمة أحكام تتعلّق بالجنح والجنايات. وبالتالي يمكن اعتبار هذا القانون كافيًا لمحاسبة كل من يسمح لنفسه بالتطاول على المال العام.

 

قانون الإثراء غير المشروع
وتابع الدكتور منصوري: بالإضافة إلى قانون العقوبات، هناك قانون الإثراء غير المشروع الصادر في العام ١٩٩٩، والذي لم يأخذ مجاله في التطبيق كما يجب، نظرًا لشروط رفع الشكوى التي تقضي بدفع المتقدم بها كفالةً عالية قيمتها ٢٥ مليون ليرة لبنانية، وفي حال عدم إثبات التهمة، يدفع غرامة عالية ويدخل السجن لمدّة ثلاثة أشهر كحدٍ أدنى.
هذه الشروط التعجيزية تبدو وكأنّها وُضِعت لمنع المواطن من التقدم بشكوى تتعلّق بقضية فساد. لكن إذا عُدنا إلى المادة العاشرة من القانون نفسه، يتبيّن أنّه يحق للنائب العام تحريك دعوى الحق العام من تلقاء نفسه، بناءً على إخبار وصله، أو سماعه إخبارًا عبر التلفزيون أو سواه ( كما في التظاهرات الحاصلة اليوم)، وبإمكانه البدء بالتحقيق أو الملاحقة استنادًا إلى هذا القانون.
وبالإضافة إلى هذين القانونين، هناك القانون ٤٤/٢٠١٥ المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال، وهو يفتح مجالًا لملاحقة كل من يتمّ الإدعاء عليه، أو محاكمته بجرم من جرائم الرشوة والاختلاس والتهرّب الضريبي وغيرها، ممّا يتيح رفع السرية المصرفية السابقة واللاحقة. وبالتالي، فإنّ المنظومة القانونية التي تشمل القوانين الثلاثة المذكورة إضافة إلى اتفاقية الفساد الخاصة بالأمم المتحدة، والتي صادق عليها لبنان في العام ٢٠٠٨ تسمح بـ:
تعريف جميع العاملين في الشأن العام، ومعاقبتهم على جرائم عديدة حدّدتها القوانين، والكشف عن السرية المصرفية عن حساباتهم، ومصادرة الأموال المنهوبة أو المسروقة.

 

تطبيق المنظومة القانونية المتوافرة
وبالتالي، علينا تطبيق المنظومة الموجودة في حالة أي جرم من هذه الجرائم، وخلال التطبيق، قد تظهر لدينا بعض الثغرات، عندها يمكننا اللجوء إلى تعديل هذه القوانين. أمّا اللجوء كما يُحكى اليوم إلى إعداد قوانين أو محاكم جديدة، فهو عملية هروب نحو الأمام من واقع لم نتمكن لغاية اليوم من تجاوزه، وهو ملاحقة أصحاب الحصانات. فإنشاء محاكم مؤلفة من قضاة منتخبين من النواب في بلد كلبنان، أمر أثبتت التجارب السابقة عدم فعاليته.

 

اقتراحات قوانين جديدة
وأضاف الدكتور منصوري، ثمّة اقتراح آخر كان قد ورد في مجلس النواب وهو إنشاء هيئة لمكافحة الفساد، يترأسها وزير مكافحة الفساد، ويكون وزير العدل نائبًا للرئيس، إضافة إلى مجموعة أعضاء. والمهمّ قوله في هذا المجال إنّه لا يمكننا الربط بين العمل السياسي ومكافحة الفساد. فالجو العام يدعو إلى الفصل التام بين الإثنين، ولا سيّما أنّ اللبنانيين يتّهمون السياسيين بالفساد، ممّا يعني أنّه لا يجوز ربط عملية مكافحة الفساد بهذه الطبقة تعيينًا أو عضوية، وإلا فإنّ النتيجة ستكون تهميش طبقة القضاة.

 

الحصانات وتطبيق القانون
في ما يتعلّق بوقوف الحصانات النيابية والوزارية عقبة في وجه تطبيق القوانين في لبنان، أكد أنّه بالنسبة إلى الموظفين، لا توجد إشكالية، لأنّه لا يمكن أن يحمي أي سياسي أو وزير موظّفًا متّهمًا بالفساد، ومن الطبيعي إعطاء الإذن بملاحقته قضائيًّا. أما بالنسبة إلى ملاحقة الوزراء، فثمّة اجتهادات متضاربة حول الأمر. لكن الأكيد أنّه يحق للقاضي رفع الحصانة عن الوزير في حال وجود أي فعل رشوة أو اختلاس أموال عامة، أو استثمار وظيفي، أو تجاوز حدّ سلطة...
ورأى الدكتور منصوري أنّه من الضروري تمتّع القضاء العادي بالقدرة على ملاحقة الوزراء الفاسدين، لدى ارتكابهم فعل رشوة أو فساد معيّن، ولا يوجد ما يبرّر أنّ هذه الارتكابات هي من ضمن مهام أي وزير. وأشار إلى المادة ٧٠ من الدستور اللبناني، التي تنصّ على وجوب ملاحقتهم أمام المجلس الأعلى للقضاء، موضحًا أنّ الادّعاء أو تحريك الدعوة العامة والإحالة إلى المجلس الأعلى، يحتاج موافقة ثلثي أعضاء المجلس النيابي، وبالتالي فإنّ هذه المادة تمنح الحصانة المطلقة لأي وزير، وكأنّ الدستور ينصّ صراحة على عدم معاقبة أي وزير.
وأضاف: في حال الحصانة، من الضروري اللجوء إلى أمرين، إمّا تعديل الدستور، أو رفع الحصانة عن الوزير في حال ارتكابه الأعمال الجرمية كالسرقة أو الرشوة وغيرها، وعدم اعتبارها أعمالًا من ضمن مهامه الوزارية، وملاحقته قضائيًا. ومثالًا على ذلك، إذا اتخذ أي وزير قرارًا باستيراد غاز من دولة ما، فهذا قرار سياسي بامتياز. ولكنّه إذا أجرى مناقصة كبيرة وأخذ مالًا لجيبه الخاص، فمن الضروري محاكمته مباشرة إذا ثبُت عليه الجُرم، بدلًا من إحالته إلى المجلس الأعلى للقضاء.
وتابع قائلًا: «لدينا قضاء نزيه وفاعل، يتمتع بالقدرة على إصدار الأحكام القضائية النزيهة والصائبة، ولكن من المهمّ تعزيز إمكاناته، كما أنّه على القضاء السير قدمًا حتى النهاية، ولكن إذا كانت العقبة دستورية، فمن الضروري اللجوء إلى التعديل الدستوري».

 

المناقلات والتشكيلات القضائية
وتحدّث الدكتور منصوري عن المناقلات والتشكيلات القضائية، فأكّد أنّ هذا الموضوع حسّاس جدًا بالنسبة للقضاة، خصوصًا أنّ ثمّة مراكز حساسة يعيّن مجلس الوزراء شاغليها، ما يفسح المجال أمام السياسيين لأداء دورٍ سلبي. وبالتالي من الضروري منح الاستقلالية لهذا القضاء، القادر على تطهير نفسه بنفسه، إضافة إلى وضع معايير موضوعية للتشكيلات، وهنا يُشار إلى أنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى أعلن أنّ هذه المعايير قد وُضِعت.

 

استرداد الأموال المنهوبة
سؤال كبير يُطرح، هل بإمكان القضاء اليوم تلبية طموحات الشعب باتخاذ القرارات الجريئة، وتوقيف الفاسدين ووضعهم في السجون واسترجاع الأموال المسروقة؟
يجيب منصوري عن السؤال قائلًا: أعتقد أنّ النصوص القانونية الموجودة تُساعد في تحقيق ذلك، كما سبق وذكرنا، إضافة إلى الاتفاقيات الدولية التي وقّعها لبنان، كاتفاقيةOCDE (منتدى الشفافية للالتزام الضريبي). وبالتالي هو مُلزَم بملاحقة التهرّب الضريبي في لبنان وخارجه، كما أنّه بإمكان القاضي تجميد أموال أي شخص تَثبت عليه تهمة ما في أي دولة في العالم، وثمّة نصّ صريح يشير إلى ذلك. ما يعني أنّه يمكن للبنان استرداد أمواله المنهوبة، حتى لو أصبحت عقارات، ولا سيّما أنّه لا مصلحة لأي دولة في العالم حماية هذا الفاسد، أو تحمّل وزر قضيــة فســاد.
ولكن في الحالة الأخيرة نحتاج إلى تحقيقٍ أكبر وشروط دقيقة تختلف عن تلك التي نحتاج إليها في ملاحقة الحساب المصرفي.

 

ضرورة الملاحقة عبر ملفات موثّقة
وقال منصوري، ثمّة فرق شاسع بين اتهامات الفساد التي نسمع عنها في الشوارع أو عبر وسائل الإعلام، وبين الملف الذي يصل إلى القاضي، الذي سيأخذ فيه القرار. فمن السهل جدًا إطلاق شُبهة فساد في السياسة بالمطلق، لكنّ القاضي يحتاج إلى ملف متكامل، يتضمن أدلّة دامغة لإدانة المجرم، ويجب أن يعمل بمعزل عن الضغوط الشعبية والسياسية. القاضي يحتاج إلى الهدوء لدراسة الملفات بتأنٍّ. والاتهامات الشعبوية بالفساد تضّر ولا تفيد بمكافحته، لا بل على العكس من ذلك، فهي تُسهم بانعدام الثقة بين المواطن ودولته، وهذا الأمر خطير.
وجدير بالذكر هنا أنّـه إذا لـم يتمكّن القضاء من إثبـات الجرم على أحد المتّهـميـن الفاسـدين فهذا لا يـدلّ على أنّه فاشـل أو غيـر مستـقـلّ، وذلـك نتيجةً لعـدم وجـود الأدلّة الدامغة. وبالتالي، من الضـروري استكمال كل ملف بالأدلة الدامغـة. فـالإعـلام يهتـمّ بملـفـات الفسـاد، خلال ظرف آني ولا يتابعهـا، وأحيانًا يلقـي الأحكام الجزاف على البعض، ما يؤدي إلى عمليات تشهير في حق المستهدَفين.

 

التبليغ عن المرتشين واجب
وعن حماية الشهود أثناء التبليغ، أشار إلى أنّ الدكتور منصوري المادة ٣٥٣ من قانون العقوبات، تنصّ صراحةً على أنّه يُعفى الراشي أو المتدخّل من العقوبة، إذا باح بالأمر إلى الجهة ذات الصلاحية، أو اعترف به، مع إبراز الدليل، وذلك قبل إحالة القضية إلى المحكمة.

 

الإثراء غير المشروع
وعن كشف عمليات الإثراء غير المشروع أوضح أنّ «البعض يقول إنّ السرقة في لبنان مقوننة، بمعنى أنها تحصل وفق آليات تحتال على القانون من خلال حصول مناقصة، واتفاق الشركات المشاركة في ما بينها. لذلك، فإنّ مكافحة الفساد هنا تقتضي العودة إلى تاريخ تسجيلات المناقصات التي جرت في السابق، خصوصًا وأنّه من غير المنطقي أن يكون المتعهدون في لبنان هم أنفسهم منذ عدة سنوات وهم موزّعون على الطوائف.

 

المعلومة حق
حق الوصول إلى المعلومات خطوة أولى ضرورية لمكافحة الفساد وفق منصوري الذي أشار إلى عدم تعاون الكثير من الإدارات العامة مع القانون. ورأى في هذا السياق، أنّه علينا الانتقال من حق الوصول إلى المعلومات نتيجة تقديم طلب خاص، إلى كشف المعلومات أمام الجميع من دون طلب عبر الموقـع الإلكتروني الخاص بالوزارات والإدارات العامة، وذلك انطلاقًا من ضرورة توافر الشفافية المُطلقة حول ما يدفعه المواطن من ضرائب سنوية.