رحلة في الإنسان

هل من «لقاح» للنزاهة؟
إعداد: غريس فرح

لماذا يلجأ البعض الى الغش؟

 

تستخدم كلمة غش للدلالة على عدم الصدق أو الاستقامة في التعامل مع شؤون الحياة. والغش كما هو معلوم، رديف للسرقة التي يعاقب عليها القانون. مع ذلك نجد الكثيرين ممّن يدّعون النزاهة، يلجأون الى الغش من أجل كسب أشكال من التفّوق على الغير، وبالتالي إرضاء الذات والغرور.
ما هي طبيعة الغش، وكيف يفسّرها علم النفس الحديث؟

 

الغش حالة شائعة
بحسب ما يؤكد الباحثون في عدّة جامعات أميركية، فإن الغش يعتبر حالة شائعة، وغير محصورة بفئة معيّنة. وكانت نتائج أبحاث أجريت العام 1997 في جامعة بنسلفانيا، قد أكدّت أن ثلاثة أرباع عينة من الطلاّب تضم 1800 طالب، اعتمدوا الغش خلال تأدية الامتحانات. والعام 2005، شكل تصريح عالم الاجتماع براين مارتينسون صدمة للرأي العام، فهو أكد أن ثلث العلماء المنتمين إلى إحدى مؤسسات الأبحاث الطبيّة قد ضبطوا بتهمة الغش، والأهم أنهم اعترفوا لاحقًا بإجراء أبحاث مشكوك بصدقيتها بهدف الربح المادي.

 

مضار الغش وذيوله
على الرغم من أن الغش يعتبر حالة فطرية، إلا أن ذلك لا يعني عدم ضرورة ضبطه من أجل ترسيخ مجتمعات ترتقي بالإنسان إلى المستوى الحضاري المطلوب.
إن الغش على أنواعه، لا يلحق الضرر بمرتكبيه فحسب، بل بكل شرائح المجتمع. فالطالب الذي يغش في الامتحان، وبالإضافة إلى العقاب الذي يناله، يحرم نفسه من اكتساب المعارف التي من أجلها أقدم على الدراسة. وعلى المدى البعيد، فهو يضر بالمجتمع، حيث ينعكس جهله وضعفه في ميدان عمله على المتعاملين معه. كذلك فإن فريق الباحثين الذين أشرنا إليهم، لم ينل غشهم من سمعتهم فحسب بل ضلّل باحثين آخرين أخذوا بمعلوماتهم. ولا ننسى الضرر الذي ألحقوه بالمرضى من خلال النتائج المغلوطة التي وضعوها في متناول الجسم الطبي. كما انه لا يمكن إغفال الغش الحاصل في صناعة الأدوية والأطعمة المعلبة وسواهما من المنتوجات المضرّة بالصحّة والبيئة.
هذه وسواها من الممارسات أدّت إلى وضع تدابير من أجل مكافحة الغش، وإنزال العقوبات بمرتكبيه، مع ذلك فإن الرقابة الحالية لا تزال تحتاج إلى إعادة نظر.

 

كيف ينظر علم النفس إلى الغش؟
في محاولة لفهم طبيعة الغش، اكتشف العلماء أن الميل إلى التفّوق والخوف من الخسارة، إضافة الى مراقبة التصرفات غير القويمة التي تقود إلى الكسب السريع، هي بمجملها عوامل تحّفز على الغش. والغش، كما تؤكد الدراسات، عملية معدية، فهو ينتقل كالوباء من شخص إلى آخر. وهذا يفسر الانتشار السريع لما يعرف اليوم بالفساد، في المؤسسات العالمية، العامّة منها والخاصة.
لا تملك المؤسسات العلمية حتى الآن «لقاحًا ضد الغش»، لكنها على الأقل، تساعد على فهم دوافعه وصولًا إلى تحجيمه.

 

هل هو ذكاء فطري؟
تؤكد الأبحاث الحالية أن الغش تطور كوسيلة تسمح بتغلب احدى الكائنات الحيّة على سواها من دون بذل الكثير من الجهد. وهذا يحصل على مستويات مختلفة في مقدمها المستوى البشري. في هذا السياق وجد العالم الأحيائي بيتر غرينبرغ أن أنواعًا من الجراثيم تغزو الأجسام الحية بالاعتماد على جراثيم من نوع آخر. وعرف أيضًا أن بعضًا من الخلايا الفطرية يلجأ في تكاثره إلى الغش، إذ يعتمد على أنزيمات تفرزها خلايا فطرية أخرى. وهذا ينطبق على أنواع لا تحصى من الأسماك والحيوانات التي تتحايل على سواها من أجل التكاثر والتفّرد بمصادر الطعام.
والسؤال المطروح: لماذا يرى العلماء أن التحّديات التي واجهت الإنسان البدائي وسائر الكائنات الحيّة، أسهمت في تطّوير خلايا عصبية دماغيّة مسؤولة عن الذكاء الفطري؟ وهو ما أدى الى تبني هذه الكائنات الوسائل المضللة من أجل البقاء. والمعروف أن نسبة نمو هذه الخلايا العصبية تختلف باختلاف الأجناس، وتعتبر أكثر تطورًا لدى الإنسان.

 

معظمنا يغش بمقادير مختلفة
تبيّن نتيجة أبحاث أجريت في اكثر من جامعة أميركية، أن نسبة الغش بين الطلاب تختلف بحسب أهمية الامتحانات. وعرف أن الأكثرية تغش بنسب ضئيلة مقابل أقلية تستخدم وسائل أكثر فعالية وخطورة. والأهم أن الدراسات التي أجريت اخيرًا في جامعة هارفارد، أكدت أن الذين ينجحون في اختبارات الذكاء، والمواهب العالية، هم الأكثر مقدرة على الغش. وهذا الأمر يشكل دليلًا واضحًا على ما سبق وأشرنا إليه من أن الميل إلى الغش، يرتبط بجهاز عصبي يفعل الذكاء بهدف اقتناص الفرص السانحة.

 

لقاح من أجل النزاهة!
تعليقًا على ما سبق وأشرنا إليه، يمكننا القول أن الإنسان يملك مقدرة مزدوجة. فهو قادر على الغش وعلى ضبطه في آن معًا، وهو ما يؤهل المجتمع البشري من أجل السير في طريق الاستقامة. وحسب العالم النفساني الأميركي جون بودي فإن القوانين الصارمة الموضوعة بهدف مكافحة الغش، لم تتمكن حتى الآن من تغيير طبيعة البشر، لذا، وبدلًا من التشدد في تطبيق هذه القوانين، يصبح من الأفضل اللجوء إلى العقلانية في تطبيق الطرق التربويّة الصحيحة. ومن هنا التشديد على أهمية النظرة إلى الذات، أي التدريب منذ الصغر على الخوف من وصمة العار التي تلحق بالغشاشين، ومن المعاناة الداخلية التي تقض مضاجعهم. ويفسّر بودي نظريته هذه من منطلق أهمية الشعور بالاستعلاء الذي تولّده الاستقامة، مقابل الشعور بالدونية الذي يولّده الغش. لذا فهو ينصح بوضع نظام مكافآت يؤمن الشعور بالاكتفاء كبديل عن الخوف من الخسارة.
إن مكافحة الغش تحتاج إلى مقاربات من شأنها الإبقاء على الحضارة البشرية. الحضارة التي ترتقي بالإنسان إلى مستويات تميزه عن المخلوقات كافة. وهذا يحتاج إلى أنظمة جديدة، تعّزر مكانة القيم الذاتية، ليس فقط على حساب الربح المادي، بل من خلال رؤية الذات من منظور القيم التي نحلم بها.