رحلة في الانسان

هل يتم الدمج بين العلم والروحانيات؟
إعداد: غريس فرح

لا ينكر الطب الحديث ما للصلاة وسواها من الممارسات الروحانية، وخصوصاً التأمل، من تأثير إيجابي على الصحة والمشاعر. أما سبب ذلك، فيعود إلى أن التركيز العميق المعتمد في هذه الممارسات والذي يصل إلى الذروة عند نقطة الإنصهار التام مع الذات، يبعد الأفكار الجانبية المشوشة وما تسببه من ضغوط، ويؤدي بالتالي إلى السيطرة التامة على النفس.
والسؤال المطروح: ماذا يحصل في الدماغ في أثناء ممارسة التأمل أو الصلاة بإيمان وخشوع، وهل بإمكان الأدوية الحديثة تأدية الدور نفسه، وإحداث التأثير نفسه؟

 

التأثيرات الإيجابية

يؤكد إختصاصيو الأعصاب أن نتائج الفحوصات الطبية التي أجريت على ممارسي الطقوس الروحانية، وتحديداً التأمل، تؤكد على حصول تغييرات في موجات الدماغ الكهربائية في أثناء هذه الممارسات، ولهذه التغيرات تأثير إيجابي مباشر على تعزيز مقدرة ضبط الإنفعالات، والمحافظة على إيجابية التفكير، والتحكم بسلامة أداء وظائف الجسم الحيوية.
واللافت في هذا الإطار الزيادة الملحوظة في حجم الإستقصاءات العلمية لحقيقة تأثير التأمل على الصحة الجسدية والعقلية، خصوصاً وأن الدالاي لاما، الزعيم الروحي للبوذيين قد شجع منذ عقود المعنيين في الحقل النفسي - العصبي، على إجراء تحاليل علمية دقيقة لإكتشاف تأثير الممارسات الروحانية، بعيداً عن ضغوط الحجج الدينية وخلفياتها.
من هذا المنطلق، بدأ بالفعل فريق علمي برئاسة البروفسور ريتشارد دايفدسون، أستاذ الطب والعلاج النفسي في جامعة ويسكنسون الأميركية بدراسة النشاط الكهربائي الدماغي لمجموعة من رهبان التيبت البوذيين في أثناء ممارستهم طقوس التأمل اليومية، وتحديداً لدى بلوغهم قمة التركيز، أو الانسلاخ التام عن الواقع المادي. ولاحظ الفريق أن التركيز الداخلي حين يصل إلى قمته يحرك الموجات الكهربائية الدماغية العالية التردد، والتي تحفز عمليتي الإنتباه والإدراك.

 

مواجهة القلق والإنفعال

كانت المعالجة النفسية الأميركية مارغريت كيمني أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، قد بدأت التحري عن طرق عملية لمساعدة البالغين على مواجهة القلق والانفعال والأفكار السلبية. ومن هذا التوجه، بدأت ممارسة رياضة التأمل الروحانية بالانضمام إلى فريق من المتمرسين للتأكد بنفسها من أن الممارسة المنتظمة للتأمل تحدث بالفعل تغييرات إيجابية على المستويين الصحي والنفسي. وهي تؤكد على أنها تبني إستنتاجاتها العلمية على أساس قياس مستوى الكيميائيات التي تعدل ضغط الدم ودقات القلب والمزاج. وحفاظاً على دقة التحقيق العلمي، تبنت إقتراحاً يقضي بإخضاع مجموعة من ممارسي التأمل لفحوصات طبية شاملة تسمح بالمعرفة والجزم بأن التأمل أو الصلاة العميقة البالغة التركيز والتي تمارس باستمرار، يحدثان تغييرات بيولوجية جذرية ودائمة، وخصوصاً على مستوى تجدد الخلايا الدماغية ونموها. وهنا يشير العارفون إلى أنه في حال تمكن الباحثون من تحديد منطقة دماغية مسؤولة عن الإستجابة لتقنية التركيز التام، وبالتالي إشاعة الهدوء والتوازن الداخلي، يصبح بالإمكان التعاون مع شركات الأدوية لتصنيع عقاقير عصرية تحدث التأثير المطلوب. ولاختبار إمكان نجاح التجربة، تجري حالياً دراسة التغييرات في الموجات الكهربائية الدماغية من خلال إخضاع المزيد من المتطوعين للتجارب العلمية.

 

رجل أعمال يدخل التجربة

كان رجل الأعمال الأميركي آدم إنغل قد زار النيبال في أثناء حقبة السبعينيات وتعرف إلى الرهبان البوذيين وجذبته مرونتهم وسلاسة فلسفتهم الروحانية، فقرر دخول تجربتهم والتعرف إلى عمق خصائصها عن طريق إنشاء مؤسسة «العقل والحياة» في كولورادو بالتعاون مع عالم الأعصاب البوذي فرانسيسكو فاليرا، وقد زاد من إصراره على دخول هذا المعترك، معرفته بتعلق الدالاي لاما بالأبحاث العلمية وسعيه إلى ملء الفراغ بين العلم والروحانيات.
والعام 2000 رعت المؤسسة إجتماعاً في الهند التقى خلاله إختصاصيو علم الأعصاب والدالاي لاما وناقشوا معه طرقاً لدراسة التأمل، وكان من بين الحاضرين الإختصاصي الأميركي بعلم الوجوه والمشاعر المرتسمة عليها. وفي دراسة لاحقة له، أشار إلى تميز الرهبان البوذيين وتفوقهم في مجال ملاحظة المشاعر المرسومة على الوجوه، على آلاف الإختصاصيين الذين خضعوا لتجارب في هذا المضمار، ومنهم الأطباء النفسيون. ومن هنا تأييده للإعتقاد بأن التأمل يقوي التركيز والإنتباه والإدراك.

 

موقف فريد من نوعه

والعام 2003، إجتمع العلماء للإستماع إلى الدالاي لاما الذي حاضر عن القفزة الجديدة في عالم الأبحاث العصبية المرتبطة بالممارسات الروحانية، وكان لإنفتاحه العلمي الأثر في تعزيز المزيد من الدراسات. والعام 2005، وأمام حوالى 14.000 إختصاصي أعصاب توافدوا لسماعه في واشنطن العاصمة، أشار القائد الروحي إلى ضرورة تزويد المستشفيات آليات للمساعدة الروحانية بأنواعها كلها، وحسب معتقدات المرضى الدينية، بهدف إضفاء الهدوء النفسي وإبعاد المشاعر السلبية التي تسهم في وجود المرض وتفاقمه. ويفترض بالآليات الروحانية المعتمدة أن تتحلى بالمقدرة التي تميز «التأمل» والتي تتمثل برفع الموجات الكهربائية الدماغية المسماة «غاما»، التي تدحر مشاعر الخوف والحزن والقلق وسواها، وهنا التشديد على أن الصلاة اليومية التي تعتمد على التركيز والانصهار التام مع الذات تؤدي المهمة نفسها وتحدث التأثير نفسه. وهذا يعني أن الوصول بالتركيز الداخلي إلى المستوى المطلوب يؤثر في منطقة معينة في الدماغ ويؤمن إرتفاع مستوى مشاعر الفرح والسعادة الاطمئنان.

 

هل يخوض العلم التحدي؟

لقد أدهش القائد الروحي البوذي العلماء بالموضوعية التي طرح من خلالها الإتجاه للدمج بين العلم المعاصر والممارسات الروحانية على أنواعها.
فلقد ناقش نظرياته المتعلقة بالتأثيرات البيولوجية المباشرة للتركيز الروحاني من أجل دفع علم الأعصاب إلى المضي في مسيرة السيطرة على العقل البشري والذي هو حسب إعتقاده، منبع الشرور والتعاسة في العالم. ومن هنا نضاله من أجل دعم الخيارات الصحيحة لتحسين صحة الدماغ وبالتالي دعم التفكير الإيجابي وصولاً إلى السيطرة التامة على السلبيات وبالتالي تعميم السلام الذي يسعى إليه العالم.
وهذا يعني أن الأسس الأخلاقية التي تدعو إليها الأديان بشكل عام ترتبط مباشرة بالسيطرة على العقل وصولاً إلى التحكم بالإنفعالات العدائية والمنازعات والحروب، وهو إتجاه يحتم اللقاء بين الدعوات الدينية والتوجهات العلمية لتنفيذها.
بمعنى آخر إنها دعوة لتحقيق التسامح والمحبة ونبذ الاحقاد وصولاً إلى تطوير بنية بشرية سليمة نفسياً وصحياً، وذلك باتباع الممارسات الروحانية المختارة، أو بالدمج بينها وبين الخيارات الطبية الممكن تطويرها.