رحلة في الإنسان

هل يعتبر الإجرام طبيعيًا في الحروب؟
إعداد: غريس فرح

منذ أجيال، قدّم الفلاسفة والشعراء والمؤرخون مبرّرات لاندفاع الإنسان وراء حروب تستباح خلالها المحرّمات.
في البداية، ارتكزت النظريات على أسس اجتماعية وعقائدية، أما اليوم فنجد أنّ الدراسات الحديثة، وخصوصًا تلك التي تناولت أحداث الشرق الأوسط، أصبحت ترتكز على ثوابت محض علمية.
ما هي هذه الثوابت، وكيف تحصل المذابح الجماعية وسواها من ممارسات الحروب البشعة؟


بين الخطأ والصواب
إن معرفة الأسباب الرئيسة وراء اندفاع الإنسان إلى الحروب، تدحض إلى حدّ ما النظريات التي لازمت العقول إلى أمد ليس ببعيد. وأهم هذه النظريات اعتبار مرتكبي المجازر مجانين ومجرمين أو إرهابيين مستترين وراء عقائد مختلفة.
الباحثون الذين سبق وأخذوا بهذا الوصف لمجرمي الحرب، عادوا وأكّدوا خطأه. وبحسب الباحثة الإنكليزية ليديا ويلسون التي أجرت دراسات على أحداث العراق وسوريا بالتعاون مع الباحث الاجتماعي سكوت أتران، فإنّ مجرمي الحرب هم كسائر البشر، ينتمون إلى مجموعات يتصدّى بعضها للبعض الآخر، وهم يتعاطفون مع من يشاركهم الرأي، ويكنّون العداء لمن يقف ضدهم. وعندما تبدأ الحرب وتحتدم المعارك، يزداد العداء خطورة بفعل طغيان الشعور بالاضطهاد الممزوج بالخوف. الخوف من الهزيمة والموت. وعلى هذا الأساس يتمحور القتال حول مبدأ «أَقتل أو أُقتل»، وهو مبدأ لا يقبل المساومة ولا يتقيد بشروط.
إن الذين راقبوا واختبروا تصرفات معظم الإرهابيين أو المتمردين والمشتركين في مذابح جماعية، وجدوا أنهم أشخاص عاديون، بمعنى أنهم ليسوا مرضى نفسيين. وفي الواقع وحسب رأي الباحثة ويلسون، فإن المعنيين بالإرهاب هم أشخاص تمكّنوا من الوصول إلى حالة تكيّف دماغي تؤهلهم لارتكاب ما يقومون به من أفعال منافية للعقل والقيم. إلى ذلك، فقد ثبت علميًا أن مطلق إنسان يتمكّن من الوصول إلى هذه الحالة عن طريق التعبئة والتدريب المقترن بغسل تدريجي للدماغ.

 

طبيعية الشرّ
أما بالنسبة الى المجموعات الإرهابية التي يواجهها العالم اليوم، فهي بحسب الأبحاث العلمية، نتيجة التحام بين العقائدية الدينية أو العنصرية، ولهف الارتقاء إلى مثالية تفوق المنطق العقلاني. وهو ما أسمته المفكرة الألمانية حنه أرندت في منتصف القرن الماضي بـ«طبيعية الشرّ» The banality of Evil. وهي نظرية لاقت في حينه ضجة واستهجانًا كبيرين، كيف لا، وهي التي اعتبرت آنذاك أن المذابح النازية ضد اليهود ظاهرة عاديّة، قام بها أشخاص عاديون.
وعلى الرغم من أن أرندت كانت ضد العنف السياسي، إلاّ أنها برّرته باعتباره مرتبطًا بالخوف من الفناء، وبالبحث عن الخلود، واستمرارية الجماعة.
هذه النظرية تدعمها اليوم أبحاث علمية متطورة، هدفها الغوص في أسباب العنف الجماعي المدرج في لائحة الشرّ. وعن طريق التدقيق والمتابعة، تمّ التوصل إلى أن مرتكبي الأعمال الإرهابية يعانون سوءًا في توزيع التعاطف والحنان.
ففي دراسة أجراها الدكتور رينو في مؤسسة ماساشوتس على مجموعة محتجزة للإرهابيين، تبيّن أن هؤلاء بشكل عام، يتميزون بدرجات عالية من التعاطف والحنان. والمعروف أن الدكتور رينو هو اختصاصي أميركي بعلم الدماغ والأعصاب. وقد أجرى العديد من الأبحاث بالاعتماد على التصوير الرنيني المغناطيسي، وذلك من أجل تحديد الانفعالات اللّاواعية في بعض المناطق الدماغية. وحسب استنتاجاته، فإن أدمغة معظم الإرهابيين، تتفاعل تجاه بيئتهم الحاضنة، بشكل يؤمن تدفّق تعاطفهم وحنانهم باتجاه واحد. وهذا يعني أنّهم يتعاطفون بشدة مع جماعاتهم فقط، بينما يكنّون العداء لكل خارج عن طاعتها، وعداؤهم في هذه الحال يأتي مدمرًا.
على هذا الأساس، يصبح بالإمكان تحديد أسباب تورّط المعنيين بالإرهاب والمذابح.

 

ما هي أسباب التورّط بالإرهاب؟
في حال الإجماع على أن الإرهابيين ومرتكبي المجازر ليسوا مرضى عقليين، أو أشرارًا بالجوهر، فهذا لا يعني أنهم عقلانيون بالمعنى المتعارف عليه. والسبب أن أدمغتهم المبرمجة للتعاطف القسري مع مجموعاتهم، تؤهلهم لالتزام مبادئ معيّنة، وصولاً إلى القيام بممارسات يعتبرونها حقًا مقدسًا. والأهم هنا، أنهم يؤمنون بعقائد تمنحهم الوجود والهوية، وهي عقائد لا تقبل المساومة ولا التسوية، ما يجعل الدفاع عنها لزامًا على المؤمنين بها. وهنا تتبلور فكرة «من ليس معنا، فهو ضدّنا»، ومعها تتهاوى القيم وتتفلّت الغرائز جارفة ما تبقّى لدى المحاربين من توازن وعقلانية.
والأسوأ، أن الأطراف المتواجهة في النزاعات، تقدّس عمومًا القضية نفسها التي تصبح محور النزاع. وهو ما يحصل في عدد من المواجهات العالمية، منها على سبيل المثال: نزاع الهند وباكستان حول كشمير، والعرب واليهود حول الأراضي المقدسة. وأما المفاوضات التي تحصل من وقت إلى آخر بين المتنازعين، فلا تكون نتيجة اقتناع بتقديم التنازلات، بل من أجل إلقاء الضوء على القضية.
المسألة إذن ليست مسألة نزاع يحلّ بالطرق العقلانية، إنها مسألة انصهار الأفراد في الهوية الجماعية، الهوية التي تحمل قضايا وعقائد وأفكارًا متعارفًا عليها، ويصعب التخلي ولو عن جزء منها. ومن هنا التطرّف والهمجية اللذان يميّزان سلوك المحاربين الملتفّين عمومًا حول قادة النزاع.

 

هل من علاج لهذه الظاهرة؟
التعرّف إلى أسباب حدوث جرائم الحروب، يفتح الطريق أمام الحلول المناسبة. وفي هذا السياق ثمة ما يؤكّد أن الحلول متوافرة وكثيرة، لكن المشكلة هي في التطبيق.
فمنذ أعوام، أجرى الباحث الأميركي رونالد غرين، العديد من الدراسات الهادفة إلى خفض النزاعات عن طريق ترويض السلوك البشري. وكانت النتيجة أنّ مجمل حملات التدخّل المناوئة للعنف، كانت شبيهة باختبارات الأدوية التي يجرّبها المصنّعون. ما يعني أنها تخضع لمعايير نسبيّة وغير ثابتة. والدليل أنّ معظم هذه المداخلات نجح بنسب ضئيلة، واختلفت النتائج من مكان إلى آخر. ومن هنا القول، إنّ البحث عن طرق علمية ثابتة لمعالجة السلوك البشري في الحروب، يبدو طويلاً وغامضًا.
إن إمكان فصل البشر عن نزعاتهم الطبيعية، يبدو كعقدة مستعصية في فيلم علمي خرافي. فمن المفرح أن نتخيّل مشهدًا يتم خلاله استئصال نزعات الشرّ التواقة إلى القتل وسفك الدماء، بعلاج مناوئ للحرب يناسب جميع الأفرقاء. لكن حتى الآن، يبدو هذا المشهد صعب المنال، مع أنّ مجرد البحث عن إمكانات تحقيقه بالوسائل العلمية، يعتبر خطوة باتجاه مستقبل بشري واعد.