مواسم وخيرات

هل يغزو فأر الحقل البيوت في البقاع الأوسط؟
إعداد: د. حسين حمود
أستاذ محاضر في كلية الزراعة – الجامعة اللبنانية

بعد أن قضى على موسم القمح والشعير في البقاع الأوسط خلال العام الماضي، يهدّد فأر الحقل هذا العام بالقضاء على كل ما هو أخضر، وبغزو البيوت. فهل سنشهد إنتشار أمراض وبائيّة خطيرة تصيب قطعان الغنم والماعز وتنتقل إلى الإنسان؟ إذا بقي الوضع على حاله واكتفت الدولة بتوزيع «الطعوم» على المزارعين من دون تنظيم حملة واسعة وجذريّة تشمل التحرّي والمكافحة في جميع الأراضي اللبنانيّة، فإن التبعات ستكون كارثيّة على الصعيدين الإقتصادي والصحّي.


الوصف العام لفأر الحقل الإجتماعي
يعرف فأر الحقل الإجتماعي بإسمه اللاتيني «Microtus socialis» وهو صغير الحجم، يراوح وزنه بين 40 و50 غرامًا ويبلغ طول جسمه مع رأسه من 9 إلى12 سم، ويتميّز بذيل قصير مغطّى بشعيرات قصيرة، وبأطراف خلفيّة أطول من الأماميّة. كما يتميّز هذا الفأر عن غيره بلون شعر الظهر الذي يراوح بين الأحمر الباهت والأسود الرمادي بينما لون شعر البطن رمادي فاتح.

 

مناطق إنتشار فأر الحقل الإجتماعي
سجّل العالم برانتس وجود هذا الفأر لأول مرّة في سوريا العام 1827، الأمر الذي يتضح منه أنه معروف في هذه المنطقة منذ القدم وأنّه متوطّن وليس دخيلاً على منطقتنا. أمّا على صعيد خارطة إنتشاره في العالم، فنجد أن هذا النوع من الفئران يستوطن البقعة الجغرافيّة الممتدّة من الصين وروسيا مروراً بأذربيجان وكازاخستان وإيران وتركيا حتى العراق ثم سوريا ولبنان وفلسطين، ويعتبر اليوم من أهم أنواع الفئران التي تنتشر في منطقة شرق حوض البحر الأبيض المتوسط وبشكل خاص في سوريا ولبنان.

 

الدورة الحياتيّة لفأر الحقل وتكاثره
يتكاثر هذا الفأر طوال العام إلاّ أن موسم التكاثر الأساسي يدوم من بداية شهر تشرين الثاني حتّى نهاية شهر نيسان، حيث تحمل الأنثى 21 يومًا وتفطم مولودها بعد فترة تراوح بين 15 و21 يومًا من الولادة. وتنضج المواليد جنسيًّا بعد حوالى 35 يومًا وتصبح قادرة على التزاوج. يبلغ عدد الولادات للأنثى ما بين 5 و7 مرّات في العام، ولكن معظم هذه الولادات تتمّ في موسم التكاثر حيث لوحظ أن بعض الإناث أنجبت 6 مرّات خلال ستّة أشهر متتالية، وكل مرّة من 2 إلى 14 مولوداً. ويعتبر متوسّط عدد المواليد المرتفع ( أكثر من 10 في الولادة الواحدة) والعدد الكبير للولادات (5إلى7 خلال 6 أشهر) وسرعة الوصول إلى النضج الجنسي، مؤشّرات على الخصوبة العالية لفأر الحقل الإجتماعي وبالتالي مؤشّرات على إمكانيّة حدوث إنفجار وبائي لهذه الآفة.

 

غذاء فأر الحقل ونشاطاته
يتغذّى فأر الحقل بما يعادل وزنه (40إلى50 غرامًا) من الجذور والبذور والثمار والأوراق وقشور الأغصان والساق في الأشجار المثمرة والحرجيّة، ويخزّن كمّية كبيرة من الغذاء في أنفاق خاصة لهذه الغاية بالقرب من جحره الأساسي. فهو يحفر أنفاقًا بقطر 5 إلى7 سم ويربطها ببعضها البعض لتنتهي بحجرة تسمّى العش، يراوح قطرها بين 10 و15 سم. وقد لوحظ وجود نوعين من الأنفاق، الأول وهو بسيط ويتألّف من 3 إلى 4 مداخل ومن حجرة تعشيش واحدة، وهو معهود في الأراضي الكثيرة الفلاحة. أمّا النوع الثاني فهو أكثر تعقيدًا ويتألّف من عدّة مداخل وعدّة غرف تعشيش، وهو معهود في الأراضي التي تقلّ فيها الفلاحة أو تنعدم. وينشط فأر الحقل في الليل والنهار، غير أنّ نشاطه يبلغ الذروة في ساعات الصباح الباكر والمساء حيث يقوم بسحب البذور والأعشاب إلى النفق ليتغذّى عليها.

 

الإنفجار الوبائي لفأر الحقل
كما حدث العام الماضي وهذا العام في منطقة البقاع، فقد أدّى تكاثر هذا الفأر بأعداد كبيرة إلى مرحلة وبائيّة مسبّبًا أضرارًا هائلة للقطاع الزراعي وهذا ما يسمّى بالإنفجار الوبائي.فقد أشار العديد من الدراسات إلى أن السبب الأساسي لإزدياد عدد الفئران غالبًا ما يرتبط بوجود مصادر جيّدة للغذاء وشروط مناخيّة ملائمة، ممّا يؤدّي إلى زيادة عدد الولادات وإرتفاع متوسّط عدد المواليد وسرعة وصول الجيل الجديد إلى النضج الجنسي. فإذا حصل التزاوج بين الذكر والأنثى خلال شهر تشرين الثاني وفي حال كان متوسّط عدد المواليد هو 10، فهذا يعني أن نسبة الزيادة المتوقّعة لعدد الفئران خلال شهر واحد هو 1000% وكما نعلم فإنّ المواليد الجديدة ستنضج جنسيًّا وستلد بدورها بعد شهرين، وإذا كان متوسّط عدد المواليد الجديدة بحدود 8 مواليد فهذا يعني أن نسبة زيادة عدد الفئران في نهاية كانون الأول ستكون 8000%. وعندما نعلم أن المواليد الجديدة تبدأ بالتغذية بعمر العشرين يومًا عندها نستطيع أن نتوقّع حجم الأضرار الكبيرة التي ستبدأ بالظهور منذ نهاية كانون الثاني وبداية شهر شباط.

 

تأثير التغيّرات المناخيّة
بين الآثار السلبيّة للتقلّبات المناخيّة أو ما يعرف بالخلل المناخي وبشكل خاص إرتفاع معدّلات الحرارة، تكاثر فأر الحقل بأعداد هائلة في منطقة البقاع الأوسط. لقد بدأت حالة الوباء هذه العام الماضي حيث إجتاحت الفئران حقول القمح والشعير والبطاطا والخضار على إختلاف أنواعها في بلدات عديدة من منطقة البقاع الأوسط، بدءًا من إيعات والسعيدة وبعلبك، وصولاً إلى طليا وحوش سنيد وطاريّا وبدنايل وغيرها، لتزداد كثيرًا هذا العام بالرغم من محاولات وزارة الزراعة الحدّ منها  من خلال توزيع «الطعوم» السامّة على المزارعين المتضرّرين لمكافحة هذه الآفة الخطيرة، لكن هذه «الطعوم» وللأسف لم تعطِ إلاّ نتيجة جزئيّة.
إنّ غياب الصقيع وموجات البرد وعدم تدنّي درجات الحرارة خلال الأعوام الأخيرة هي السبب الرئيس لتكاثر فأر الحقل بأعداد كبيرة. وقد أكّد رئيس مصلحة الأبحاث العلميّة الزراعيّة الدكتور ميشال فرام بأن العاصفة الثلجيّة التي ضربت لبنان هذا العام وعلى الرغم من سماكة الثلوج لم تتبعها موجة جليد، بل إرتفعت درجات الحرارة بعدها مباشرة، بينما يتطلّب موت فأر الحقل تدني الحرارة إلى درجتين تحت الصفر على الأقل.


أضرار فأر الحقل
يغزو فأر الحقل بشكل أساسي البذور والنباتات والجذور والأوراق وقشرة الساق والحبوب، ومنها بذور القمح والشعير والذرة بعد زراعتها، ممّا يقلّل نسبة إنباتها. كما تهاجم الفئران السنابل والعرانيس وتأكل جذور البطاطا والجزر والشمندر وثمار الخضار الحقليّة كالبندورة والخيار والبطّيخ وغيرها. وتختلف الأضرار حسب نوع الزراعة، ففي المراعي وحقول المحاصيل الزراعيّة كالقمح والشعير والذرة والبطاطا والشمندر وغيرها، تتمثّل الأضرار في قطع النباتات في أولى مراحل نموها وإتلاف الجذور والدرنات والحبوب، وتظهر أعراض الإصابة على شكل بقع فارغة خالية من النبات تحل محلّها جحور الفئران. ويصل حجم الأضرار في محاصيل الحبوب إلى أكثر من 70% إذ تعمد الفئران إلى تخزين كمّيات كبيرة من السنابل الكاملة داخل جحورها، ويمكن أن تخزّن حوالى 255 سنبلة في جحر واحد. أمّا بالنسبة إلى البساتين والغابات فيتمثّل الضرر بتقشير لحاء أسفل الساق، ممّا يؤدّي إلى تدني إنتاجيّة الأشجار كمًّا ونوعًا، حيث أن الجروح التي تسبّبها الفئران تشكّل مدخلاً للأمراض الفطريّة، وتؤدّي في معظم الأحيان إلى موت الأشجار الصغيرة العمر.

 

المكافحة الكيميائيّة
يستعمل في مكافحة فأر الحقل عدد كبير من المركّبات المختصّة بمكافحة القوارض الزراعيّة، تنقسم من خلال سرعة تأثيرها إلى مجموعتين أساسيتين هما:
• المركّبات ذات التأثير السريع والتي تظهر أعراض تسمّم الفأر بها بسرعة، أي بعد عدّة دقائق أو ساعات (حتّى 24 ساعة)، مثل فوسفيد الزنك (Zinc phosphide)  وسلفات التاليوم (Thallium sulphate) وفلورو أسيتات الصوديوم (Sodium fluoroacetat) وفلورو أسيتاميد (Fluoroacetamid).
• المركّبات البطيئة التأثير، وهي مانعات تخثّر الدم، وتنتمي إلى مجموعتين هما هيدروكسي كومارين (Hydroxycoumarin) وإندان ديون (Indane-dione). تعمل هذه المركّبات على منع تخثّر الدم وإستمرار النزيف مهما كان خفيفًا حتى حدوث الموت والذي يمكن أن يستغرق حصوله من 4 إلى 28 يومًا بعد معاملة الفئران بالطعوم السامّة. أمّا من حيث طريقة التأثير فيمكن تقسيم مبيدات القوارض إلى ثلاث مجموعات هي:
• الطعوم التي تؤثر عن طريق المعدة: تستعمل حبوب القمح والشعير والذرة في تحضير «الطعوم»، وعند خلطها بالمادة الفعّالة تضاف مادّة لاصقة وهي عادة الزيت النباتي ليساعد على إلتصاق المادّة الفعّالة بالحبوب.
• مساحيق الإحتكاك أو الملامسة: تنثر عند فتحات الجحور والممرّات التي تسير عليها الفئران ممّا يؤدّي إلى تلوث أقدامها وفرائها بهذه المواد التي تدخل إلى الجهاز الهضمي عند تنظيف الفئران لأقدامها وفرائها بواسطة اللسان.
• المدخّنات (Fumigants): تستخدم في حال فشل الطريقتين الأولى والثانية أو في حال صعوبة تطبيقهما، وتتوافر على شكل بودرة أو قطع كرتونيّة مشبعة أو كبسولات أو أقراص، أو على شكل غاز مضغوط في أسطوانات معدنيّة ، وتحذّر معظم دول العالم من إستخدام المدخّنات إلاّ من قبل أشخاص إختصاصيين مدرّبين على إستعمالها. نذكر منها مثلاً فوسفيد الألمنيوم (Aluminium phosphid) وفوسفيد المغنزيوم (Magnesium phosphid) اللذين يحرّران غاز الفوسفين بمجرد تعرضهما للرطوبة الجويّة أو الأرضيّة. يتطلّب إستخدام هذين المدخّنين وضع الكبسولات أو الأقراص داخل الجحور ثم غلق جميع فتحاتها بإحكام، بعد وضع كمّية من الأعشاب الخضراء فيها لمنع طمر الأقراص، وتأمين رطوبة إضافيّة تسرّع تحرّر غاز الفوسفين وإنتشاره داخل الجحور.

 

أسباب فشل المكافحة
هناك مجموعة من الأسباب أدّت إلى الإنفجار الوبائي لفأر الحقل في البقاع الأوسط هذا العام أهمّها:
• التأخير في البدء بوضع «الطعوم» السامّة، حيث بدأ المزارعون بذلك في شهر آذار وكان من المفروض أن يبدأوا خلال شهري كانون الأول وكانون الثاني، أيّ عندما تكون أعداد الفئران في حدّها الأدنى، بالإضافة إلى وجود مواليد صغيرة وعدم توافر الغذاء، مما يجعل الفأر يقبل على أي طعم سام يقدّم له.
• إعتماد المكافحة الفرديّة التي لا يمكن أن تعطي الفعّاليّة المطلوبة لأن حقول البقاع مفتوحة على بعضها البعض، بل هي متّصلة أيضًا بالأراضي السوريّة حيث ينتشر هذا الفأر بشكل واسع. لذا كان من المفروض أن تكون المكافحة جماعيّة وبمبادرة من وزارة الزراعة بحيث تنظّم في الوقت المناسب حملة يستنفر فيها جميع العاملين في دوائر وزارة الزراعة ومصالحها من مهندسين وفنّيين وعمّال، لا سيّما أن المزارع البقاعي عانى كثيرًا خلال العام الماضي أضرار فأر الحقل.
• إهمال عنصر الإدارة المتكاملة للآفة وهذا يعني الحفاظ على الأعداء الطبيعيّين لفأر الحقل ومنع قتلهم وصيدهم لما لهم من دور أساسي في الحفاظ على التوازن الطبيعي. من هؤلاء الأعداء الثعلب وإبن آوى والطيور الجارحة كالنسر والبوم. والأخير يتميّز بأهميّة خاصة في مكافحة الفئران لا سيّما وأن نشاطه يترافق مع نشاط الفئران الليلي بشكل عام حيث أن البومة البيضاء قادرة لوحدها على افتراس ما بين500 و600 فأر سنويًا. وهناك أخيرًا الأفاعي العدو الحيوي للفئران والتي تساهم ولو متأخّرة ( إبتداءً من منتصف آذار) بخفض أعداد فأر الحقل بنسبة مهمة.
يضاف إلى ما ذكر ضرورة التنسيق مع وزارة الزراعة السورية وتنظيم حملة مشتركة واسعة لمكافحة فأر الحقل تشمل كل الأراضي الممتدّة على الحدود السورية-اللبنانيّة.