أوراق قديمة

هنا إذاعة لبنان من بيروت...هل تذكرون مجلة الإذاعة؟
إعداد: العميد المتقاعد أسعد مخول

يرتبط ذكر محطة الإذاعة اللبنانية في وجداننا بزمن جميل: زمن اجتمعت فيه مواهب كبيرة في الغناء والموسيقى والشعر. وكانت نهضة فنية وثقافية أسهمت فيها الإذاعة.
دور إذاعة لبنان لم يقتصر على بث البرامج والمواد الموسيقية والثقافية. فهي أصدرت أيضًا مجلة شهرية.

 

البدايات
عرفت محطّة الإذاعة اللبنانية في البداية باسم «راديو الشرق»، وقد عملت آنذاك تحت إشراف السلطات الفرنسية، إذ كان لبنان خاضعًا للانتداب الفرنسي. توزّعت مضامين برامجها بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، ممّا أغنى معارف مستمعيها، والانفتاح الثقافي هو بأيّ حال من سمات المجتمع اللبناني في كلّ عصر.
أصدرت المحطّة مجلّة شهريّة، رافقت مسيرتها لمدة طويلة، تضمّنت بعض المقالات الثقافية بينها واحد للموسيقى، إلى جانب عرض مفصّل للبرامج باللغتين العربية والفرنسية (لكلّ من البرنامج العربي: راديو الشرق، والبرنامج الفرنسي: راديو مونديال)، وعرض لبرامج محطّة الإذاعة المصريّة، وبرامج محطّة الإذاعة الفلسطينية، ولاحقاً أضافت إلى ذلك برامج الإذاعة العربية في لندن، وبرامج محطّة الإذاعة في روما، ومحطّة إذاعة تونس.
صدر العدد الأول من المجلة في 12 أيلول 1938، وحمل غلافه صورة للشاعر خليل مطران وهو يجلس أمام الميكروفون خلال لحظات الافتتاح، وإلى جانبه رئيس الجمهورية إميل إدّه (نشير إلى أنّ المدير الأول للإذاعة كان الأديب ألبير أديب، والمذيع الأول فيها كان الشاعر سعيد عقل).
وتضمّن العدد تعريفًا ببعض المنشدين والمغنّين والمطربين الذين أذيعت أعمالهم خلال الفترة الأولى للبث، ومن هؤلاء:
• كوثر بلبل العرب: تلميذة الأستاذ وديع صبرا (ملحّن النشيد الوطني اللبناني)، الذي درّبها على البيانو في البداية، ثم تابع الإشراف على دراستها في المعهد الموسيقي الشرقي في بيروت. أعجب بفنّها سامي الشوا وكميل شمبير اللذان شهدا لها بعذوبة الصوت والتفوق في الإلقاء، واقترحا عليها السّفر إلى مصر، فسافرت مرارًا حيث تعرّفت هناك إلى داوود حسني ومحمود صبح وعبده قطر وعزّت صلاح... عملت في محطّات الإذاعة في مصر وفلسطين، وغنّت على المسارح المصرية، وأصبحت لاحقًا المطربة الأولى التي وصل صوتها إلى المستمعين عبر محطّة راديو الشرق.
• داوود قرانوح: اهتمّ بالغناء المسرحي الاستعراضي (مونولوجست)، من أغانيه التي اشتهرت نسيت تعبي يا صغير، يعقوب هالمضروب، يا مال الشام يا عوجا...
• يوسف حسني: فناّن لبناني تدرّب في البداية في مصر مع فرقة جورج أبيض (1923-1925)، ثم التحق بفرقة فاطمة رشدي. عمل في محطّات مصر وفلسطين، والتقى لاحقًا بالملحّن يحيى اللبابيدي، وانتقل إلى محطّة راديو الشرق في بيروت.
• يوسف فاضل: ولد ونشأ في بيروت، درس الموسيقى في المعهد الموسيقي الفنّي بدمشق حيث أتقن العزف على العود تأثّر منذ البداية بألحان سيّد درويش. عمل في محطات مصر وفلسطين والعراق، وأنشد على مسرح الأوبرا الملكية في مصر قطعتين للشاعرين اللبنانيين أمين تقيّ الدين وبشارة الخوري. التحق بمحطة راديو الشرق.
• إيليا بيضا: نشأ في بيروت، مال إلى الموسيقى والغناء، وقد سار به إلى ذلك جمال صوته. العام 1925 سجل أسطوانات في شركة بيضافون (قصيدة عذّبيني فمهجتي في يديك، وموّال قوامك الغصن... ) والعام 1929 سجّل أغنية يا ريتني طير. سافر إلى مصر حيث سجّل أسطوانات مع المطربة اللبنانية لور دكاش: محاورة ويل حالي يا ويلي... 1931، وعمل في محطّة الإذاعة المصرية، وفي محطّة فلسطين، إلى أن استقرّ في محطّة راديو الشرق.

 

ما يطلبه المستمعون !
تضمّن العدد الثاني من المجلة تعريفات أخرى: إدمون مجاعص (كمان)، محيي الدين سلام (عود)، عبده عوض (قانون، من مصر)، عادل الطرابلسي (طبلة)، خليل مكنيّة (كمان، وهو خال توفيق الباشا)، قاسم يمّوت (غناء)...
أما في ما يتعلّق بالمقالات التّي تناولت الشأن الموسيقي، فقد تضمّن العدد الأول مقالا عن حصّة الموسيقى الدينية في الموسيقى الغربية، وتضمّن العدد الثاني مقالاً عن الموسيقى بشكل عام لمحمّد سعيد لطفي مدير الإذاعة المصرية العام. وتضمّن العدد الثالث مقالاً عن الموسيقى العربية لإسكندر الشلفون... وتوالى هذا النوع من المقالات إضافة إلى مقالات أخرى تتناول برامج الإذاعة بالنّقد والتقويم، خصوصًا البرنامج الغنائي. (ملاحظات فنّان على حفلات راديو الشرق). كانت المحطّة تخصّص أيامًا لإذاعة الأسطوانات التي يطلبها المستمعون، مع الطلب من هؤلاء بأن يحسنوا الاختيار. وكان هناك أنموذج معتمد للمراسلة: حضرة مدير الإذاعة العربية المحترم - المفوضيّة العليا بيروت - ما يطلبه المستمعون... (ملاحظة: كل كتاب غير مستوفٍ أجرة البريد، يهمل). وكانت هناك أيام مخصّصة للغناء المباشر الذي تسبقه تمارين في قاعات مبنى الإذاعة، وفق جدول زمني محدّد. وكان الحدّ الأقصى لحصّة الفنّان الواحد نصف ساعة، والفرقة الموسيقية كانت تلك الخاصّة بالمحطّة.
كرّت سبحة تلك المقالات، بالعربية والفرنسية: مصر والموسيقى الغربية، أغاني الحرب... وكانـت هناك كتابات للشـاعر إلياس أبو شبكـة الذي عمل هو الآخـر مذيعًـا في المحطّـة.
وقد جـاء في تعريف المجلـة، والإشارة إلى دورها الثقافي: «مجلّة خاصة بمحطّة راديو الشرق، تنظر بإخلاص في كفاية رجال الفنّ في لبنان وسورية والأقطار العربية. وستتعدى هذه الدائرة فتهتمّ بشؤون السينما والموسيقى والملاهي والرياضة والفنون، وهي لن تهمل الناحية الأدبية، وكل قصدها النهوض بالفنّ الغنائي والفنّ الأدبي، ليقينها أن الفنّين نسيبان».
كان مضمون المجلّة في سعي دائم لمواكبة مضمون الإذاعة من حيث خدمة الموسيقى وثقافتها، لكنّ الإذاعة هي الأساس بالتأكيد، وذلك لقدرتها على بثّ الموسيقى والغناء والبرامج وما إليها، إذ ما نفع أن يتلقّى المستمع مضمون الشرح والتّحليل من دون أن يكون قد سمع المادّة الفنيّة، خصوصًا في الفترات الماضية، إذ كان الاعتماد في ذلك على الإذاعة، ولم تكن وسائل التسجيل متوافرة.
وقد عرفت تلك الحالة ذروتها في فترة الستينيات، في ظلّ استقرار سياسي واجتماعي، وبحبوحة اقتصادية وثقافية، خصوصًا وأنّ الاصطياف في لبنان كان مقصد الجميع وفي مقدّمهم الفنانّون الذين كانوا يلجأون أيضًا إلى تسجيل ألحانهم في أستوديو الإذاعة، ويقدّمون الأحاديث، ويواصلون الحوارات والمناقشات. ونحن نقتفي أثر ذلك على صفحات المجلة التي تضمّنت أحاديث لعبد الوهاب وفريد الأطرش وحليم الرومي وفريد غصن وسليم الحلو والأخوين رحباني وتوفيق الباشا... وأخبارًا عن زكريا أحمد والسنباطي والقصبجي  وأم كلثوم وفيروز ووديع الصافي وزكي ناصيف وسعاد محمّد ونجاح سلام وصباح... وقصائد للشعراء جميعًا، إضافة إلى متابعات مفيدة لمهرجانات بعلبك، وحفلات الموسيقى الغربية في بيروت وجوارها، ولم يكن الأمر يخلو من التدوينات الموسيقيّة والشروحات العلميّة.
ووقفت إذاعة بيروت في ذلك كلّه إلى جانب إذاعة دمشق وإذاعة القاهرة على قدم وساق من حيث المستوى الفنّي، وعدد المستمعين الذين تيسّر وصول البثّ إليهم. استمرّ النجاح حتى أواسط السبعينيات حين ضربت لبنان الحرب الداخليّة التي دامت طويلاً، وأصابت في ما أصابت الثقافة والموسيقى، تمامًا كما أصابت البشر والمؤسّسات...