البطولة ملء الساحات

...والجرحى <<شو أخبارن؟>>
إعداد: ريما سليم ضوميط

عمليات الاخلاء: سرعة وتنسيق
العناية الطبية: الأفضـل لأبطالنـا
 الشباب:المعنويات ناروعائدون الى الجبهة

أجساد تصارع الألم وتأبى الاستسلام له، قلوب ملؤها الرجاء والأمل بانتصار الحق على الباطل، عقول لا يشغلها سوى شوق العودة الى ساحة الشرف، وشفاه تتلو الصلاة من أجل الرفاق على الجبهة... هذه حال الجرحى الذين عاينّا بالعين والقلب اندفاعهم ومعنوياتهم العالية الى حدٍ أصابنا بالذهول وجعل منسوب افتخارنا بهذا الجيش يرتفع الى أقصى ما يمكن أن يتصوره إنسان.
في هذا التحقيق تروي مندوبة «الجيش» خلاصة ما عاينته في جولتها على المستشفيات والمفارز الطبية، بعد أن كانت لها محطة في الطبابة العسكرية حيث اطلعت من رئيسها على التدابير والاجراءات المعتمدة لضمان تقديم الخدمات الأسرع والأفضل لعسكريينا الأبطال الذين أصيبوا في المعركة.

 

عمليات الاخلاء
تعتبر عملية إخلاء الجرحى والمصابين من ضرورات المعركة الناجحة، لأن الإخلاء الصحيح من شأنه إنقاذ الجرحى وتخفيض عدد الوفيات بشكل كبير، كما أنه يرفع معنويات العسكريين ويساعدهم على تأدية واجبهم مطمئنين بوجود الدعم الطبي الكافي الى جانبهم.
انطلاقاً من أهمية إخلاء الجرحى وحفاظاً على سلامة العسكريين المحاربين، قامت الطبابة العسكرية بعملية إخلاء شاملة في أثناء معارك مخيم نهر البارد وصفت بالناجحة جداً، بدليل أن أي مصاب لم يستشهد لعدم التمكن من الإخلاء.
فمنذ اليوم الثاني للمعارك أرسلت الطبابة العسكرية الى الشمال مفارز طبية، من بينها ثلاث مفارز هي عبارة عن غرف عمليات متنقلة تمّ وضعها على المدخلين الشمالي والجنوبي لمخيم نهر البارد، وذلك كما أشار رئيس الطبابة العسكرية العميد الطبيب نديم العاكوم.
وأضاف: طاقم كل من هذه المفارز مؤلف من ضباط أطباء من بينهم طبيب تخدير وإنعاش مع مساعده، إضافة الى عدد من المسعفين وطاقم غرفة العمليات. وأوضح أن المفارز ثابتة، أما عديدها فيتبدّل كل أربعة أيام، مشيراً الى أنها تزوّد باستمرار الامدادات الطبية بما فيها الضمادات واللقاحات ضد الكزاز والأدوية إضافة الى مختلف لوازم العلاج الميداني, ما يغني عن إرسال العسكريين ذوي الإصابات الطفيفة الى المستشفيات.
وتحدث العميد العاكوم عن أهمية المفارز الطبية مشيراً الى أنها أنقذت عدداً كبيراً من الجرحى ومؤكداً أنه لم يتم استشهاد أي عسكري بسبب إصابته أو عدم التمكّن من الإخلاء، وأما حالات الإستشهاد فقد حصلت في ساحة المعركة.
وتطرق أيضاً الى الأهمية المعنوية للمفارز الطبية، مؤكداً أن الثقة بوجود أطباء في محيط ساحة المعركة يرفع معنويات العسكريين، وهو أمر لمسناه على الأرض.
وعن سير عمليات الإخلاء، أشار العميد الطبيب العاكوم الى أن الإخلاء الأولي يتم بإخلاء الجريح من ساحة المعركة الى إحدى المفارز الموضوعة على الخطوط المتقدمة، فإذا كانت إصابته طفيفة، يضمّد الجرح ويعود الى قطعته. أما إذا كانت الإصابة متوسطة أو بليغة فيخضع للإجراءات الطبية الطارئة قبل إرساله الى مركز الإخلاء الثاني وهو أحد مستشفيات المنطقة. وفي حال اقتضى الأمر نقله الى أحد مستشفيات بيروت، يتم ذلك بواسطة الطوافات العسكرية التابعة للقوات الجوية.
ووصف رئيس الطبابة العسكرية الإصابات بالخفيفة في معظمها مؤكداً أن الإصابات الخطرة كانت ضئيلة نسبياً بالمقارنة مع شراسة المعارك والمدة التي استغرقتها، وهو ما يمكن التأكد منه عند الإطلاع على الإحصاءات العالمية للإصابات والوفيات في معارك مماثلة.


التنسيق مع المؤسسات الطبية
عن التنسيق مع المؤسسات الطبية المدنية، أوضح العميد الطبيب العاكوم أن الطبابة العسكرية لاقت دعماً كبيراً معنوياً وعملياً من مختلف الأجهزة الطبية المدنية من مستشفيات وأطباء، مؤكداً أن بعض الأطباء المدنيين أبدى استعداده للمشاركة في المفارز الطبية العسكرية.
كذلك شدد على التعاون الدائم مع الدفاع المدني الذي ساعد الطبابة في الإخلاء الصحي إن ضمن المنطقة أو من الشمال الى بيروت.
وختم رئيس الطبابة العسكرية بالتأكيد على شجاعة العسكريين واندفاعهم، مشيراً الى أنهم يطلبون العلاج للعودة الى قطعهم لا الى منازلهم. وتطرق الى الدعم المعنوي الذي قدمه أهالي الجرحى والمصابين الذين كانوا أكثر حماساً من أبنائهم، وقد أبدوا رغبة صادقة في أن يتابع الجيش المعركة مهما كلّف الأمر، ذلك أن «المسّ بكرامة الجيش ممنوع».

 

جولة على المفارز
بغية الإطلاع على عملية الإخلاء عن كثب، قام فريق مجلة «الجيش» بمرافقة العميد الطبيب العاكوم في جولة له على المفارز الطبية العسكرية في محيط نهر البارد.
توقفنا أولاً عند المدخل الشرقي للمخيم حيث تتمركز احدى المفارز المزوّدة سيارة إسعاف هي عبارة عن غرفة عمليات متنقلة تحتوي على كل الأجهزة الضرورية لمراقبة الوضع الصحي للمريض، ما يتيح نقله الى المستشفى من دون تعريض حياته للخطر بصرف النظر عن حالته الصحية.
والمفرزة مزوّدة أيضاً خيمة ثابتة مجهّزة بالأدوية وبمختلف اللوازم الطبية الضرورية لمعالجة الإصابات الطفيفة، إضافة الى كل ما يحتاجه فحص المريض في العلاج الأولي.
وتتميّز هذه الخيمة بشكل خاص بالنظافة والترتيب على الرغم من وجودها في ساحة ميدانية.
في لقاء مع النقيب الطبيب هيثم عبد الرحمن علمنا أن المفرزة تستقبل المرضى العاديين الى جانب الجرحى والمصابين.
وأشار النقيب الطبيب الى أن الجرحى نوعان: ذوو الحالات المستقرة، ويتم علاجهم في المفرزة المؤهلة لإجراء عمليات جراحية بسيطة، وذوو الحالات غير المستقرة ويتم مدّهم بالإسعافات الأولية ومن ثَمّ نقلهم الى المستشفى، علماً أن المفرزة مجهزة بكل ما هو مطلوب لإنعاش المريض.
عن كيفية الإخلاء أشار النقيب الطبيب الى أن الإخلاء الأولي يتم بواسطة ملالات عسكرية تنقل الجرحى من الخطوط الأمامية الى الطريق العام، حيث تتولى سيارة إسعاف للجيش أو للصليب الأحمر أو للدفاع المدني نقلهم الى المفرزة للعلاج. وأوضح أن المفرزة استقبلت حتى منتصف حزيران ما يفوق الـ130 عسكرياً ما بين معاينات وجرحى.

مستشفى ميداني متحرك
إثر مغادرة المدخل الشرقي للمخيم، إنطلقنا باتجاه المدخل الشمالي حيث يتمركز قسم آخر من المفـــــــارز الصحيـــة التابعة للطبابة العسكرية.
من الأمور اللافتة في الموقع المذكور وجود مستشفى ميداني متحرك هو تقدمة من الحكومة الروسية الى الجيش اللبناني، وهو يقسم الى ثلاثة أقسام، خصص الأول منها للفرز الأولي للجرحى بعد الإطلاع على وضعهم الصحي. تجرى الإسعافات اللازمة في القسم الثاني الذي هو عبارة عن غرفة عمليات متكاملة مجهّزة لإجراء عمليات جراحية بسيطة ومتوسطة.
أما القسم الثالث فمخصّص لمراقبة المرضى بعد العمليات من قبل طاقم متخصص.
والجدير بالذكر أن الطاقم الطبي في المفارز المذكورة يضم طبيباً جراحاً، وطبيباً متخصصاً في الصحة العامة، وآخر في التخدير والإنعاش، بالاضافة الى أحد عشر مسعفاً.

 

الصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني: نحن والجيش عائلة واحدة
خلال استراحة ميدانية لعدد من المسعفين وعناصر من الصليب الأحمر الذين كانوا موجودين للمساندة، أفادنا المؤهل جرجس عبد الله وهو أحد المسعفين أنه تم علاج أكثر من 525 عسكرياً (حتى منتصف حزيران) في مفارز القطاع الشمالي.
ولفت مسعف آخر هو الرقيب علي نصر الدين الى المساندة الفعّالة التي يلقـاها الجيش من الصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني. وهنا تدخّل أحد عناصر الصليب الأحمر ليؤكد أنهم والجيش اللبناني عائلة واحدة، مشيراً الى أن سيارات الإسعاف الخاصة بالصليب الأحمر موجودة دائماً للمساندة علماً أنها مجهّزة بجميع المعدات اللازمة لنقل المريض بطريقة سليمة.
فيما كنا نتبادل الحديث مع المجموعة دخلت سيارة إسعاف للدفاع المدني مسرعة تنقل أحد الجرحى وكان قد أصيب بطلق ناري في ساقيه.
بسرعة قياسية هبّ مسعفو الجيش والصليب الأحمر لتقديم المساعدة للجريح، فقاموا بتضميد الجراح والسيطرة على النزف، ومن ثمّ تولى الصليب الأحمر نقله الى مستشفى مدني لإجراء الصور اللازمة له لا سيما أن الشظية كانت قد مسّت العظام.
عند بوابة المدخل الشرقي للمخيم لاحظنا تجمّع لشبان من الدفاع المدني الى جانب عدد من سيارات الإسعاف، وقد علمنا من أحد المتجمعين أنهم في حالة جهوز طوال 24 ساعة لمساندة الجيش في عمليات الإخلاء. وأوضح أنه عند الضرورة تدخل سيارات الإسعاف الخاصة بالدفاع المدني الى داخل المخيم لإخلاء الجرحى. أما في الحالات العادية، فيتولى الجيش عملية الإخلاء الأولي الى مكان تمركز الدفاع المدني، ويسانده الأخير في عملية الإخلاء الى المفارز أو المستشفيات.

 

في مستوصف حلبا ومراكز طبية أخرى
عند دخول العسكريين الجرحى الى المستشفيات المدنية، تتم متابعة أوضاعهم من قبل طبابة منطقة الشمال لحين شفائهم وخروجهم.
حول هذا الموضوع تحدث رئيس مستوصف حلبا العسكري المقدم الطبيب خالد سكر، فأوضح أنه منذ بدء المعارك في مخيم نهر البارد تمّ التركيز على ثلاثة أمور رئيسة أولها تقديم المساعدة الطبية للعسكريين الجرحى وفقاً لقدرات المستوصف وإمكاناته، ومن ثم الإشراف على دخول المصابين المستشفيات المدنية في المنطقة، إضافة الى نقلهم الى أحد مستشفيات العاصمة إذا استدعى الأمر.
وفي هذا الإطار أشار المقدم الطبيب الى التنسيق التام مع القوات الجوية، مؤكداً أنه بمجرد الإتصال بهذه القوات تصل الطوافة خلال عشر دقائق فقط. وأضاف أن بعض الحالات استدعى النقل السريع، فتم إنزال الطوافة ليلاً حفاظاً على سلامة العسكريين وصحتهم.
وتابع رئيس مستوصف حلبا، أنه من الأمور التي يتم التشديد عليها الإسراع في عملية الإخلاء بغية توفير أكبر عدد ممكن من الأسرّة في مستشفيات المنطقة، مؤكداً أن الإخلاء يتم وفقاً لنظام يحفظ حق العسكري في العلاج والنقاهة، إضافة الى متابعة وضعه الصحي طوال وجوده في المستشفى.
بعد الإطلاع الميداني على عمليات الإخلاء، كانت لنا جولة تفقدية في المستشفيات المدنية للإطمئنان على العسكريين المصابين وتفقد أحوالهم.
المحطة الأولى كانت في مركز اليوسف الطبي في الشمال الذي استقبل حتى منتصف حزيران حوالى 250 جريحاً وفقاً لمعلومات من مدير عام المستشفى الطبيب سعود اليوسف، الذي أكد أن المستشفى موضوع بتصرف الجيش لحين انتهاء المعارك، موضحاً أن الأطباء الإختصاصيين يتناوبون الخدمة طوال 24 ساعة في اليوم لتقديم العلاج الطبي اللازم للمصابين.

 

«إستراحة على الجبهة»
إنطلقنا الى غرف الجرحى والمصابين وبالنا مشغول في كيفية مؤاساتهم ورفع الروح المعنوية لديهم، فدخلنا أولاً غرفة تضم عسكريَين أحدهما من فوج المدرعات الثاني والآخر من الفوج المجوقل، وقد أصيب كل منهما في إحدى يديه وساقيه.
كم كانت دهشتنا كبيرة عندما استقبلنا الإثنان بابتسامة عريضة وقد بدت الحماسة واضحة على محياهما. سألنا عن وضعهما الصحي فأجاب أحدهما: «الحمد لله الإصابات قد عولجت، وإن كان هناك بعض الألم الموضعي فهو لن يثنينا عن العودة لتأدية واجبنا الى جانب رفاقنا.
وإذ أوضحت له الممرضة أنهما قد يحتاجان الى استراحة لبضعة أيام، جاء الجواب من رفيقه في السرير المجاور «إذا كان لا بد من الإستراحة فلتكن على الجبهة لكي نبقى الى جانب رفاقنا سنداً لهم عند الحاجة!».

 

المعركة مستمرة للقضاء على الإرهاب
في غرفة مجاورة إلتقينا بعريف من مغاوير البحر أصيب برصاصة في الرئة. عن وضعه الصحي قال: «خضعت لعملية جراحية تمّ خلالها إستئصال الرصاصة وقد صرت أفضل حالاً والحمد لله». وتابع لاهثاً (بسبب وضعه الصحي): «مش هيدا المهم هلّق، وضعي الصحي في تحسن بإذن الله، ولكن المهم أن المعركة مستمرة للقضاء على الإرهابيين، والشباب على الجبهة أبطال ومعنوياتهم مرتفعة جداً!».
إلتفتنا الى والدة الشاب المندفع لرصد ردة فعلها فابتسمت قائلة «الإتكال على الله. نحن نتضرّع اليه باستمرار لكي يحمي الشباب في المعركة ويطمئن بال جميع الأمهات».

مصرّون على العودة
الى ساحة المعركة  
من بين الجرحى الذين التقيناهم، مجندان ممددة خدماتهما أصيب كل منهما في ساقٍ ويدٍ من جراء قذيفة هاون.
باندفاع شديد أوضح أحدهما أنه اختار طوعاً الإنضمام الى العسكريين في ساحة المعركة مؤكداً إصراره على العودة مجدداً فور شفائه.
في نبرة لا تقل حماسة أكد المجند الآخر أن الشباب «وحوش» وقد قضوا تقريباً على العصابة، وهذا هو الأهم.
في ختام جولتنا خرجنا من مستشفى اليوسف بإحساس مغاير تماماً لإحساسنا ساعة دخولنا. فقد كنا نظن أن العسكريين الجرحى بحاجة الى عبارات دعم ترفع معنوياتهم، فإذا بنا نجدهم لا يقلّون عزماً واندفاعاً عن رفاقهم المقاتلين في ساحة المعركة، وإذ باندفاعهم هذا ينتقل الينا ويزيدنا ثقة وإيماناً راسخاً بجيشنا وبوطننا.  

 

قلبي عند رفاقي
من الشمال الى بيروت حيث توجهنا الى مستشفى رزق للإطمئنان على العسكريين المصابين.
توقفنا أولاً عند أحد العسكريين الذي كان يعالج من إصابة في الرئة.
فور دخولنا الغرفة صرخ بعفوية «مين إنتو الجيش؟» وإذ عرّف عنا الرقيب الأول شومان المرافق لنا موضحاً سبب زيارتنا، مطمئناً الى حال الجريح، ومشيداً ببطولته وبطولة رفاقه، ما كان من الأخير إلا أن صرّح بانفعال «لا فضل لنا في ما قدمناه، لم نقم بأكثر من واجبنا».
ولدى سؤالنا عن وضعه الصحي أجاب: «قدّر لي النجاة، وأنا أشكر ربي على ذلك. ولكن «قلبي عند رفاقي عالجبهة»، حماهم الله، ونصر جيشنا الذي لا كرامة لنا من دونه!


«متل ما الله بيريد»
في غرفة مجاورة كان يرقد عسكري آخر محوطاً بجمع كبير من أفراد عائلته وعدد من أصحابه الذين كانوا ينتظرون بقلق دخوله الى غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية في عينه اليمنى المصابة.
لم نزعج الجريح بالأسئلة وإنما توجهنا الى عائلته بالتمنيات بالشفاء التام، فكان الرد من والدته حاملاً إيماناً بالله والوطن «مثل ما الله بيريد، الله يحمي الشباب عالجبهة وينصر الجيش».
وتوالت من بعدها صلوات الحاضرين المتضرعة الى الله لحماية الجيش ونصرته على أعدائه، فتحولت الغرفة الى مجمع للصلاة من أجل لبنان!
كم هي مهمة هذه المواقف التي تذكّرنا بأننا شعب مؤمن إستمد صموده طوال سنوات المحن من إيمانه بالله وبهذا الوطن الصغير. وهو ما يزال اليوم يستقي من النبع نفسه الذي لا ينضب، نبع الإيمان والمحبة.

 

هنيئاً للبنان أبطاله
في غرفة تعج بالحيوية، كان إبن الثلاثة وعشرين ربيعاً يجلس «متأهباً» وسط أمه وأخيه، يضج شباباً وعنفواناً بحيث تخاله يستعد للإنطلاق الى الجبهة.
بادرناه بالإطمئنان عن صحته والسؤال عن إصابته، فأكد لنا «بسيطة، ما في شي مهم، الإصابة في ساقي فقط».
وفيما كان يبادلنا الحديث ضاحكاً ومرحاً، كانت والدته تقف في زاوية الغرفة تمسح خلسة دمعة تأبى الإنحباس، فتوجهت اليها بابتسامة مرفقة بعبارة تشجيع «الحمد لله الإصابة بسيطة والشاب بألف خير». ردت الإبتسامة بصعوبة من دون أن تفارق مسحة الحزن وجهها ثم شكرت الرب على سلامة إبنها.
وإذ غادرنا الغرفة، قالت مرافقتنا وهي مسؤولة إدارية في المستشفى «ربما كان يجدر بي الإشارة قبل دخولكم الى أن الشاب قد بترت ساقه».
عبارة سقطت في أذني سقوط الصاعقة. فقد شعرت كم كنت سطحية في التعاطي مع حزن الأم لمصاب إبنها.
وإذ فكرت ملياً تبيّن لي أن الذنب في ذلك ليس ذنبي، وإنما هو مسؤولية إبنها البطل! فلولا حماسته الشديدة، وتفاؤله، واندفاعه لما ظننت أن إصابته طفيفة، وأن لا شيء يدعو الى القلق... وفي الأخيرة قد أكون محقّة، فشبان مثله يبعدون عنا شبح القلق، ويضيئون في قلوبنا شعلة الأمل، فهنيئاً لك سيدتي إبنك البطل، وهنيئاً للبنان أبطاله الشجعان.


من دون الجيش لا وجود للوطن
من مستشفى رزق انطلقنا باتجاه المستشفى العسكري المركزي لتفقد المصابين فيه.
بداية التقينا أحد العسكريين الجرحى الذي أفادنا أن زوجته قد «ولدت» في غيابه، وهو لم يتمكن بعد من رؤية طفلته المولودة حديثاً بسبب إصابته. وأضاف: بعد انتصار الجيش إن شاء الله سأعوّض غيابي عن عائلتي. أما الآن فعقولنا وقلوبنا جميعاً مع الرفاق في نهر البارد، وإيماننا قوي بجيشنا وبالنصر الذي سيحققه للبنان، لأنه من دون الجيش لا وجود للوطن.

 

الألم يزول ويبقى الفخر
رفيق في السرير المجاور وهو متزوج أيضاً وله إبن قال: «بعد مدة قصيرة سننسى الآلام التي شعرنا بها من جراء الإصابات، ولن يبقى سوى إحساسنا بالفخر الذي سننقله لأولادنا عندما نغرس في نفوسهم حب الوطن والتضحية بالأغلى في سبيله».
كلام مشابه سمعناه في غرفة أخرى في المستشفى من زوجة أحد العسكريين المصابين التي قالت لنا: «لم يمضِ على زواجنا أكثر من أسبوع عندما التحق زوجي بالجبهة، وكدت أجن عندما سمعت نبأ إصابته، لكنني الآن أكثر اطمئناناً وشعوراً بالأمان».  
وإذ تمنينا للعريسين «فرحة عريس» أجابت الزوجة: أريد لأولادي أن يولدوا في بلد ينعم بالسلام، وكرامة شعبه مصونة. وتابعت «الله يقوّي الجيش ليضل رافع راسنا، وولادي بكره يشوفوا حالن ببيّن».
في سرير مجاور كان يستمع الينا مصاب آخر للجيش وهو معاون في مغاوير البحر، وقد قال لنا: أنا أيضاً على أبواب الزواج وقد زادتني الإصابة تفاؤلاً وحباً بالحياة، لأنني من خلالها أدفع ثمن حياة الكرامة التي اخترتها لي ولعائلتي المستقبلية.
وأضاف: «أنا تلميذ المقدم ميلاد هلالي وقد علمنا الوفاء للمؤسسة والتضحية بأرواحنا في سبيلها».
أحد العسكريين وهو من الكتيبة 54 أفادنا أن الألم الذي يشعر به لا شأن له بإصابته الجسدية، وإنما هو نتيجة الحزن الذي يشعر به لخسارة رفاق له في الجيش، ولكنه أكد من جهة أخرى أنه عند بناء الأوطان ليس من ثمنٍ غالٍ.
وفيما كان المقدم الطبيب يشرح عن وضعه الصحي والعلاج الذي يحتاجه، أكد العسكري المصاب أنه سيعود الى المعركة فور انتهاء العلاج. وإذ بوالدته ترمقه بقلق الأم المعهود وتقول: «الله يحميك يا إبني ويحمي كل الشباب وينصر الجيش».

 

أجساد تأبى الاستسلام
في جولتنا على المستشفيات سواء في الشمال أو في بيروت، كانت الصورة واحدة تقريباً: أجساد تصارع الألم وتأبى الإستسلام له، وقلوب ملؤها الرجاء والأمل بانتصار الحق على الباطل، وعقول لا يشغلها سوى العودة الى ساحة الشرف، وشفاه تتلو الصلاة من أجل الرفاق على الجبهة...
تستمع الى الأهالي فتدرك سر اندفاع الأبناء وحماسهم، هؤلاء الأبطال هم كذلك لأن هناك من غرس فيهم بذور الخير ومحبة الوطن وصون الحق منذ الطفولة، وها نحن نحصد الزرع الصالح.
عسكريونا الجرحى في المستشفيات والمفارز الطبية، شفاكم الله وأدامكم مثالاً للشجاعة والإقدام، بوركتم وبوركت الأيدي التي ربّتكم رجالاً أشداء وأبطالاً بحق، ومثالاً للمواطنية الصالحة!

تصوير: العريف يحيى خضر