بلى فلسفة

واوٍ في الواوي
إعداد: ألعقيد أسعد مخول

لكَم تحيّن الفرص لاقتناص دجاجة أو للانقضاض على صوص. حيوان بغضه الفلاّح وعاداه، ونصّب كلبه مسؤولاً واسع الصلاحية لمكافحته ووضع حدّ لعدوانه. وهو، رغم صغر جسمه واختصار هيكله، من ذوات الناب، لا يرحم الأجسام الضعيفة، يُسيل دمها ويكسر عظمها، أليفة كانت أو بريّة متوحّشة مثله. الاّ أنّ الانسان، في بعضه، استخفّ بخطره وأهمل شرّه وأذاه، وفضّـل علـيه ليثاً قد يلتهمه، أو نسـراً قد يغرز مخـالبه بين أكـتاف صـغاره، أو أفعى قد تصلي بين سيقان صاحباته وأصحابه، من هنا نعتُه إياه بأبشع الأوصاف وأدناها، واعتبارُه مثالاً للخوف والجبن وخفّة العدوان وبساطة الأذى وقلّة البطش، حتى أنه سحب تلك "المساوئ" على أخيه الانسان فاعتبر كل من لا يستميت في الضّرب والفتك واوياً غير ذي نفع في الهجوم أو في الدفاع. والواوي واحد من فصيلة بنات الكلب (وهي إضافة إليه: الكلب والثعلب والذئب...) ، يسمى ابن آوى في الكـتابة الرسـمية. لكن بيـنه وبـين سيّد فصـيلته ما لا صـلح معه، فإنـهـما لا يلتقيان إلا ويسطو أحدهما على الآخر، لكنه قابل للاستئناس إذا أُخذ صغيـراً، فيكـون في الطاعة مثلـه. وهو في الحـالين رمز في الخسّة والـكذب والتـزلّف الى الأقوى عند الحاجة، والى الفـتك والأذى عند المقـدرة. كثير الصياح والعواء، يختبئ بسـهولة، ويسـترسل في الحيلة والدهاء، إضافة الى أنه ليـس ذا نفـع في شيء، وقد قال عـنه الشاعر:

إنّ ابن آوى لشديد المقتنص        وهو، إذا ما صيد، ريح في قفص

 

وفي الظنّ انّه لو استـمرت مطاردة الواوي سلمياً، وردع خطره من دون القضاء عليه، لتحوّل الى حيوان برّي نباتي، ولاقتصر غذاؤه على الثمار المتساقطة التي لا يخلو منها واحد من حقول الخير في كل مكان، ولتحوّل بذلك عن طبائع الحيوانات البريّة المفترسة، قاطعاً الشبه في الوقت عينه بينه وبين الكثير من الآدميين اللحميّين الذين لا يتغذّون إلاّ باللّحم والشّحم والدم، ولسان حالهم يقول: لا تحيا الرّوح إلا على حساب الرّوح، وهذا هو الحلال!

إلاّ أنّ الانسان، لتاريخه على الأقل، لا يزال يتجنّب امتلاك الأنياب الكبيرة بين فكّيه إلاّ في حالات نادرة، وهو بذلك غير محسوب رسمياً على المخلوفات "النابية". وكان الـواوي يقـضّ مضجع الـديك عنـدنا، الديك سيّد الدار والمـرعى، الساهر على أمان الدجاج، المكتفي بالاستراحة الضرورية في حدّها الأدنى على قائمة واحـدة خشية الاسترسال في الرقاد، وتجنباً للتكاسل والتخامل، والذي إذا "أكـل أو شـرب" فمضـغة صغيرة، وإذا عـشق فمن طـرف الحبّ، وإذا نام فنصـف منامة، لكنّه إذا صحـا، فصـحوة كامـلة بـرأس مرفـوع وعـين صافـية يقظى!

وفي التبادل غير المتكافئ بين نزوح القرية وتوسّع المدينة، صار من النادر عندي أن أرى الواوي أو اسمعه أو أتلقى أخباره وأخبار ضحاياه، خصوصاً وأن الدجاجة باتت مستنسخة خلف شبكات المعدن، "تفقّس" فيها وتنمو... لا تدركها الشّمس ولا تضربها الرّيح ولا تتعرض للخطر البرّي، ولا يستطيع الديك حمايتها وإعلان مسؤوليته عنها، في ظل سيطرة سكين الذّابحين التي لا ينفع معها صراخ أعناق ولا تصفيق أجنحة ونصب ريش.

وقد وفّقت بالاقامة في وسط المسافة بين النزوح والتوسّع المذكورين، وفي مسكن مجاور لغابة صغيرة محمية من عين التاجر الغازي الجارف، القاطع بمخالب الآلة وأسنان الحديد.

حفلت تلك الغابة بقسط من نعيم الطبيعة الأولى، حيوانات صغيرة وأشواكاً وأغصاناً وصخوراً تجنَّب جارها الانسان ولوجها إذ كان لحسن الحظ ناعماً "دلّوعاً" يخشى الشّجر والحجر والمطر، وإن أنت دعوته الى الحقول أحسّ بالضّجر.

وكنتُ اذا مررتُ هناك وجدت الليل سيّداً مهيباً ذا جلال، يسهر وينصت ويرعى السّكون وينافس النّهار في كل جمال، تنزل إليه النجوم واحدة واحدة لترى بأم العين وسادات أنوارها فوق الصخور، ولتطمئن الى ما يجري في ظلال الغصون من خلف ظهر ضيائها فتبتسم وتعود الى لألائها الأعلى باسمة ضاحكة إلاّ إذا فاجأها الصباح وعاجلها لسان الشّمس، فتُمضي النهار في جنّتها الأرضية الى اللّيل التالي، حيث تَمضي في سلام.

لكن حيوان المال، ولا أقول وحشه ­ لأنه داجن يعيش بين النّاس، يدخل البيوت ويتناول الشهيات فوق الموائد الآدمية ­ الحيوان ذاك تمكّن من غابتنا الصغيرة فدمّر صخورها واقتلع جذوعها... وأسنان عشّاقها، وأحاطها بأنوار آلاته الضخمة المرعبة، فأمر القمر نجومه في الحال بالانسحاب من الفضاء الى مكان آخر قد يكون بعيداً نائياً لا رجوع منه. ودارت تلك الآلات تحرق النفط وتنهش الجمال يوماً بعد يوم. وفي مرّة كنت اجتاز ركاماً في سفح الجماجم النباتية تلك، قبيل حلول الصبح، وكان اللّيل مهـزوماً مشوّهاً يتيم الأبوين، لمحت واوياً يعبر غريباً خائفاً مطلقاً ذيله للمجهول مفتشاً عن مأواه الدّارس الزّائل. وبان لي أن غيابه يعني غياب الطبيعة التي اختفت مزاياها الى غير رجعة، والتي انتقلت أوصاف واويها الى البشر.

والآن، والآن... إن يكن الحنين قد تدحرج الى قوائم الواوي، فإنّ المطلوب واوٍ في الواوي، لا واويَ في الانسان!