البطولة ملء الساحات

وباللحم الحي يقاتلون...
إعداد: جان دارك ابي ياغي

ودقّت ساعة الصفر! يوم الجمعة 15 حزيران انطلقنا من موقع الكرنتينا (حيث مركز العمل). الحماسة بادية على وجوه الجميع، رئيس قسم المطبوعات العقيد أنطوان نجيم، الزميلة ندين البلعة، روبير مرقص (مصوّر)، المعاون المجند الممددة خدماته روميو موسى (مصوّر)، العريف يحيى خضر (مصوّر)، والسائقَين: المعاون بسام شومان والرقيب بسام جبور.
لكن الحماسة لم تمنع إحساسنا الى حد ما بالخطر، وقبيل انطلاقنا التقينا سكرتيرة تحرير المجلة فمازحناها قائلين:
إذا لم نعد (لا سمح الله) اكتبوا تحت صورنا عبارة «شهداء الواجب الإعلامي». فكان ردّها: «تروحوا وترجعوا بالسلامة، انقلوا الى الشباب حبّ اللبنانيين وإعجابهم». وانطلقنا متّكلين على الله.
... اقتربنا من مخيم نهر البارد... قنصٌ يُسمع، قذائف تُطلق من هنا وهناك ورائحة الدخان تتصاعد لتملأ سماء المنطقة، أدركنا أن المهمة قد بدأت، وهنا الحكاية كاملة.

 

المحطة الأولى لقاء مع قائد العمليات
العميد بانو: جيشنا يقاتل باللحم الحي

في بداية المشوار، كان لا بدّ من زيارة قائد العمليات المتقدمة في منطقة المحمّرة العميد أنطوان بانو لوضعنا في صورة الأجواء العامة لطبيعة المعارك الدائرة منذ حوالى الشهر بين الجيش اللبناني وجماعة «فتح الاسلام».
أول ما أشار اليه العميد بانو في حديثه، هو «ضخامة التحصينات العسكرية داخل مخيم نهر البارد والتي تعود الى العام 1948 مع وصول اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان، والتي تنامت لاحقاً مع بدء العمل الفلسطيني المسلح في فترة الستينيات. من هنا صعوبة أرض المعركة، التي تعتبر غريبة على الجيش اللبناني، وأقلّ ما يمكن وصفها بأنها شرسة ومعقّدة للغاية».
ثم تحدث عن القوى المشاركة في التصدّي لإرهابيي «فتح الاسلام» وهي ثلاثة أفواج خاصة (فوج المغاوير، فوج مغاوير البحر والفوج المجوقل) بالاضافة الى اللواء الخامس. «وقد عملت جميعها بالتضامن والتنسيق التام في ما بينها لاسترداد المراكز التي احتلها الارهابيون في أول يوم للمعارك بعد الغدر بعناصر اللواء الخامس».
وقال: «سأترك لكل فوج، عندما تقومون بجولتكم الميدانية، أن يتحدث عن المحور الذي يتسلم مسؤوليته، وعن المهام التي يقوم بها، فتكون بذلك الصورة أوضح وموضوعية أكثر».
وأضاف: «جيشنا يقاتل باللحم الحيّ، لكن عناصره شباب شجعان مندفعون، عسكريونا لا يهابون الموت والاستشهاد في سبيل بقاء الوطن، وهذه هي قضيتهم الأولى والأخيرة التي من أجلها ارتضوا أن يكونوا تحت لواء «شرف، تضحية، وفاء».
وختم قائلاً: «أعدكم أنه خلال فترة وجيزة سيتم القضاء على ما يسمى «فتح الاسلام» وتسليم مَن سيبقى منهم حياً الى العدالة، لأننا أصحاب حق».
على وقع هذه الأمنية التي ظلّت تطنّ في آذاننا طوال النهار، وما أثاره فينا كلام العميد بانو من أمل وتحفز، انطلقنا في جولتنا بشوق واندفاع.

 

قائد اللواء الخامس: هكذا بدأت العمليات
جولتنا بدأت من حيث يتمركز اللواء الخامس على تلة المحمّرة، التي شهدت أولى المعارك بين الجيش اللبناني و«فتح الاسلام».
أول نبأ تلقفناه مع قائد اللواء العميد الركن نبيل نصر استشهاد أربعة عسكريين إثر دخولهم أحد المباني المفخّخة بعد سقوطه عسكرياً في يد الجيش. استوعبنا صدمة الخبر، وجلسنا مع قائد اللواء الى طاولة عليها خريطة حملت ألواناً وشارات مختلفة بالقرب من ملالة القيادة، حيث جهاز الاشارة لا ينفك يصدر الأصوات لمتابعة مجريات الأحداث.
في موازاة النبأ الأول الذي أدمى قلوبنا، نبأ آخر أفرحنا، فقائد اللواء أخبرنا في بداية حديثه إن البنية العسكرية لـ«فتح الاسلام» ضُربت كلياً ولم يعد يُسمع في اليومين الأخيرين (قبيل 15 حزيران) إطلاق نار من عيارات ثقيلة من قبل الارهابيين.
وأضاف:
لقد عمدوا في بداية المعارك الى قصف المناطق المأهولة بالسكان في محاولة منهم لتأليب الرأي العام ضد الجيش اللبناني عبر إيذاء المواطنين، إلا أن محاولتهم باءت بالفشل. فالرأي العام اللبناني وقف الى جانب جيشه، وقفة لم يشهدها لبنان من قبل.
وعن تمركز اللواء ومهماته الأساسية قال العميد الركن نصر: يتمركز اللواء الخامس في قطاع عكار في مهمة أساسية هي ضبط المعابر الحدودية. وتتوزع قطعه بين الحدود وعرمان، وضمنها مخيم نهر البارد، في عمليات حفظ أمن.
وأضاف: قبل تدهور الوضع الأمني، كانت للواء حواجز ظرفية (على شكل دوريات) على مدخل المخيم، وعند ورود معلومات عن وجود مجموعات مسلحة في داخله، أقمنا حواجز على مداخله الأربعة الرئيسة: المدخل الشمالي، مدخل المحمّرة، المدخل الجنوبي (جهة بحنين) ومدخل جامع شاكر (من الجهة الجنوبية). وبهذه الطريقة استطعنا ضبط حركة الدخول والخروج من المخيم واليه عبر التدقيق في هويات العابرين وتسجيل اسمائهم.
لاحقاً، وردت معلومات عن عمليات تسلل قد تحدث في الليل، فوضعنا نقاط مراقبة على المسالك التي يمكن أن يسلكوها ليلاً وهي تمتد على طول الطريق بين العبدة وجسر نهر البارد. ولضبط التسلل الليلي كان لا بدّ من إقامة شريط شائك. الى أن تدهور الوضع الأمني وأدى الى ما أدى اليه...».

 

طليعة الشهداء
وسألنا العميد الركن نصر:


• كيف حصل التعدّي على عناصر الجيش اللبناني على حاجز المحمّرة؟
- يجدر بالاشارة أولاً أن جماعة «فتح الاسلام» قد أعدوا للمعركة مسبقاً، لذا كان هجومهم على كل المحاور غير آبهين بالسكان الأبرياء داخل المخيم وخارجه، لقد حاولوا جرّ الجميع الى معركة مع الجيش اللبناني. وفي المقابل، كان الجيش حريصاً على عدم تعريض المدنيين المقيمين في محيط المخيم للأذى.
وحول تفاصيل الحادث قال: يقع حاجز المحمّرة بين المنازل وهو أول حاجز للجيش تعرّض للهجوم الغادر من قبل «فتح الاسلام»، ما أدى الى استشهاد عناصره (16عسكرياً بينهم ضابط) وسقوطه في يد المعتدين. إثر ذلك تحركت الكتيبة 53 في اللواء الخامس سالكة طريق ببنين وطوّقت التلة، في بادئ الأمر تحاشينا استخدام المدفعية لأننا كنا نجهل مصير عناصر الحاجز. وفي غضون ساعات قليلة استرجع اللواء الخامس الحاجز (تحديداً في تمام الساعة العاشرة إلا عشر دقائق من صباح أول يوم للمعارك) ما أدى الى تراجع «فتح الاسلام» الى أبنية مجاورة. في هذا الوقت وصل فوج المغاوير وأحكم السيطرة على حاجز المحمّرة ولاحقاً على الطريق المؤدية من بحنين الى العبدة.


• وما هي الخطة التي اعتمدتموها في مسار الهجوم؟
- لقد وضعنا خطة من مرحلتين:
المرحلة الاولى، كانت تقضي بتسلّم خط الغاز  المتاخم للمخيم وقد نجح فوج المغاوير في السيطرة عليه من الجهة الشمالية.
المرحلة الثانية، كانت الاستيلاء على خط السكة. وقد شاركنا مع فوج المغاوير في التقدم على هذا الخط. هنا واجهنا مقاومة عنيفة جداً من داخل المخيم، ما دفع قيادة الجيش الى تعزيز القوى الموجودة على الأرض بفوجي مغاوير البحر والمجوقل. وبذلك باتت ثلاث قوى أساسية إضافة الى اللواء الخامس، تعمل على مختلف إتجاهات المخيم.

 

الوضع الميداني بعيد الاعتداء بساعات
عملياً على الأرض كان وضع اللواء اعتباراً من خط السكة على الشكل الآتي:
• من الناحية الشمالية والبحرية قوى من اللواء الخامس تساندها سرية من اللواء 12 تؤمن الحيطة الخلفية لقوى الفوج المجوقل الذي كان يتقدم.
• على علو خط السكة والتخوم الجنوبية للبستان، يعمل مغاوير البحر، تساندهم أيضاً قوى في أثناء تقدمهم لتعبئة المباني (تحديداً الكتيبة 53 في اللواء الخامس) كي يتمكنوا من متابعة تقدمهم نحو الأقسام، مدعومين بملالات اللواء الخامس.
• من الناحية الشرقية والجنوبية، من خط الغاز دخلنا الى علو خط السكة. أما من ناحية الخلف فقواتنا على مستوى خط الغاز.

 

الجيش تقدم وهو مكشوف أمام نيران الارهابيين
• ما أبرز العقبات التي واجهتكم؟

- لقد استفاد مسلحو «فتح الاسلام» كثيراً من كثافة الابنية خصوصاً العالية منها للقنص على الجيش ما كان يعيق تقدم سرية بكاملها، لأننا مكشوفون عليهم ولا يمكننا رؤيتهم بسهولة. وهذا ما اضطرنا الى قصف الطوابق العلوية بالمدفعية والدبابات لإرغامهم على النزول الى الطوابق السفلية، لكنهم كانوا يعودون الى القنص عندما يتوقف القصف المدفعي. مشكلة أخرى أعاقت عملنا تمثلت باتخاذ الارهابيين من السكان دروعاً بشرية، يضاف الى ذلك أن هؤلاء المجرمين يقاتلون وهم مقتنعون أن مصيرهم الموت على أي حال.
وأشار العميد الركن نصر الى أن التنسيق والتعاون بين جميع قوى الجيش ووحداته على الأرض كان تاماً للحؤول، قدر المستطاع، دون الوقوع في الأفخاخ التي نصبها المجرمون في المواقع التي كانوا يخلونها عندما يضيّق الجيش الخناق عليهم.


• هل واجهتكم صعوبات في عمليات إخلاء الجرحى؟
- في البداية فقط، لكن قيادة الجيش استدركت الأمر بسرعة وركزت مفرزة طبية (عبارة عن مستشفى ميداني) في مركز الزراعة (العبدة) بقيادة الكتيبة 53، ومفرزة أخرى في بحنين (في الجهة الجنوبية للمخيم).
قبل أن نودع قائد اللواء الخامس، سألناه عن معنويات العسكر خصوصاً أن اللواء قدّم 23 شهيداً في أول يوم من المعارك، فقال:
معنويات الشباب رائعة، هم مقتنعون بأن مصير الوطن رهن وقفتهم، ويعتبرون أن هيبة الجيش وكرامته وشرفه فوق كل اعتبار لأنها تساوي هيبة وكرامة وشرف كل مواطن لبناني. نحن نعمل بتوجيهات قائد الجيش الذي قال خلال زيارته لنا: «لا حلّ أمام الارهابيين إلا الاستسلام وتسليمهم الى العدالة أو الموت. فلا ثمن لدماء الشهداء، إلا بقاء الوطن».
على هذه النية، غادرنا مقرّ اللواء الخامس مودّعين قائده وضباطه وأفراده، راجين الله أن يحفظهم من كل مكروه متوجهين الى حيث مقر الفوج المجوقل.

 

وقفة مع نائب رئيس الأركان للعمليات
تحوّل معمل الحلاب في العبدة الى غرفة عمليات للفوج المجوقل بعد احتلاله وتطهيره من مسلّحي «فتح الإسلام» الذين لجأوا اليه في بداية المعارك.
هناك التقينا نائب رئيس الأركان للعمليات العميد الركن محمد قعفراني الذي كان في جولة ميدانية تفقّد خلالها غرفة عمليات الشمال والقوات المشاركة في العمليات العسكرية والمراكز الأمامية للجيش.
وسألناه عن سير العمليات العسكرية وما تحقق، فقال: لغاية الآن، استطعنا الوصول الى مراكز تعتبر جدّ استراتيجية في المخيم، وقوى الجيش تتقدم رويداً رويداً بسبب تفخيخ البنايات بعبوات وطرق مختلفة وتبقى المراكز الأخيرة التي سيطر  عليها أيضاً الجيش بالنيران بانتظار التقدم نحوها.
وأضاف:
المقاومة خفّت والمسلحون محاصرون مصيرهم الأسر أو الاستسلام أو القتل. كل ما يستطيعون فعله الآن هو أعمال القنص والتفخيخ، وهذا يعيق عمل الجيش لكنه لن يوقف تقدمه.
ولاحظ العميد الركن قعفراني ارتفاع معنويات العسكر واندفاعهم منوهاً بالجرحى الذين يرفضون مغادرة المخيم إذا كان بالإمكان معالجتهم ميدانياً، ولا يطالبون بأي مأذونية حتى انتهاء المعارك ولو طالت، لأنهم مؤمنون بأن النصر آتٍ.
وختم بالقول:
العسكريـون يضعـون نصب أعينهم توجيهات قائد الجيش في خوض المعركة على أنها معركة بقاء الوطن، ولن يسمحوا لزمــرة كعـصابــة «فتح الاسلام» أن تتحكّـم بمصيـر لبنـان.


المجوقل: استدعينا للمؤازرة وحققنا انتصارات من اليوم الأول
قائد الفوج المجوقل العقيد الركن شربل فغالي وضعنا في صورة المهام التي يقوم بها الفوج بعد استدعائه لمؤازرة باقي القوى في القضاء على «فتح الاسلام».
قال:
منذ اليوم الأول لوصول الفوج (بتاريخ 3 حزيران) بدأ بتحقيق انتصارات واحتلال أبنية كان الإرهابيون قد تمركزوا فيها. أبرز الصعوبات التي واجهت الفوج كما باقي القوى هي أعمال التفخيخ. لقد فخخوا كل شيء: أبواب المنازل وأثاثها، قوارير الغاز، الألعاب، قذائف مدفعية...
وتوقّف العقيد الركن فغالي عند اليوم الأبرز في مسار العمليات العسكرية التي قام بها الفوج مع فوج المغاوير، فقال: «كان يوم الأربعاء 6 حزيران اليوم الأصعب إذ دارت خلاله معارك طاحنة مع «فتح الإسلام» أدّت الى احتلال مواقع أساسية «كاستراحة النورس» و«استراحة الوحش» والسيطرة بالنار على «مركز صامد» و«مدارس الأونروا» بانتظار الدخول اليها. وخلال هذه المعركة، سقط للفوج المجوقل 12 شهيداً وعدد كبير من الجرحى عاد القسم الأكبر منهم الى أرض المعركة بعد معالجتهم، لقد رفضوا الاستفادة من فترة النقاهة كي يكونوا ذخيرة حية لرفاقهم».  

 

نقاتل بأسلحة عمرها 20 عاماً
وتطرق قائد الفوج الى نوعية السلاح الذي يقاتل به العدو، فهو يستعمل صواريخ 107، هواوين عيار 82 و60 و120، مضاد للطائرات، قناصات وآر. بي. جي بالاضافة الى كميات هائلة من المتفجرات يستعملونها للتفخيخ. بينما يقاتل الجيش اللبناني بأسلحة تقليدية عمرها 20 عاماً على الأقل.
وختم قائلاً: «عدونا مجموعة إرهابيين لا يأبهون للموت لكننا لهم بالمرصاد، ولن نسمح لهم بترويع مواطنينا وتهديد أمن وطننا».

 

في ضيافة المغاوير: «وجبة قصف إكسترا»
غرفة عمليات فوج المغاوير داخل مخيم نهر البارد الجديد خلية نحلٍ لا تهدأ. الوضع هنا أصعب بسبب الاستنفار الدائم الذي يعيشه ضباط الفوج وعناصره 24 على 24 ساعة. الخرائط تملأ جدران الغرفة التي اتخذ منها قائد فوج المغاوير العقيد الركن صالح قيس مقراً له لإدارة العمليات العسكرية، أجهزة اتصالات هنا، جهاز كومبيوتر هناك، كاميرا موجّهة لمراقبة مصادر إطلاق النار ولضبط رمايات المدفعية ومراقبة تحركات المسلحين داخل المخيم.. إذاً نحن أمام فرصة لمراقبة كيف يتمّ مسار الهجوم على «فتح الاسلام» عن كثب.
لم يهدأ القصف المتبادل بين الجيش اللبناني وعناصر «فتح الاسلام» طوال فترة وجودنا عند فوج المغاوير. وعلى الرغم من «عجقة الشغل» حاولنا سرقة بعض الوقت من قائد الفوج لوضعنا في صورة المهام التي ينفذها فوجه، فشرح لنا الخطة الهجومية التي نُفّذت لاسترجاع المراكز التي كان احتلها الارهابيون في أول يوم للمعركة بعد الغدر بعناصر اللواء الخامس على حاجز المحمّرة. فقال:
بعد تثبيت المواقع، احتل عناصر الفوج الحاجز الشمالي لمخيم نهر البارد، وذلك في اليوم الثالث على بدء المعارك، وتمكنوا من التوغل مسافة 200م نحو الداخل. أوقعت هذه العملية 6 قتلى في صفوف العصابة المسلحة، وأدت الى تدمير آليات عسكرية تحمل أسلحة مضادة للطائرات، وراجمات من عيار 107 ملم، كما تمّت مصادرة عدد كبير من الأسلحة الفردية ومختلف أنواع الذخائر. ومثل هذه العمليات كانت تتكرر كل يوم.

 

فخّخوا المستوصفات
عن تقنية التفخيخ التي اعتمدها المسلحون قال قائد الفوج: عندما كنا ندهم الأبنية بمواكبة عناصر فوج الهندسة لتفتيشها من مخلّفات المسلحين، كنا نصطدم بنسفيات معقّدة ومجهزة للتفجير عن بعد بطريقة ربط الأبنية بسيارات مفخخة كانت متوقفة على جوانب الطرقات وفي الشوارع الداخلية وموصولة بقذائف مدفعية وعبوات غاز مختلفة الأنواع. ولقد عثرنا خلال عمليات الدهم على مخزنٍ مُعدٍّ لتركيب العبوات وتصنيعها، وهو مجهّز بجميع أنواع المتفجرات من صواعق وفتائل وساعات تفجير متطورة، فصادرناها للكشف عليها. وأضاف: «فخخوا كل شيء، ولم يستثنوا المستوصفات الطبية التي جُهّزت للتفجير عند دخولها».
وتابع قائلاً: «استطاع العسكريون بفضل خبرتهم ووعيهم التام تخطي هذه الصعوبات».
وعلى الرغم من كل التدابير الوقائية، سقط لفوج المغاوير (لحين إجراء هذه المقابلة) ستة شهداء (بينهم ضابط) و149 جريحاً (عاد معظمهم الى أرض المعركة بعد تضميد جراحهم). قد نقول هذا هو قدرهم، نعم. إلا أنهم هم مَن صنع (هذه المرة على الأقل) هذا القَدَر حباً بوطنهم ودفاعاً عنه.

 

وجهاً لوجه
عن المواجهات المباشرة مع الإرهابيين قال:
«خضنا مواجهات شرسة مع عصابة الارهابيين داخل المباني وعلى الطرقات، قاتلناهم وجهاً لوجه، لذلك عمدنا الى استعمال إشارات موحّدة في ما بيننا الى كلمات المرور والتعارف بين العسكريين خصوصاً خلال تنفيذ كمائن ليلية في مواقع متقدمة».
خلال تجوالنا في أرجاء المكان، أتيح لنا أن نعاين بالفعل الصعوبات الحياتية التي يعيشها العسكريون كما الضباط من غير أن يكون لها أي تأثير على اندفاعهم وقدراتهم القتالية. فوسط الدخان والبارود والغبار ودوي القذائف، يستمرون في القتال من دون هوادة، يقولون: «إنها حالة طوارئ».

 

مغاوير البحر: أهلاً بالتوجيه
المحطة ما قبل الأخيرة والأطول في جولتنا الميدانية على قادة الأفواج المقاتلة كانت في غرفة عمليات فوج مغاوير البحر في المحمّرة حيث التقينا قائده العقيد الركن جورج شريم وبعض ضباطه وأفراده.
الوضع هنا ليس أفضل حالاً إنما هو أكثر غلياناً. حركة لا تهدأ بين الغرف، إستنفار دائم، أعصاب مشدودة، ووجوه لم تغب عنها البسمة والتفاؤل بانتصار قريب.
ومع كل الضغط الذي ينتج عن يوم طويل من المعارك، لم ينسوا حسن الضيافة واللباقة والـ«أهلاً وسهلاً بالتوجيه». هذا الجو المفعم بالتحدي وعدم الإنهزام أمام صعوبات الحياة، جعلنا نلتقط أنفاسنا بعد نهار مضنٍ، متحدّين بدورنا التعب، لنكمل عملنا.
عندما حان وقت التحدث مع قائد الفوج العقيد الركن جورج شريم، كان من سابع المستحيلات أن نعرف منه دفعة واحدة ما يجري أو ما يقومون به. فالاتصالات الهاتفية لم تهدأ، والتوجيهات العسكرية الدقيقة تتوالى لحظة بلحظة، فهو يتابع كل شاردة وواردة لأن «الغلط ممنوع» وأخيراً استطاع أن يخصنا ببضع دقائق ليقول:
«يُعتبر القطاع الذي يسيطر عليه مغاوير البحر خط الدفاع الأساسي لمسلحي «فتح الاسلام» وقد خرقناه واحتليناه بعد معارك عنيفة وشرسة، سقط خلالها ثلاثة شهداء (برصاص القنص والتفخيخ) أحدهم كان يحاول إنقاذ رفيقه فأصابته رصاصة الغدر».

 

نجحت العملية...
في هذه الأثناء علا الصراخ في صفوف العسكر، فرحين مهللين «نجحت العملية».
وعندما سألنا عن أي عملية يتحدثون، كان الجواب: عملية تفجير مستوصف جنين، الذي انتظرنا تفجيره طوال اليوم، بسبب احتوائه على كمية هائلة من المتفجرات خلّفها مسلحو «فتح الاسلام» بهدف تفجيره بالعسكريين.
بعد أن اطمأن قلبه الى نجاح العملية بدقة تامة، عاد قائد الفوج ليتابع حديثه معنا عن طبيعة المعركة التي يخوضها وقال: «إنها من أصعب المعارك التي يخوضها الفوج نظراً الى طبيعة المنطقة وصعوبة التنقل بسبب كثافة الأبنية والتحصينات العسكرية وكثرة المتفجرات التي يستعملها الإرهابيون.
مع العلم أن قسماً قليلاً من العسكريين لديهم الخبرة الميدانية في هذا المجال، ولكن بهمة الضباط والرتباء وآمري الحضائر، وبفضل التنسيق والتعاون والاستبسال، تنفذ المهام المطلوبة بنجاح وبأقل خسائر ممكنة بشرياً ومادياً».

 

«يعصون» الأوامر!
عن معنويات عناصره كونهم في الصفوف الأمامية في مواجهة عصابة «فتح الاسلام» قال: «لا كلمات تعبّر عن معنوياتهم، إنهم حقاً مميزون في القتال. وخلال زياراتي اليومية للعناصر على جبهة القتال، أقرأ في عيونهم الإرادة الصلبة، وأعاين تماسكهم وعمق الروابط التي تجمعهم، وهذا ما يجعلني فخوراً بهم ويؤثر بي كثيراً، أحياناً أدمع وأنا أشاهدهم يعملون كخلية نحل»ٍ.
وأضاف قائلاً: «من أكثر ما يؤثر بي سلوك العسكريين حين يستشهد لهم رفيق. عادة عندما يسقط شهيد لإحدى السرايا، أعطي الأوامر بإراحتها لبعض الوقت كي لا تغلب العاطفة على عقلانية القتال، إلا أن أوامري كانت تُعصى، إذ يرفض العسكريون الانسحاب من أرض المعركة، مدركين المسؤولية الملقاة على عاتقهم».
وعلى الرغم من الظروف الحياتية الصعبة التي يعيشها ضباط الفوج وعناصره وانعدام المأذونيات فلا تذمر ولا شكوى، يقاتلون طوال النهار وفي الليل يحصنون مراكزهم (كتعبئة أكياس الرمل، إعادة التموين بالذخيرة، صيانة الأسلحة والآليات كي تكون جاهزة لليوم التالي).
وختم قائد الفوج قائلاً: «أحد عناصر الفوج بلغه إستشهاد شقيقه، فطلبت نقله من الخطوط الأمامية حيث كان يقاتل، الى خط آخر، فرفض وأصرّ على البقاء مع رفاقه. أما أهالي الشهداء فيزودوننا يومياً الدعم، ويعربون دائماً عن استعدادهم تقديم أولادهم في سبيل لبنان. وبدورهم أهالي المنطقة يزوروننا كل يوم لتقديم أي مساعدة ممكنة، ما يرفع معنوياتنا ويخلق نوعاًً من اللحمة بين الجيش والمواطنين».

 

قصة مغوار بحري
بعد اللقاء طلبنا رؤية الرقيب المغوار البحري رياض طالب الذي تحدث عنه قائد الفوج. فحضر بكامل هندامه العسكري وأخبرنا كيف تلقى خبر استشهاد شقيقه، قال: «تلقيت اتصالاً هاتفياً من زوجتي التي أخبرتني باستشهاد شقيقي الجندي عبد الله طالب (من الفوج المجوقل)، «صفنت» قليلاً وأخبرت اثنين من رفاقي كانا الى جانبي ولاحظا ملامح وجهي قد تغيّرت. حبستُ دموعي وأكملت القتال. وعندما ذهبت لحضور دفن أخي، قال لي أبي: «يا بني عد من حيث أتيت فمكانك ليس هنا؛ لململت دموعي واختصرت مأذونيتي وعدت الى حيث يجب أن أكون.. كلنا فدى الجيش والوطن».

 

«جنديات الجيش» على الجبهة: المغاوير «مثل النار»
في تمام الساعة السابعة مساءً اتخذنا القرار الصعب. طلب العقيد أنطوان نجيم من قائد فوج مغاوير البحر العقيد الركن جورج شريم زيارة الخطوط الأمامية التي يتمركز فيها الجيش داخل المخيم، في جولة استطلاعية لالتقاط صور لمجلة «الجيش» وللوقوف على حال العسكر هناك. في بادئ الأمر تردد نظراً الى خطورة المكان في مثل هذه الساعة، إلا أنه وافق لاحقاً على طلبنا بعد أن أجرى عدة اتصالات لتسهيل مهمتنا. فطلب إحضار الدروع الواقية والخوَذ لارتدائها قبل الانطلاق. لم يكن من السهل عليّ حملها: يا إلهي كم تزن! شعرتُ بأنني أختنق وأنا ما زلت واقفة في مكاني، فكيف العسكري الذي يرتديها طوال النهار مع كامل أسلحته! «الله يعينن».
صعدنا في جيب العقيد الركن شريم الذي تولى قيادته بنفسه، بينما استقل فريق التصوير جيباً آخر. مع وصولنا الى منطقة متقدمة داخل المخيم ترجلنا وأكملنا سيراً على الأقدام بحذر نظراً الى وعورة الطريق المحروقة والمفلوحة. ذهلنا لحجم الخراب والدمار على جانبي الطريق وفي البنايات. وكلما اقتربنا من مركز رفع عليه علم الجيش والعلم اللبناني، كان شرح من العقيد الركن شريم عن أهميته الإستراتيجية في عملية التقدم. فيكبر قلبنا بجيشنا المغوار وترتفع معنوياتنا.
اقتربنا من «جامع القدس» الذي اتخذه مسلحو «فتح الاسلام» متراساً لهم يمارسون منه أعمال القصف والقنص على الجيش، ومع وصولنا الى المسجد عَلَت الصيحات من خارجه وداخله مرحبة بنا. لم أكن أتصور أنه في مثل تلك الظروف الصعبة يمكن أن أشاهد جنوداً على هذا المستوى من المناقبية العسكرية والمعنويات العالية والروح القتالية. كانت البسمة لا تفارق محيّاهم، ولسان حالهم يقول: «المغاوير مثل النار».
«مسجد القدس»، الذي دارت فيه أشرس المعارك وأعنفها قبل سقوطه في يد الجيش، كناية عن طابقين: الطابق السفلي كان يستعمل كروضة للأطفال، وفيه اختبأ المسلحون، والطابق الثاني مكان الصلاة. ولا يمكن وصف ما تركه المسلحون وراءهم من خراب ومخلفات، أكياس مليئة بالذخيرة وأغراض شخصية ومعلبات وصناديق عصير.. وقد عمدوا الى تفخيخ قسم منها. والصور التي التقطناها في الداخل قد تكون خير معبّر عما فعله الارهابيون الذين دنسوا دُور العبادة.
قبل مغادرتنا، أصرّ العناصر على أن نلتقط لهم الصور التذكارية وتمنّوا نشرها في المجلة ليعرف العالم أجمع كيف تدافع الجيوش عن أوطانها.. ووعدناهم خيراً، متمنين لهم السلامة والانتصار القريب. وعدنا من حيث أتينا مكللين بغبار العز والفخر بجيشنا العظيم.  
غادرنا مخيم نهر البارد في تمام الساعة الثامنة مساءً ودموع الفرح ملء أعيننا فخراً واعتزازاً بجيشنا الباسل الذي مهما قدّم من شهداء، لن يُقهر.
عدنا الى بيوتنا وقلبنا على الجيش وقلب الجيش على الوطن.
أما أمنيتنا فارتفاع رايات النصر قريباً.