- En
- Fr
- عربي
وثيقة للتفكير في “حوار الثقافات”
موضوع القمة الفرنكوفونية التاسعة
المقرر انعقادها ببيروت في تشرين الأول من عام 2001
كان حقاً على لبنان أن يقترح “حوار الثقافات” مداراً لهذه القمة التي يتشرف باستضافتها. فالبلد المضيف قد اكتسب خبرة واسعة في ميدان التنوع الثقافي. ويشهد تاريخه ومعه نسيجه الاجتماعي وبنية اقتصاده بما لها, في إطار هويتها العربية, من طويل عهد بالانفتاح وبالمبادلة, وهما ما يسر نشوء ثقافة تأتلف فيها الوحدة والكثرة, وقد تكوّنت في ما يتعدى الهزات والتقلبات. عليه فإن توطيد الوشائج التي تجمع أهل هذه البلاد في ما بينهم يبقى مشرباً بالتطلع إلى أن يكون نسجاً مستمراً, دائم الاخذ بناصية التجدد. فكأن هذا التوطيد تجسيم منمنم, في النطاق الوطني, لـ”حوار الثقافات” الذي تبغي هذه القمة إطلاقه وتنشيطه في نطاق العالم. تلك مسيرة تفرض تجاوزاً لاعتبار قبول الآخر بادرة تسامح وحسب إلى اعتبار هذا الآخر بُعداً من أبعاد هوية الذات. وهي مسيرة تفرض أيضاً إدراك الخصوصيات ومقاربتها على أنها عبارات مختلفة عن الوجود الكلي. فالحوار, بما يفترضه من مساواة تستوعب الفوارق, وبما يبتغيه من تضافر يتحصل على الرغم من الفواصل ومن سائر صنوف التباعد ما بين المنطلقات, إنما يصدر عن النزوع إلى فهم الآخر في ما يتعدى مجرد التبادل الكلامي. ذاك هو المعنى الذي يجعل من “حوار الثقافات” مشروعاً حسياً يفترض التقبل التام للاختلاف. وإذ يرتكز هذا المشروع على تحديد عريض للثقافة, فإنه يمنح الفرنكوفونية فحوى إناسية.
والحال أن ما نعنيه ههنا بـ “حوار الثقافات” يفترض تصوراً عريضاً لركني العبارة: “الحوار” و”الثقافة”.
أما الثقافة فيجب أن نفهم بها جملة صيغ التصرفات البشرية المكتسبة وكذلك جملة الأعمال الحاضرة والماضية, الحاصلة في مجتمعات البشر, منظوراً إليها في بعدها الرمزي. وتكتسب كل ثقافة فرادتها بفضل مجموع من السمات الخاصة يصوغها التاريخ ويكون من بين عوامل تكوينها, حالات التفاعل السلمي أو العنيف مع ثقافات أخرى. وأما ما يجب أن يفهم بحوار الثقافات, فهو, بالتالي, مجموع مركب من سياقات التبادل العملي العمدية, وهذه سياقات شريكة في تشكيل الأنظمة الرمزية الخاصة بكل ثقافة. ولا مراء في أن تقدم وسائل الاتصال والإعلام يزيد من عمليات التبادل الآيلة إلى تجديد مباني الأنظمة التخييلية والمعيارية المكونة لخصوصية كل من الجماعات الثقافية. على أن هذا التقدم قد ينحو إلى نقض المباني المشار إليها أيضاً. وما شهده العقد المنصرم من بلوغ هذا التقدم درجات صاعقة, إنما يضاعف, على نحو يفوق التصور, لا الأخطار المحدقة بالسمات المميزة لكل تشكيل ثقافي وحسب, بل أيضاً إمكانات المبادرة إلى ما يتيح إنماءً مشتركاً وإثراءً متبادلاً بين الثقافات, مع رعاية الحق الذي لكل منها في حفظ تراثها ووجهها الخاص وفي تأمين الشروط لبقائها ونموها. هذه الجملة من المبادرات الممكنة هي ما يتعين على الفرنكوفونية أن تحدده, على جميع المستويات, معتنية, أولاً, بما يخص الثقافات المتساكنة في مجالها, ولكن مع النظر أيضاً إلى ما يناسب سعة الدور الذي تطمح إلى الاضطلاع به على مدى الكوكب.
فالثقافة مكتسبات وحصيلة بناء في آن, وهي نتاج مفاوضة مستأنفة على الدوام مع الذات ومع الآخر. لذا لم يكن لعمل الحوار بين الثقافات من غنى عن التبلور في مستوى العلاقات الشخصية وفي مستوى الوحدات الاجتماعية الصغرى.
ولذا أيضاً لم يكن لهذا الحوار أن يبقى رهناً بالمناسبات السانحة, بل تعيّن أن يمسي واقعاً يومياً. وهذا وضع مدعوّ إلى الترسخ بين النخب ترسخه بين الشعوب. إذ ذاك تتشابك الأفكار والفنون بوتيرة أعظم سرعة. وإذ يشهد الحوار بين المؤمنين توسعاً في قاعدته, يصبح له أن يفتح سبلاً جديدة للتسامح.
إن موضوع “حوار الثقافات” الذي اختارته جملة المشاركين في قمة مونكتون سنة 1999 يتكفل وضع لقاءنا هذا على خطّ ما سبقه من لقاءات, فيتصل بذلك حبل التفكير. فمن يوم أن تبوأت الفرنكوفونية, بما هي منظمة, موقعها على الساحة الدولية, جعلت في صدارة همومها, في ما يتعدى موضوع اللغة, موقع الثقافة من صوغ الهويات. وكانت الجماعة الفرنكوفونية تتقبل, بذلك, سلفاً تعدد الهويات الثقافية للبلدان المنتمية إليها, وبعد كل من هذه الهويات عن البساطة. وكانت تقر, بالتالي, بوجود فرنكوفونيات متنوعة. غير أنها كانت تعين بهذا الإدراك نفسه مواطن الخطر الذي أخذ يحيق, من جراء التسارع الجاري لسياقات العولمة على اختلاف الميادين, بالنمو والتفتح الثقافيين للبلدان الأعضاء ومن ثم, بالهويات الخاصة بهذه البلدان.
وفي مرحلة أولى, أرست الفرنكوفونية, في وجه هذه المخاطر, مبدأ الاستثناء الثقافي (في لقاء جزيرة موريس), وكانت ترجمته جملة من الاجراءات الرامية إلى الحيلولة دون تقليص ما يتيسر من منافذ إلى المنتجات الثقافية للبلدان وللمجتمعات الضعيفة التجهيز بالتكنولوجيا. على أن النفع المرتجى من المبدأ المذكور, وهو, على الجملة, نفع وقائي, لم يمنع ظهور ما يتصف به هذا المبدأ من عدم الكفاية لتحديد استراتيجية حقيقية لنمو الثقافات تظهر عبرها ألوان التراث الإنساني, على اختلافها, ويتيسر التعبير بفضلها عما لكل من الجماعات الإنسانية من خصائص هي عناصر في ثروة المجموع. لذا خطت الفرنكوفونية خطوة أخرى إلى الأمام فوضعت في التداول مفهوم “التنوع الثقافي” وهو مفهوم أصلح من السابق ليبنى عليه وليتخطى مجرد الدفاع عن النفس. وهو أيضاً مفهوم أرحب نطاقاً وأوسع اشتمالاً من حيث أنه يتعمد تجاوز التدابير ذات الصفة التجارية حصراً ليفضي إلى استراتيجيات متكاملة مآلها أن تظهر القيم المنتشرة في تشكيل ثقافات العالم.
إن نظرة إجمالية نلقيها على حال العالم اليوم لا بد أن ترسخ اقتناعنا بضرورة المضي قدماً في السبيل الذي اختطه مدار “التنوع الثقافي” وذلك بجعل هذا اللقاء وما سيتبعه حلبة رائدة لـ”حوار الثقافات”. فنحن لا نجاوز بذلك أن نمضي في الطريق نفسه الذي سلكناه, موسعين مدى المناقشة إلى الحقلين السياسي والاقتصادي.
حوار الثقافات: البعد السياسي
جاء الانبثاق البطيء والصعب, غداة الحرب الباردة, لنسق جديد من العلاقات الدولية (لاتزال معالمه جد مضطربة) مصحوباً بتسارع لا سابق لمثله في ديناميات الدمج والتوحيد الفاعلة على صعيد العالم, وهي تحيل ما لم يكن حتى عهد قريب غير توحيد للأسواق الاقتصادية والمالية إلى عولمة حقيقية سياسية وثقافية تطاول أمسّ الدوائر صلة بالخصوصيات. على أن هذا المساق لا يخلو من أسباب لبعث القلق الشديد في النفوس.
العولمة والهيمنة: إذا صح أن العولمة تفتح منافذ لا ريب فيها أمام ممارسة حريات جديدة, فمن الصحيح أيضاً أو أن هذا, في الأقل, ما يراه شطر كبير من جماعة الأمم أن العولمة تعبر عن نفسها بصيغة الهيمنة. وهذه هيمنة لبعض القوى على الموارد الحقوقية وعلى إنشاء المعايير والشرعية. وهي أيضاً هيمنة لبعض الأقوياء (من ذوي الفعل في المجالين العام والخاص) على صوغ المخيلات في قالب واحد وعلى الترويج لأساليب العيش والسلوك والاستهلاك. وأما البديل الذي يسوغ لحوار الثقافات أن يقترحه, في وجه شطط هذه صفته, فإن له أن يقربنا من صياغة مدونة معيارية دولية ترسى لبناتها بالتوافق, مؤسسة على القيم العامة التي تلازمها جميعاً ملازمة حرة, وأظهرها احترام الشخص الإنساني. وفي طليعة تلك القيم التي نريدها ناظمة للحياة الدولية, تقع تلك التي كرّسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتلك المتعلقة بالحقوق الثابتة للشعوب. ويسعى هذا البديل الى اجتناب الانتقائية في قراءة ما لأعضاء الجماعتين الفرنكوفونية والدولية من حقوق وما عليهم من واجبات, وهي انتقائية عانت منها ما يكفي شعوب كثيرة بينها, على الأخص, شعوب الشرق الأوسط. ويريد هذا البديل أيضاً أن يبني ساحات جديدة للتشاور العالمي وأن يوطد أركان ما هو قائم منها. أي ان حوار الثقافات يبتغي في هذا الزمن الموسوم بسلطات الشبكات أن يحل الديموقراطية في قلب العولمة قبل أن تتمكن العولمة من إفساد الديموقراطية.
العولمة وانبعاث العصبيات: لقد أخلت الحرب الباردة المجال لعالم شهد احتداماً وتكاثراً لنزاعات جديدة تتخذ ساحات لها, في معظم الحالات, كسور الدول أو دواخل المجتمعات. وإذا برزت أطراف هذه النزاعات في قيافة الهويات: أكثرها تشنجاً وأشدها نبذاً للغير, فإنهم أحالوا كلاً من ثقافاتهم إلى موئل للأذية ولتوليد العنف. وفي هذا السياق, وجد بعض الكتّاب رضا في التنبؤ بحلول عالم تمزقه “حرب الثقافات” أو يحطمه “صدام المدنيات”. فيتعين على الجماعة التي إليها ننتمي أن تأخذ نفسها بالدفاع عن مقاربة منفتحة ومتعددة المداخل للثقافة وللمدنيات, يحدوها في ذلك الأمل بتكذيب هؤلاء وإثبات الخواء الملازم لعرافتهم, وهي عرافة غير خفية الانتساب إلى حرب الأمس الباردة, وقد ترجمت إلى اللغة “الثقافوية”. من جهة أخرى, تحمل الموجات الواسعة المتتالية من الهجرات عبر الدول عوامل تباين متنوعة تغذي التوتر المتصل بالهويات. ان خصوصيات الوافدين الجدد تندرج إلى حدود مختلفة وبمقادير متفاوتة من التوفيق في المجالات التي تنزل فيها, ولكن القطيعة تبقى ممكنة في كل آن. لذا كان الالتزام الثابت بالحوار قميناً وحده, في عهد “نرجسية الفوارق الصغيرة”, بوضع المعالم لمجتمع دولي لا تتنابذ فيه الهويات وهي عديدة حتى في الفرد الواحد بل تتكامل, وتتغذى فيه الثقافات والحضارات بعضها من بعض غير آبهة لما بينها من خطوط الفصل.
العولمة والمسؤولية: في موازاة ما نشهده من التحول المتدرج لمقياسي المسافة والوقت, ومن التوحيد الذي تخضع له قواعد التعامل, ومن الخضوع المتزايد الذي يضطر إليه الفاعلون على الساحة الدولية لإلزامات ذات صفة جامعة, نقع على عولمة للرهانات واتساع للأخطار إلى مساحة الكرة, ومع الأخطار ما يتوجب جبهَه من تحديات. والأمثلة القريبة العهد منا كثيرة: من الهموم المتصلة بالتوازن البيئي أو بعالم الحياة أو بقواعد السلوك المتعلقة بالحياة, إلى تيارات الهجرة فإلى الإيدز والأوبئة الكبرى, وإلى الأمن واتقاء الجريمة المنظمة, وكلها تؤكد كل يوم بطلان الزعم أن لكل أن يكتفي بالقول “يا رب! نفسي!” وإذا كانت شريعة العالم الجديد لم تأت بعد على السيادة كلياً, فإنها تبدو متجهة اتجاهاً متنامياً نحو فرض عالم تسوده الشراكة في المسؤولية.
ذاك هو المستوى الذي يترتب أن تقف عليه مرجعية لها شأن هذه المرجعية لتجعل من نفسها منادياً, في وسط مراجع تعاون أخرى بين الحكومات, بتعاون دولي أوثق عرى وبتضامن بين الشعوب أوسع نطاقاً وبتنظيم للمؤسسات أوفر فاعلية, ولتجرد نفسها محامياً عن هذه الضرورات كلها في مواجهة ظواهر تضع على المحك مستقبل الكرة والجنس البشري برمتهما. ففي زمن أصبح فيه التدبير المشتمل على الكوكب موضوعاً تعبأ له الطاقات وطموحاً مشروعاً, يتقدم “حوار الثقافات” على أنه واحد من المقومات الأساسية لتعدد أطراف مجدد يراعي أقل الأعضاء حصانة في جماعة الأمم, حافظاً حقهم في التضامن, وعلى أنه ضامن لإدارة أنجع للخيرات المشتركة بين سائر البشر.
حوار الثقافات: البعد الاقتصادي
ليست العولمة سمة مميزة للنظام الدولي الجديد في صيغته السياسية وحسب, وإنما هي أيضاً (بل الراجح أنها على الأخص) المكون الأساسي لاقتصاد اليوم. فمن فورية الاعلام إلى زوال الفواصل بين الأسواق إلى انتفاء الصفة المؤسسية عن المتعاملين إلى تحلل إواليات التدخل من القواعد الناظمة إلى اشتمال دائرة التجارة المالية على الكوكب إلى توحيد أنماط الاستهلاك... لا تنجو دينامية التطور الجاري من تحريك مخاوف كثيرة.
الثقافة والإنماء: تبعاً للانتشار المتسارع الذي تعرفه النماذج الثقافية والظواهر الاجتماعية فوق سطح الكرة, راحت الصلة بين الثقافة والانماء تصير, على نحو متزايد, حاسمة الأهمية. ولقد كان يجوز الظن أن هذه الصلة ستكون صلة نبذ متبادل, وأن الإنماء سيكون مدعواً, في عهد العولمة, إلى الامتثال بالتدريج لنموذج ثقافي مسيطر هو ذاك الموافق للقالب الوحيد المعتمد أي لقالب الرأسمالية الليبرالية. غير أن الدعوة إلى تذويب الثقافات المحلية, الهامشية أو الناجية من الاندثار في الورشة الكبرى المقامة لحداثة متسلطة وتقدم محتوم وللنمو الاقتصادي, إنما هي دعوة فات أوانها. ولا نرى الثقافة والانماء يتنافيان بل هما يتساندان. وذاك, أولاً, لأن تماسك الثقافات المحلية وتطورها المنسجم يسهمان في توطيد الشعور بالثقة وبالاستقلال عند الأعضاء في الجماعة ويزيدان بالتالي من الإنتاجية ومن القدرة على الإبداع والتجديد. وذاك, ثانياً, لأن رأس المال الثقافي, شأنه في ذلك شأن غيره من عوامل الإنتاج, إنما هو مورد داخل في مساق النمو الاقتصادي, ولأن الثقافة قطاع منتج ينشأ منه دخل ووظائف. فالترحاب المنتشر الذي تحظى به اليوم “أنغام العالم” والنصيب المتزايد الذي يمثله من تكوين الدخل القومي لأقطار كثيرة كل من السياحة الثقافية, وحتى سياحة اللهو, وكذلك ترميم المساكن التقليدية والعودة إلى اعتمادها إنما يقدم برهاناً جلياً على ذلك. والمؤكد أن علينا التنديد ها هنا بالنزعة التي لاتزال فاعلة نحو النزول بـ”الثقافات المحيطية” إلى مستوى “المعازل الثقافية” التي تحشر فيها عادات وتقاليد آيلة إلى الانقراض. هكذا يفضي بنا ما ينطوي عليه من مفارقات هذا “الاقتصاد العالم” الذي نشهد مخاضه إلى الإشاحة, دفعة واحدة, عن المقاربتين “الثقافوية” و”الإنتاجوية” لنحل محلهما نظرة أقرب إلى مبدأ التكامل. فبقدر ما تكون الثقافات المجددة النشاط في حال تبادل وحوار يكون “الإنماء معاً” أمراً متاحاً في الواقع, ينتهي إلى استئناف قابل للدوام ومنصف للنمو العالمي.
المواد الثقافية ومقاييس المنطق التجاري: تنحو غلبة النموذج الرأسمالي وتقبل قوانين السوق بصفتها المعيار المسيطر نحو جنوح متزايد إلى إخضاع المواد الثقافية إنتاجاً وتداولاً, بل وحفظاً أيضاً, للمنطق نفسه. وهو جنوح ينطوي على نسيان لواقعة أساسية: ألا وهي أن الثقافة مكوّن لا يمكن اطراحه لتحديد الذات ومركب رئيس للتوصل إلى الآخر ومحاورته. وهي آلة علاقتنا بالعالم, ولكنها أيضاً آلة علاقتنا بما يتجاوز العالم ويمنحه معنى. وهي, لكونها هذا كله في آن ولأنها تنحو نحو اللامادي واللازمني, لا يسعها أن ترد إلى مجرد سلعة تخضع لنواميس العرض والطلب ويضحى بها على مذبح الميزات التفاضلية. ولقد أظهرت اللقاءات الدولية, من الصياغات الأولى لـ”الاتفاق العام على التعرفات والتجارة” “GATT” إلى قمة سياتل, ما ينطوي عليه من جنوح إلى فقدان الزمام ووضع المواد الثقافية على سوية غيرها من المواد الاستهلاكية. فالمجازفة, على هذا الصعيد, وبخاصة ما اتصل منها بأقل الأقطار تجهيزاً بوسائل المنافسة, إنما هي مجازفة مزدوجة. إذ هي تنطوي, أولاً, على احتمال رؤية المنتجات الثقافية المحلية وقد غرقت تحت مد المنتجات الثقافية الأجنبية الحائزة ميزات جوهرية على مستويي الصنعة والترويج. وهي تنطوي, ثانياً, على احتمال رؤية الثقافات المحلية وقد استبعدت من مجالات الإعلام وتظهير القيمة التي تتيحها التكنولوجيات الجديدة. فإذا نحن أشحنا عن هذه المجازفة ولم نتخد التدابير المناسبة لدرء عواقبها, فإننا نكون قد رهنا الثقافة سلفاً بداروينية الصناعات الثقافية. هذا يقتضي أن تبقى اليقظة تامة بشأن هذه المسألة على كل المستويات ولدى جميع المراجع التي يحتمل أن تكون معنية بمناقشتها. فبمقدار ما يستبقى للموجودات الثقافية, في كل بلد أنتجت تحت سمائه في ما مضى, أو هو يؤويها اليوم, قيمة تقرّ لها بذاتها, غير قابلة للرد إلى قيمتها التجارية, وبمقدار ما يقر بهذه القيمة كل بلد يستفيد, هو أيضاً, من تلك الموجودات على نحو غير مباشر وغير فوري بالضرورة, تكون الخيرات التي يضمها كل من مجتمعاتنا متجهة نحو التحول غداً إلى تراث مشترك للإنسانية.
فجوة ثقافية جديدة: إن ما نشهده من تسريع وتكثيف لما تجره العولمة من التشوهات الاقتصادية والاجتماعية, لايزال يزيد هوة التفاوت عمقاً بين شمال الكرة وجنوبها. هكذا تتأسس سوق دولية جديدة للعمل تجذب نحو أكثر الاقتصادات آخذة بناصية التجديد كفاءات أعدت في أقل الأقطار تقدماً. وتقلل هجرة الأدمغة هذه من حظوظ الأقطار المشار إليها في اللحاق بالركب. ولا يخلو من مفارقة أن نلاحظ كون جانب معتبر من ازدهار “الاقتصاد الجديد” يعتمد على الكفاءات القادمة من مناطق هي أكثر مناطق الكرة فقرا. ولقد أدى إحلال التكنولوجيات الجديدة محل القلب من اقتصاديات البلدان المتقدمة وتخطي العصر الصناعي نحو ثورة مناطها المعلومات, إلى توسيع وجوه التفاوت في داخل المجتمعات المتقدمة أيضاً, وإلى تهديد البعض من مكاسبها أحياناً. ففي عالم تنحو فيه الثروة نحو التركز حول “اقتصاد المعرفة”, سيغدو التفاوت الجديد هو ذاك الذي يتواجه عند حديه أولئك الذين يجدون لدواع بعضها اقتصادي ولكن بعضها ثقافي وتربوي أيضاً سبيلاً إلى تكنولوجيا المعلومات, وأولئك الذين سد دونهم مثل هذا السبيل. وسيزداد التفاوت الجديد ميلاً إلى المواجهة ما بين القابضين على مفاتيح المعرفة وبين المجردين منها. وسيكون على النضال ضد صور الفقر الجديدة هذه, لا أن يفتح منفذاً إلى الرساميل, بل أن يشق سبيله إلى فهم صورة العالم المعقدة, وإلى عقل المزاوجات والملاقحات التي تصنع هويات هذا الزمن. لذا كان تيسير دورة المعلومات ورفع الحواجز ما بين فروع المعرفة وتشجيع التآزر ما بين المنظومات العلمية والمقاربات المتعددة المداخل إليها وتعزيز التوافق ما بين الثقافات, من الأمور التي لا تقل ضرورة للسلم الاجتماعي عن عطاءات أكثر الدول إغداقاً لأصناف العناية بمواطنيها. غير أن هذا التوزيع الجديد للموارد الفكرية إنما يتوجب التفكير فيه على نطاق الكرة, وهو ما يردنا إلى تعدد الأطراف المجدد الذي مضى ذكره.
هكذا فإن الفرنكوفونية, إذ تسهم في إرساء شرعية الحوار وضرورته, سواء بين الثقافات أم بين المجتمعات, وفي داخل كل من هذه وتلك أيضاً, إنما ترمي إلى ترسيخ حق جديد هو الحق في الحداثة الديموقراطية. وهي حداثة تتجاوز دائرة التقنية البحتة لتعبّر عن بعدٍ ثقافي مشتمل بدوره على تعدّد لهويات واضحة المعالم تتصالح في ذات كلٍ من حملها دونما احتكاك أو تنازع. ولا يسع الحق المشار إليه أن يكون عاماً ما لم نتوصل إلى معالجات فاعلة لمخاطر التهميش والإخضاع, وهي المخاطر الكبرى التي ينطوي عليها التطبيق غير المقيد لقانون السوق ولمنطق القوة في العلاقات الدولية.
إن العيش سوية مع حفظ الفوارق بيننا (أو قل: إن عيش الفوارق التي بيننا سوية) ليرجح كونه واحداً من التحديات الكبرى التي سيواجهنا بها هذا القرن الذي ابتدأ. فهل سيقيض لنا أن نوفق ما بين مغامرة التقدم التكنولوجي الهائل بما تفتحه من آفاق لبزوغ عالم أفضل وبين المحافظة على الثراء الثقافي لكل من مجتمعاتنا؟ لقد وضعت الجماعة الفرنكوفونية, من حين إنشائها, نصب عينيها مهمة أن تحمل إلى الجوقة الثقافية العالمية موسيقى لغتها والثقافات التي شربت من ماء هذه اللغة. ولا بد للفرنكوفونية, إذا هي شاءت أن تأخذ جماعة بلدانها بناصية العولمة وتحتل المكانة العائدة إليها في حركة هذه الأخيرة, وأن يعزز خير العولمة ويتقي شرّها, أن تمهد السبيل إلى “حوار الثقافات” وأن تدافع عنه. فعندنا أن تلك ورشة للحاضر ولكنها, على الأخص, ورشة للمستقبل تنطوي على وقائع ثقافية واجتماعية مستوجبة التفحّص والفهم والتوضيح وعلى خط للسلوك يجب لزومه وعلى مرمى استراتيجي يتعين بلوغه. وذاك أن الحوار الذي يأبى أن يوضع لسيرته حد, إنما يبدأ من الرغبة في التعارف ليثمر أنواعاً شتى دائمة التجدد من المحالفات. فعسى أن نحسن من اضطلاعنا بمسؤولية التنوع الثقافي عند كل منا ليصير هذا التنوع أكثر إبداعاً وليتخذ مكانه في بستان الفرنكوفونية المشترك وفي عالم الغد الذي نكون قد أسهمنا في صنعه بنصيبنا التام وبلا تحفظ.
سبل الحوار
مقترحات برنامجية
تنتمي اقتراحات المشاريع التالية إلى منطق “حوار الثقافات” بقدر ما تحاول أن تنشئ, حول مشاريع مشتركة ما بين الأقطار المعنية, تعاوناً يجمع وسائط مختلفة ووسائل تعبير متنوعة ولغات لها من الكثرة ما لتلك التي يضمها المجال الفرنكوفوني.
1 - مبادلات وأسفار
المراد إدخال أوسع مروحة ممكنة من القطاعات الاجتماعية في هذا الحوار. هكذا يفترض تطوير برامج للتبادل وشبكات للسياحة الثقافية ما بين الجامعيين وأعضاء الرابطات المكونة للمجتمع المدني, ما من شأنه أن يشجع مشاركة الشباب والنساء, على سبيل المثال, في هذه الورشة. ويجب إنشاء شبكة دائمة تصل ما بين التلامذة والجامعيين الفرنكوفونيين ويوضع بتصرفها منبر للمدارس وللجامعات.
2 - التعليم البينثقافي, التعدد اللغوي, الترجمات ومشاريع النشر
يجب أن يكون تعزيز الألفة لمختلف المنتجات والإبداعات الثقافية في العالم الفرنكوفوني جزءاً من برنامج التعليم, في النطاق الأدبي, على الخصوص. والحال أنه إذا صح وجود ترجمات وفيرة لكبريات الآثار الأدبية الفرنسية إلى لغات أخرى, فإن ترجمات الأعمال المعاصرة في البلاد الفرنكوفونية إلى الفرنسية أو إلى لغات أخرى مستعملة في البلاد الفرنكوفونية تبقى, في المقابل, أندر بكثير.
3 - تظاهرات ذات موضوع موحد
حول محاور موضوعية ذات أهمية مشتركة ما بين البلدان الأعضاء, يمكن لأنواع التعبير المختلفة, الفنية والثقافية, أن تقدم نفسها كل في لغته (مثلاً: تقدم أفلام ومسرحيات ولوحات ونصوص أدبية وأغان وأعمال موسيقية أنتجتها البلدان الأعضاء في لغاتها لتمثل العنصرية وكره الأجانب واللحظات الكبرى لانتصار الديموقراطية أو للمكتسبات الاجتماعية أو للحرية, الخ).
4- تكنولوجيات الإعلام للجميع
يبدو الانتشار في الفضاء الافتراضي مهمة ملحة تقع على الجماعة الفرنكوفونية, لا بصفتها مستخدمة لجادات المعلومات وحسب, بل أيضاً بصفتها منتجة لمواقع ذات منفعة عامة. على هذا المستوى, يحسن التفكير بأن تمول الجماعة الفرنكوفونية, بعد مباراة عامة تتقدم إليها “خطط أعمال busines plans” لإنشاء بوابة start-up أو أكثر إلى الشبكة. ويمكن أن تكون البوابات الأولى مكرسة لخدمات الترجمة من الفرنسية إلى لغات البلدان الفرنكوفونية ومن هذه اللغات الاخيرة إلى الفرنسية.
5- أدوات الملاحظة
في إطار اتفاق بين الدول الأعضاء, يمكن أالتفكير بإنشاء مرقب للثقافات وللحوار بين الثقافات, بحيث يكون نوعاً من مركز للأبحاث يجمع ما بين مقاربات علمية مختلفة ويعنى بمتابعة النشاطات ذات الانتماء الثقافي المتعددة وبتقويمها.
6- دعم الانتاج الثقافي
تشكو أقل البلدان الفرنكوفونية تقدماً غياباً فاقعاً للمنافذ إلى موارد الإنتاج في المجالات الثقافية ذات الكلفة المرتفعة (السينما, الوسائط المتعددة, التلفزيون, إلخ). في هذا الصدد, نوصي بإنشاء مجلس فني يوضع بتصرفه صندوق دعم للإبداع يفيد منه بالأولوية (ان لم يكن حصراً) المبدعون في أقطار الجنوب.
7 - حماية الإنتاج الثقافي
في إطار الجهود التي تبذلها جماعة الأمم لإيجاد آليات قانونية فعالة, يبدو ضرورياً أن تبذل الجماعة الفرنكوفونية جهدها لتحقيق الانسجام ما بين مواقف أعضائها في موضوع الملكية الفكرية.
من المستحسن, أخيراً, أن يبحث في إنشاء إطار دائم للتشاور ما بين الديبلوماسيين والعاملين الفرنكوفونيين في الثقافة لتطبيق ما سبق ذكره ومتابعته في عمل المنظمات الدولية.