وجهة نظر

وجهة نظر
إعداد: د. عدنان الأمين

الدين والسياسة

يحيل مصطلح ''الصراع الديني'' إلى حقب بعيدة في التاريخ (الحروب الدينية في أوروبا أو الحروب الصليبية). وهو لم يعد صالحاً لتفسير أيّ من الأحداث المعاصرة. وفي الوقت نفسه يلاحظ أي مراقب لما يجري من صراع على الساحة العالمية، مدى انتشار النزعات الدينية في كافة الأمم. ويلاحظ أن إيران، الدولة المسلمة، دخلت في نزاع حقيقي مع أميركا التي تستند إدارتها السياسية، من جملة ما تستند، إلى قوى سياسية محافظة ومتدينة رغم أنها دولة ليبرالية.

ليس الدين هو أصل الصراع الذي يسود العالم اليوم. ومن الخطأ، كما يقول غسان تويني في مقدمته لكتاب طارق متري عن الدين في أميركا (مدينة على جبل، 2004)، القول إن حرب أميركا على العراق هي صليبية جديدة. أساس هذا الصراع وضع عالمي تحتل فيه أميركا موقع الإمبراطورية المهيمنة. وتقف في مواجهتها شعوب وأنظمة سياسية متنوعة المشارب والأهواء، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. وتندرج في هذه «الجبهة» أحزاب وتيارات شعبية ودينية، يسارية وقومية، و''عالم ثالثية'' عموماً. وتختلط في شعارات هذه «الجبهة» مصطلحات مثل الاستكبار العالمي ومناهضة العولمة والحرب على الرأسمالية الجشعة وعلى الاحتكارات وعمليات النهب للثروات الوطنية. كما ترفع شعارات تتعلق بحقوق الإنسان والدفاع عن البيئة والفقراء وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها وفي الكرامة الإنسانية، الخ. في هذه الجبهة نجد إيران المسلمة كما نجد كوريا الجنوبية وكوبا الشيوعيتين، وفنزويلا الديموقراطية الاشتراكية. وهي دول تختلف جذرياً في الأيديولوجيات التي تحرك شعوبها. وعلى أطراف هذه الجبهة، ما بينها وبين القطب المركزي (أميركا) تتخذ دول مثل الصين وروسيا مواقع ''وسطى''، تحاول أن تكون سداً أمام الهيمنة الأميركية وأن تكون في الوقت نفسه سداً أمام تعاظم قوة إقليمية جديدة تخشاها (مثل إيران).

 المهم في هذه اللوحة المرسومة على عجل أن المواجهة العالمية كان لها خريطة جيوسياسية معينة في زمن الإتحاد السوفياتي والحرب الباردة (نظام القطبين) فأصبحت لها خريطة جديدة مع انهيار الإتحاد السوفياتي. انتقل الأمر من صراع بين قطبين إلى صراع بين قوة مهيمنة عالمياً وقوى معارضة أو مناهضة أو مقاومة لتلك الهيمنة. وهذه الخريطة الجديدة لا توصف بمصطلحات تنتمي إلى الدين.

 لكن إذا ما ركّزنا المجهر في هذه الخريطة على كل من إيران وأميركا تحديداً نجد أن للدين فيهما مكانة مهمة. وهي مكانة «داخلية» أو ''حاضنة'' إذا صحّ التعبير، مع فروقات جوهرية بين البلدين. فإيران دولة إسلامية قامت ثورتها الخمينية، ضد الشاه، على المصطلح الديني، ونشرت ترسانة من المعارف والقيم وآداب السلوك بني عليها النظام السياسي. وتم ذلك بصورة لم يكن معها ممكناً التصالح مع رجالات مثل شهبور بختيار والحسن بني صدر. وبعد سنة على الإطاحة بالشاه بدأت الثورة الثقافية التي أدت إلى التخلص من كل أشكال المعارضة بتُهم التكفير والتغريب. بل إن الصراع العالمي القائم حالياً أضعف المتدينين المعتدلين في إيران لصالح المحافظين المتشددين.

رغم ذلك، نقول أن الدين ليس هو جوهر صراع إيران مع الغرب. ولا جوهر الهيمنة الأميركية. يصنف الدين، في أية نظرية انتروبولوجية، في باب الثقافة. والثقافة تشمل المعتقدات (الدين) وأنماط العيش والقيم (الاجتماعية) واللغة (في مستوياتها المختلفة: الفصحى والعامية واللهجات). الثقافة تشكل ''روح المجتمع'' كما كان يقول رالف لنتون، عالم الأنتربولوجيا الأميركي. ويجري نقلها من جيل إلى جيل، وتعطي المجتمع هويته وقدرته على البقاء. ومن حيث المبدأ لا يؤدي اختلاف الثقافات إلى صراع بين المجتمعات، كما أن وجود عناصر ثقافية مشتركة بين مجتمعات معينة لا يؤدي إلى الوحدة السياسية. إن كون العرب يتكلمون لغةٍ واحدة، أو يؤمنون بدين غالب (الإسلام) لا يعني أنهم موحدين سياسياً، وليس ما يدل على أن هناك نزعة حقيقية إلى مثل هذه الوحدة. كما أن وجود عناصر ثقافية مختلفة بين الدينين الإسلامي والمسيحي لا ينفي ولا يؤكد احتمال نشوب نزاع بين المسيحيين والمسلمين العرب، أو بين المسلمين العرب والمسيحيين الأوروبيين أو الأميركيين. والدول العربية ''المعتدلة'' بالمصطلح الأميركي، هي دول إسلامية بامتياز. وتنظيم القاعدة هو تنظيم إسلامي. وإذا كانت الديانات الإسلامية واليهودية تتفق على قيم مشتركة تتعلق بالخالق أو بالحياة الآخرة أو بالعائلة أو بالإجهاض أو بختان الذكور فهذا لا يعني أن الدينيين على وئام في ظل احتلال فلسطين وأراض عربية أخرى من قبل إسرائيل. أصل الوحدة والانقسام، التحالف والصراع، بين هذه الأمم ذات الأديان المختلفة يكمن في مكان آخر.

وما يصح على شعوب ذات ثقافات مختلفة، أو ذات عناصر ثقافية مشتركة، يصح على جماعات ذات ثقافات فرعية مختلفة في المجتمع نفسه. ولبنان مثال على ذلك. لقد شهد لبنان حرباً امتدت خمس عشرة سنة كان أبرز معالمها الصراع بين المسيحيين والمسلمين. لكن خلال هذه الحرب لم يرفع شعار ديني واحد، ولا تناهى إلى أحد أن المقاتلين كانوا أساساً من المؤمنين أو المتدينين الممارسين. لذلك استعمل مصطلح آخر في وصف تلك الحرب: الطائفية. والطائفية تعني استنفار المنتسبين إلى دين معين (بغض النظر عن درجة تدينهم) دفاعاً عن حصتهم في السلطة وفي توزيع الثروات والمغانم. ومعظم أمراء الحرب كانوا من غير الموصوفين بالتدين. الطائفية أساسها ''العصبية'' أو النعرة لذوي القربى والرحم وأهل الملة، ومن «لبس جلدة العصبية» منهم على ما يقول ابن خلدون. ولا يغير في الجوهر السياسي لهذه الحرب أنها شهدت فصولاً من القتل ''على الهوية'' (الدينية) أو على حتى على الاستعمال اللغوي (لفظ كلمة بندورة مثلاً أو غيرها).

لكن في الحرب اللبنانية، كما في الصراع العالمي، ثمة مكانة للثقافة (والدين ضمناً) تتمثل في التعبئة ''الداخلية''. لا تستطيع القوى الاجتماعية الصاعدة التي تقود النزاع ضد جماعة أخرى أو دولة أخرى أن تقوم بعملها من غير وقود. وهذا الوقود يؤتى به من الثقافة. الحرب بحاجة إلى بشر، وهي لا تتم رغماً عنهم، ولا خفية عنهم. يجب أن يقبل البشر على الحرب «من تلقاء أنفسهم». لذلك تتخذ القوى المسيّرة للصراع اللغة والمعتقد الديني وأنماط العيش والقيم مطية لدفع العامة إلى التماهي معها من خلال عملية تحوير متراكمة من الهوية (الثقافية) إلى الأغراض السياسية. ولكي تتم عملية التحوير هذه فإنها تحتاج إلى الأيديولوجيا.

يعرّف ريمون بودون عالم الاجتماع الفرنسي الأيديولوجيا بأنها تحويل لنظرية فكرية أو لمعتقد إلى خطاب مبسّط وأفكار مسبقة. ويجري نشر هذا الخطاب وتداوله على نطاق واسع وفي شتى ثنايا الحياة الاجتماعية للبشر، لكي يصبح (الخطاب) مُسيراً لسلوكهم السياسي. فيصبحون مستعدين للاقتراع الكثيف والاعتصام والتظاهر والعصيان والتضحية بالذات والمشاركة في الحروب. وبهذا المعنى ليست الأيديولوجيا مقتصرة على الأحزاب السياسية، ولا هي مقتصرة على الأحزاب الشيوعية، كما تشيع في الأدبيات السياسية الأميركية. بل أن تشييع هذه الفكرة هو أيديولوجيا بذاته.

ميزة الأيديولوجيا أنها تحول الأجندة السياسية للقوى ذات المصلحة في إعلان الصراع والحرب إلى أجندة شعبية. وهي تتسلل من أجل ذلك في الثقافة بكافة عناصرها، وأول هذه العناصر الدين. إن الاستخدام السياسي للأديان، تحت وطأة الأيديولوجيا له أربع ميزات. أولها، أن الدين يسمح بمخاطبة كل ''الرعية''، ولا يقتصر على المحازبين. وتتم هذه المخاطبة عبر كافة مناحي الثقافة من طقوس الولادة والزواج والوفاة إلى العادات والتقاليد والقيم واللغة، وبحيث يظهر «العدو» وكأنه يهدد الثقافة بذاتها. وثانيها، أن الدين محافظ بطبعه. لذلك تجد الأيديولوجيا في رجاله (رجال الدين) غلاة يمكن الاتكال عليهم. وثالثها، أن أمكنة العبادة تصبح وكالات أساسية في الترويج والتعبئة بصورة صريحة أو ضمنية. ورابعها، أنها بواسطته تخاطب البالغين والصغار معاً، ما يسمح بتأمين استدامة الأيديولوجيا لدى أكثر من جيل. وفي مثل هذه السياق لا يصح النظر إلى الدين كنص ولا كمجموعة قيم مشتركة عبر العالم، ولا كلاهوت أو فقه أو ما شاكل، بل باعتباره مطية ناجعة في تجذير الموقف السياسي للقادة في ثنايا المجتمع.

لقد كتب جون دين، الذي كان مستشاراً  قانونياً في البيت الأبيض في عهد نيكسون والوجه الأبرز في الكشف عن فضيحة ووترغيت، كتب يقول أنه توقّع عندما نشر لأول مرة كتابه ''أسوأ من ووترغيت: الرئاسة السرية لجورج بوش'' (2004) ، أن الأميركيين لن يقترعوا مجدداً لبوش، وذلك لكثرة الادلة على نفاق هذا الرجل. وقد فوجىء، كما يقول في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب نفسه أنه حصل العكس. والسبب أن «الحقائق» المتداولة حول بوش لم تصل إلى جمهور عريض يتعرض لضخ أيديولوجي كثيف، في وقت تعلن فيه إدارته الحرب على الإرهاب في أفغانستان والعراق، وتحذّر من خطر عمليات محتملة للقاعدة. ربما لم يتلق رئيس أميركي سابقاً هذا القدر من النقد والهزء كما تعرض بوش. ورغم ذلك كانت صناديق الاقتراع تجدد له، وكانت شرفات المنازل في أميركا تعلق هذا القدر من الأعلام الأميركية دلالة على تأييد الناس له ولسياساته الدولية.

الأيديولوجيا تصم الآذان أيضاً وتحجب النظر. ولم يكن انتشار الظاهرة الدينية بكثافة في المجتمع الأميركي في السنوات الأخيرة، والتي شكلت قاعدة صلبة لإعادة انتخاب بوش، السبب الوحيد لسطوة الأيديولوجيا. بل دُعمت بالتحكم بوسائل الإعلام، وهي الوسيلة الفعالة على المستوى الجماهيري العام في طمس حقائق والمبالغة في أخرى. وهذا أسلوب تعتمده في أميركا قوى سياسية ذات أعماق متعددة اقتصادية وعسكرية ودينية، وتستخدم مفهومي الخير والشر كمفتاح لأيديولوجيتها السياسية. وعندما نشر جون دين كتابا جديدا في العام 2006 بعنوان «محافظون من دون ضمير» وصف فيه المحافظين الاجتماعيين والمحافظين الجدد بأنهم متسلطين وغير عقلانيين ولا أخلاقيين.

أما في إيران، فقد كتب فوكو يقول عن الثورة الخمينية، عند انطلاقها، أنها «سياسة روحانية» حركت ملايين البشر في مواجهة الشاه وحلفائه الأميركيين. وقال لمنتقديه اليساريين أنه لا يصح أن نطبّق على الثورة الإيرانية المفهوم «الحديث» أو «الغربي» للثورة. ولا أدري ما إذا كان فوكو سيقول لو عاش ما بعد العام 1984 وشهد ملايين الأصوات تصب لبوش، بأنه لا يصح أيضاً أن نطبّق المفهوم «القديم» للهيمنة الرأسمالية على أميركا اليوم.