نافذة

وحده الكَرَزُ هناكَ بَكَى...
إعداد: روني ألفا

خَبِرناكُم في البَحر الهائِج. كنتُم كواسِرَ الأمواج. ميناء الأمان وسَفينَة مرقَّطة بمَجد بَحّارٍ عَتيق. في البَرِّ ترَجَّلتُم عَن دَمِكُم. عَن صَهوَةِ التنفّسِّ الرّتيب. انتَعَلتُمُ المَوتَ حِذاءً مِن جِلدِ الازدِراء. وَجهُكُم وَطَن..وِجهَتُكُم كَفَن. رِحلَتُكُم حَجيجٌ إلى مدنِ الضّمير. عَودَةٌ مَضمونَةٌ إلى الذاكِرَة الجَماعيَّة. تَخطبونَ ودَّ المعرَكة. تَعقِدونَ قِرانَكُم عَلى أُنثَى الخَطَر. عُنفُكُم مقدَّس. عَطفُكُم مِعطَفٌ مِن راحَةِ البال. يتناثرُ مثل رَذاذِ الشّجاعَة. يسقُطُ مثل البلّور عَلى خاتَمٍ نَبَوي. أشرِعَتُكُم مَرصودَةٌ للنّصر. أناشيدُكُم تُطرِبُ الملائِكَة. لا تُحسَبونَ بالعَديد. لا تُحسَبون بالعِتاد. شُجعانُكُم صنّفوا جيشَكُم أبسَل جيشٍ في العالَم.
لا تَنسوا الحريَّة. تربَّت عَلى حُرجِكُم. رَضعَت مِن بارودِ بَنادِقِكُم. أكلَت مِن أرغِفَةِ سَهَرِكُم. أنتُم أبطالُها. خَبَزتموها رَغيفًا يؤكَل. مَعكُم بَكى لبنان كلُّهُ. تبسَّمَ لبنان كلُّهُ. أنجَزتُم أكبَرَ انتِصارٍ في التاريخ الحَديث. انتِصارٌ جيّشت لَه أقوى دولِ العالَم الملياراتَ والتقنيات. كنتُم أقوى. انتَصَرتُم بروحِكم القِتاليَّة. بِعقيدَةٍ تساوي ألف دبّابَة وألفَ طائِرَة حربيَّة. فجرُ الجُرود تصبِّحُكم بالخَير كلَّ صباح!
في كلّ مرَّةٍ تَضعُكُم الظّروف المتوقّعَةُ على تُخومِ جبهَةٍ غير متوقَّعَة. لَم تَخوضوا طِوالَ نِضالِكُم حربًا تقليديَّة. أنتُم جيشٌ فَريد. صُنِعَ لِتذليل عقبات غير منتَظرَة. لِتَحقيق معجِزات غير متوقَّعَة. لَم تُصادِفوا في حياتِكُم العَسكريَّة نَموذَجًا إلا وكان صالِحًا للتدريس في الكليات الحربيَّة ضمن خانة «المعجِزاتِ الممكِنة». كنتم دائمًا في حالَة امتِحان. حالَة تأهّب لِمواجَهَة المَجهول. آخِرُ إنجازاتِكُم الرائِعَة عِشقُكُم لِشعبِكُم. سَيَّجتُم صرخَتهُ وحنجرَتَه. ضمَّكُم إلى صوتِهِ وبَحّتِه وأخرَجَكُم نشيدًا. لَم أرَ جيشًا في العالَم يتحوَّلُ إلى نَشيدٍ في حناجِر شعبِه كَما تحوّلتُم.
شيءٌ مِن لبنان يَعبَقُ مِن بزّتِكُم. رائِحَةُ خَليط من مَسحوقِ الصّنوبَر البَرّي والسنديان العَتيق. أكادُ أشمّهُ في كلِّ بيتٍ تسكنُ إحدَى خزائِنه ببزة عسكريَّة. مرَّ عليكُم ألفُ إعصار. مئَة ألف صاعِقَة. بقيتُم عَلى طقسِكُم المعتَدِل. مُشمِسونَ وبِحرارَة معتَدِلَة. بعضُ مَن انتابَتهُم ظنون النّصرِ عليكُم سُحِقوا. قتلَهم العِطر. الإرهابُ يَكرهُ الصنوبَرَ البَرّيَّ والعَفص. لا ينبتُ في حقلِ الحِقد شَجَرٌ باسِق. بعضُ العَقائِد مثلُ الأرضِ البور. اختصاصُها الشّوك والصبّار.
سيُثبِتُ التاريخُ يَومًا أنّكم أنقَذتُم لبنان. كلامُ القائد. رَجُلٌ يتحدّثُ مع التاريخ. يُخرِجُ منه حقيقَةً لا يُحسِنُ التاريخ البَوحَ بِها. التاريخ يحكي بلسانِ القادَة. لا يجرؤ على هذا التّصريح إلا المسلَّح بالضّمير والمُدجّج بالكِبَر. أقوى الناس مَن لا يطلبُ شيئًا من الناس. مَن لا يريدُ شيئًا. مَن يَزدَري بالأشياء. تخيّلوا. التاريخُ يصبِحُ ناطِقًا رسميًّا باسمِكُم. اشمَخوا.
الجغرافيا أيضًا ثرثارَة. تَحكي للدّوَل المجاوِرَة ماذا حقّقتُم. جغرافيا رافَقَت نِعالَكُم. عايشَت صَيفَكُم وشِتاءَكُم. تمنّت لَو أنبَتت لَكُم في الجردِ كَرَزًا. كثيرٌ مِن الكَرَزِ بَكَى في الجرود. أرادَ أن يسيلَ دَمُهُ الأحمَر فِداءً عَن أعناقِ شهدائِكُم. وحده الكَرَز هناك بَكَى.
قاتَلتُم الجَهل عَلى الحدود. دَفنتموهُ هناك. عِشتُم عَلى الوَجبَةِ الناشِفَة. تناولتموها وقوفًا. تهكّمتُم على الجوع. لَم تتضَوّروا جوعًا إلا إلى الخدمَة. انضِباطُكُم كانَ وجبَتَكُم المفضَّلَة. حساؤكُم مِن عشبِ السّهَر. ماؤُكُم زَمزَم وسانت لورد.
رأيتُ الشّعبَ في الآونَةِ الأخيرَة في رؤيا يَقول: أحِبّوني. أحببتموه. قالَ أحبّوني أكثَر. أحببتموه أكثَر. في كلِّ يَومٍ يطالِبُ الشّعبُ تجَديد عقدِ الحبّ. في كل يَومٍ تجدّدونَ العَقد. عندَما يصبِحُ حبُّ الناسِ بهذا العمق يتحوّلُ إلى شجرَة معمِّرَة.
شعبٌ وجَيش. قصَّةٌ تُروى كلّ يَوم عَلى طرقات الوَطَن. عَلى مَفارِق القُرَى ووسطَ المدن وفي قلب العاصِمَة. تَكادُ الأيدي تتلاقَى. يعرِفُ الناس ماذا يَضمُرُ الجندي. لا يَحتاجونَ إلى أجوِبَة. تَكفيهم دَمعَة بينَ الفَينَةِ والفَينَة. دَمعَة واحِدَة أبلَغُ مِن ألفِ مكبّر صَوت.