نافذة مفتوحة

وحش بلا روح
إعداد: العقيد دانيال الحداد
من مديرية التوجيه

قبل أن تفتح الشمس ذراعيها للفجر، وينسحب الليل إلى الوراء، ينهض وحش الباطون من نومه المتقطع، المشحون بقلق الانتظار، ثم يبدأ بالزحف في كلّ اتجاه، غارزًا أظافره الحديدية في قلب التراب، وممتصًّا بأنيابه الفولاذية دمه الطاهر حتى آخر نقطة.
يسحق كلّ ما وقعت عليه أقدامه الهمجية، فتنحني لمشيئته قامات الزهور، وتتلوى لجبروته بواسق الأشجار، رافعة راية الخضوع والاستسلام، فيما يسرع بعضها طوعًا إلى الانتحار، استباقًا لحتمية المصير الأسود.
بجوعه الذي لا ينتهي يلتهم الأرض وما عليها، من أخضر ويابس وجامد، لكنه لا يكتفي، فيلجأ إلى قضم الفضاء صعوداً، وحبذا له لو استطاع اعتلاء سطح القمر!
لم يعرف اللبنانيون في تاريخهم وحشًا كهذا الوحش، له ألف رأس وقدم ومخلب، يسرق من النفوس الحلم والسكينة والطمأنينة، ومن أرض الأجداد والآباء ما كانت عليه من سحر ورونق وجمال، ومن تراثٍ زاهٍ راكموه بعرق المحبة وسواعد الخير...
لم يكن في بالهم يومًا أن تستحيل حقول القمح في سهولهم، وغابات الصنوبر والسنديان والعفص في جبالهم، وجنائن الليمون والرمان والكرمة في سواحلهم، كتلةً رماديةً صلبةً، تتجنّبها الطيور، المسالمة منها والكاسرة، كما الأنسام العليلة الطرية، والسحابات البيضاء المحمّلة بالماء النقي والثلج الناصع.
ولم يكن في بالهم أيضًا، أن تصبح الأنهار والينابيع والعيون في السفوح والأودية، على غير معناها الحقيقي، وقد نضبت مصادرها، أو ابتلعها المالح الكبير، أو غارت في أعماق الأرض إلى الأبد.
لقد تعلّمنا في مدارسنا الأولى وما تلاها، أنّ الأرض هي أساس وجود الوطن، فكيف يطمئنُّ الشاب اللبناني إلى مستقبله، وقد وضع أمام خيارين، إمّا تخصيص جنى العمر لحجز مقعدٍ هزيل أشبه بالسجن في كنف هذا المزعج الخطير، وإمّا الفرار إلى أصقاع الدنيا بحثًا عن مساحة خضراء ومأوى يستظلّ فيه بسلام.
نعم إنها الحقيقة المؤلمة، التي بات يدركها الجميع، لكن الحقيقة الأشدّ إيلامًا، هي أننا قد صنعنا هذا الوحش بأيدينا، صنعناه يوم استخففنا بنعمة التراب في بقعة محدودة المساحة، كثيفة السكان، وسمحنا باسم المدنية والحضارة والانفتاح والرفاهية حينًا، وباسم حروب الآلهة وأدواتها حينًا آخر، للطمع بأن يدمّر إنسانيتنا، وللمال بأن يفسد عقولنا، وللتجارة الرخيصة بأن تتسلل إلى بيت أبينا.
وبعد كلّ هذا، هل نصغي إلى نداء ضمير الوطن، فنسارع جميعًا إلى إنقاذ طبيعته وهي الجزء الثمين من رسالته الخالدة، وهل نتعظ ولو لمرّة واحدة، فنهبّ للقضاء على هذا الوحش القابع في أعماقنا، قبل أن يتحوّل إلى وحش بلا روح، عصيّ على كلّ حيلة وسلاح...