وقفة وفاء

وحياة اللي راحوا...
إعداد: ندين البلعة خيرالله

«ست الدنيا» انضمّت إلى قافلة الشهداء الذين رووا أرض الوطن، ودماؤهم تسري في عروق المؤسسة العسكرية. اعتادت هذه المؤسسة تكريم شهدائها، فكيف إن كان الشهيد هو قلب الوطن؟

 

توقف النبض في بيروت يوم ٤ آب ٢٠٢٠ عند الساعة السادسة وسبع دقائق، فأعطتها المؤسسة العسكرية جرعة حياة بعد شهر تحديدًا، بنبض الشهداء الذين زيّنت أسماؤهم نصبًا وسط مرفأ بيروت. نصب أُنجز خلال ٢٤ ساعة، حتى لا تمرّ هذه الذكرى الأليمة من دون وقفة وفاء، فشهداؤنا لا يموتون، بل هم خالدون في ذاكرة جيشنا الذي لا يفوّت فرصة لاستذكارهم.

هناك، على بُعد أمتار من الإهراءات، في المكان الذي اختطف أبناءهم، وقف عدد من أهالي الشهداء ومعهم أهالي المصابين وممثلون عن مختلف القوى الأمنية والأجهزة المعنية بالمرفأ، إلى جانب قائد الجيش العماد جوزاف عون الذي أدّى تحية الشرف مختلجةً بدموع الأسى. انحنى على والدة ذلك الشهيد الشاب، حضن معها قلب كل أم وأب، وشقيق وشقيقة وخطيب وزوجة، وحاول تجفيف تلك الدموع حتى ولو لبرهة.

توحّدوا جميعًا حول المؤسسة التي رثت شهداءها الثمانية الذين لم تجفّ بعد دماؤهم، وضمّدت جراح مصابيها الذين فاق عددهم الثلاثمئة، والذين كانوا أيضًا ضحية هذا الانفجار، وقامت تواسي الأهالي المنكوبين. تسمّرت عيونهم التي سكنها الحزن على البزّة العسكرية، وصمتت كل الأصوات حتى صوت أمواج البحر وهدير السيارات، إلّا صوت موسيقى الموتى ترافقها صفارات سيارات الدفاع المدني وأصوات الوحدة الوطنية التي تجلّت بقرع الأجراس ورفع الآذان في المساجد.

توقّفت الحياة من جديد لمدة دقيقة، تلك الدقيقة التي كانت كافية منذ شهر لتحوّل بيروت الحياة إلى رماد الموت، رماد الحياة للبنان. وقفوا جميعًا وقفة عزّ وفخر، وحملوا صور أبطالهم موحّدين قسمهم بقسم جيشهم أن «لن ننساهم أبدًا».

عشر دقائق من الصمت والغضب، دوّى صداها أكثر من عصف نيترات الأمونيوم ونشاز التصريحات الإعلامية... دوّى هذا الصمت من أجل شهداء وضحايا اللحظة المشؤومة، ومن أجل دموع القلوب المفجوعة.

وتهبّ نسمة أمل لأهالي الشهداء من المؤسسة التي تشاركهم آلامهم وتعرف حق المعرفة قيمة خسارتهم، وتثمّن دماءهم وتضحياتهم. مسؤولية جديدة تضيفها المؤسسة الأم إلى التزاماتها حيال عائلات شهدائها، ألا وهي احتضان عائلات شهداء الوطن المدنيين، مثبتةً يومًا بعد يوم ليس فقط قربها من أهلها، وإنما وجودها في قلب مآسيهم.

وكما في كل مرة كان الجيش السباق إلى لملمة جراح أهله. لم يغمض له جفن منذ لحظة وقوع الانفجار، أخلى المصابين، لملم الجراح التي أصابته ونهض لينهض بالوطن. وضع في سلّم أولوياته، حتى قبل إحصاء أضراره ومعالجتها، تضميد جراح الناس ومعالجة الأضرار التي أصابتهم. حفر في الركام بيدَيه ليبرّد قلوب الأهالي على مفقوديهم، شارك الناس دموعهم وآلامهم وحدادهم. تنفّس الغبار ووحّد جهوده مع جهود أهله لإزالة الركام. مسح الأضرار، حمى أرزاق الناس وممتلكاتهم، وتولّى مسؤولية مَدِّهم بالمساعدات.

كيف لهذا الجيش الذي قدّم التضحيات العظام في سبيل وطنه، أن يتغاضى عن مآسي شعبه؟ وكيف لا يغضب لغضبهم، هذا الغضب الذي عبّر عنه في هذه الذكرى الأليمة بطلقات نارية أطلقتها حضيرة تكريم الشهداء في وحدة من وحدات النخبة في الجيش، فرع المكافحة، في الهواء الذي نظّفه من غبار الموت؟

وها هو بعد شهر على نكبة بيروت، يطبع قبلة على جراح الوطن، ويقدّم زهرةً بيضاء لشهدائه، زهرة السلام المرجو وزّعها على أهالي الشهداء ليكلّلوا بها نصبًا سيبقى شامخًا، شاهدًا على خسارتهم الأليمة وتضحياتهم الثمينة. ويقسم من جديد «وحياة اللي راحوا» ستبقى هذه المؤسسة أمل لبنان، والشعلة المضيئة لمستقبل أبنائه نحو غدٍ أفضل!

 

بالتعاون والإرادة

تحقيق نصب بضخامة «وفاءً لبيروت» خلال ٢٤ ساعة لهو معجزة لا تتحقّق سوى بالكثير من التعاون والإرادة الصلبة... وهذا أقل ما يستحقه شهداؤنا وجرحانا!

أقامت قيادة الجيش نصب «وفاءً لبيروت» بالتعاون مع شركة «ترايكوم ش.م.م» بشخص مديرها ربيع كرم، تكريمًا لأكثر من١٩٠ شهيدًا و٦٠٠٠ مصاب. هذه المناسبة كانت دافعًا لكل من عمل على تحقيق هذا المشروع الذي يتطلب أسبوعَين في الحالات الطبيعية، لكنّه نُفّذ خلال ٢٤ ساعة فقط! وقد نفّذه مكتب القائد بالتعاون مع الشركة، وضباط وعسكريين من فوج الأشغال المستقل ومديرية الهندسة، ومهندسين زراعيين من مقر عام الجيش.

عند تقاطع ثلاثة محاور رئيسة تربط بيروت بالمرفأ، حوّل هذا التعاون المكان من كومة تراب كئيبة إلى نصب خالد بخلود ذكرى الشهداء وأوجاع الجرحى. وفي كل تفصيل من تفاصيله، نقرأ قصة بيروت: ضحايا بذلوا أرواحهم من أجل لبنان نشعر براحة أرواحهم، جرحى نسمع أنين أوجاعهم، أطفال وأهالٍ مرعوبين يدوّي صراخهم، طرقات ملأها الردم، مبانٍ عظيمة تهدّمت، وزجاج تكسّر وحديد تطاير... باختصار إنّها قصة كل بيروت!

جداران عظيمان يمثلان من جهة المرفأ ضخامة الانفجار، ويضيقان بانسيابيةٍ انحناءً لبيروت، فيحميانها محتضنَين وحاصرَين بينهما كل جراحها المتمثلة بالزجاج والحديد: أعمدة بيضاء ترمز إلى أرواح الضحايا شهداء كل لبنان، وقطع زجاج مكسور دلالةً على الندوب التي تركت أثرًا عميقًا وحزينًا على أجساد الجرحى. وخارج الجدارَين حدائق أمل وحياة، تطلّ على بيروت كرمز لمقاومة الدمار والنهوض من جديد، وأسماء الشهداء منقوشة على الحجر لتبقى خالدةً بخلود تضحياتهم.

٢٤ ساعة ورشة مفتوحة، سخّر الجميع فيها قدراته وجهوده، فكلمة «اعتبرُوا خِلْصِت» تحمل مسؤولية كبيرة اعتادت شركة ترايكوم على تحمّلها في مشاريعها مع قيادة الجيش، ولها العديد من الخبرات في ذلك (كترميم نصب السلام وواجهات وزارة الدفاع بسرعةٍ قياسية...).

بقي مجبل السبع للباطون يعمل طوال الليل لتأمين اللازم، وقام مختبره بإضافة المواد اللازمة إلى جدران الدعم والأساس حتى تجف وتصبح جاهزة بسرعة قياسية. وبعد استكمال العمل البنائي، قام المهندسون الزراعيون بغرس أشجار الزيتون، التي ترمز إلى الخلود ومقاومة الموت، حول النصب. وساعد عسكريون من فوج المدفعية الأول وقاعدة بيروت البحرية وموسيقى الجيش، في تنظيف الموقع وتجهيزه وتحضيره ليليق بالمناسبة وبالجهد الاستثنائي الذي بذله أكثر من ٢٠٠ ضابط وعسكري وعشرات العاملين في ترايكوم لتحقيق هذه النتيجة.

يمتد النصب على مسافة ٦٠ مترًا وإنجازه تطلّب تذليل صعوبات تقنية كثيرة. التعاون بين الجميع حقق الغاية، فتم إنجاز هذا النصب الذي أرادته القيادة ذكرى لخلود شهداء انفجار المرفأ ووفاءً لآلام مُصابيه، ولكي لا ننسى هذه الجريمة الكارثة.