رحيل الكبار

وداعاً سعد سامي رمضان

يتحوّل مجلس العزاء بالراحل سعد سامي رمضان الى جلسة استعادية لأخبار علمه وثقافته وأخلاقه، ولا غرابة في أن يروي الراوي ما يرويه عن ذلك، والابتسامة على وجهه تحبّباً ورضاءً وتكريماً وإعجاباً وتحية وأملاً بالعثور مجدداً على سعد سامي رمضان جديد في أحد أحياء بيروت... أو على الأقل، في مكتبة إذاعة ما يعدّ برنامجاً أو يتفقد شريطاً، أو على الأقل الأقل في أرشيف تلك الإذاعة مسجلاً صوته، تاركاً لمساته، ناشراً روحه في كل دورة من دورات تلك الأشرطة القديمة التي ما إن ينوء أحد فرعيها بالخيط الطويل المسجل حتى ينفض الآخر كتفيه فرحاً وخفة، ويروح يدور ويدور مسرعاً في مكانه على محور آلة ال "ريل" سيدة الآلات في عصرها.
وتمسح دنيا دمعتها، وبجانبها زوجها الطبيب شفيق طبارة، لتتكلم عن والدها أناقة وترتيباً متذكرة: "خلال الأحداث الأليمة المنصرمة كنا نهبط، كما يفعل الجميع، الى الملجأ، حين يشتد القصف العشوائي المجنون. وكان "بابا" يستمهلنا قليلاً ريثما يبدل قميصه ويحضر ربطة عنقه، وكنا نبدي العجب ممزوجاً بالغضب، ونحذره من مغبة أي لحظة تأخير، لكنه كان يدعونا الى الاتكال على الله والتروّي وهو يقول: عيب، لازم رتب حالي، شو بيقولوا الجيران عني، وبلكي طولنا بالملجأ؟ الاحترام واجب".
أما محمد كريم، رفيق عمره في العمل الإذاعي، وفي كل عمل، فيروي: طرحت عليه مرة أن يكون مرتب إحدى الموظفات مبلغاً ما عن نشاط فني قامت به. لكنه رأى أن المبلغ كبير ويجب تخفيضه. حصل بيننا نقاش بسيط، أذعنت بعده لرأيه. وفور وصولي الى منزلي مساءً هبّ أفراد عائلتي جميعاً ليخبروني أن سعداً قد اتصل بي أكثر من مرة، وطلب أن أكلمه حالاً لأمر مهم. وما كان الأمر المهم؟ لقد كان أن رفيقي عاد وفكر بموضوع مرتّب الفتاة الموظفة، ورأى أنها تستحق ما اقترحته أنا. قلت: ألا يمكن تأجيل ذلك الى الغد يا سعد؟ فقال: لا، يجب ان أنصفها فتقرّ عيني هذه الليلة.
أما زوجته نهلا، المستمعة، والغارقة في فضاء الذكريات، فتذكر أنهما، هي وهو، كانا يمشيان أحياناً في شوارع حيّهما هرباً من الجلوس المستمر في المنزل. وكانت ذاكرة الرجل في الأيام الأخيرة قد أُصيبت بالتعب. فحصل أن مرّ بهما صديق ألقى التحية وعبّر عن الاحترام ومضى. بعد ذهابه سأل رفيق الدرب: من هذا، لم أعرفه؟.. ولو يا سعد، ذاك فلان صديقك. فراح يضرب على رأسه، ويطلب العودة السريعة الى غرفته لكي يتصل بالصديق على الفور معتذراً.
والكلام على الآداب والأخلاق قد يذهب بنا بعيداً عن الموسيقى لدى سعد سامي رمضان، وهو في ذاكرة الناس الإذاعي المرتبط بالأصالة والمخلص للتراث. كثيراً ما عاد بالجيل القديم الى الطرب الأصيل الذي آمن به، وكثيراً ما عرّف بعض الجيل الجديد الى ذلك بأسلوبه الشيّق وسعة معلوماته، كيف لا وهو صاحب اللقاءات العديدة مع أكثر من مطرب وملحن وفنان، من أم كلثوم الى عبد الوهاب الى بديعة مصابني الى فريد الأطرش الى عبد المطلب الى عاصي الرحباني... كما كان له كتابان في هذا الإطار: "أم كلثوم صوت في تاريخ أمة" و "عبد الوهاب تاريخ في حياة أمة"، إلا أن عطاءه كان تلك البرامج الإذاعية المتنوعة التي قدّمها على مدى السنين، والتي سيكون في إعادة بثها، في وقت ما، تكريم لذكراه وفرح لمستمعيه.

أ. م.