آفاق العلوم

وعند الحشرات أيضاً تسلّط وتحكّم وتلاعب
إعداد: رويدا السمرا

الجرادة تقفز الى الماء لتغرق فيه! هذا ما يحصل فعلاً في الطبيعة لأن نوعاً من الطفيليات يتلاعب بجزيئاتها، فيتحكّم بسلوكها! إنها ستراتيجية بيولوجية فريدة، يتوصل العلماء اليوم الى الكشف عن خباياها.

 

جرادة تنتحر!

مضت ساعات وهي تقفز وتقفز في العشب، وكأنها تقصد شيئاً معيّناً. إنها الجرادة الصغيرة من نوع "Meconema thalassinum". من يراقبها يعتقد في بادئ الأمر، أن هذه الجرادة تبحث عن حشرات ميّتة مثل ذباب الخل أو الذباب الصغير، لتشبع نهمها. ولكن لا يبدو أن الجوع هو الذي يقود خطواتها. فهي تتّجه بثبات، الى جدول، تجري مياهه في أحد المنخفضات الأرضية، وتقفز إليه لتغرق في عمقه! ومهما بدا الأمر غريباً، فإن الأكيد أن هذه الجرادة قد انتحرت.

في العام 2002، إنكبّ فريق من الباحثين في علم الأحياء في مونبولييه - فرنسا، على دراسة هذه الظاهرة الطبيعية الغريبة. وتوصلوا الى الاستنتاج بأن عملية الانتحار هذه، تخفي وراءها «جريمة قتل» متعمّدة، تقوم بها دودة طفيلية، إختارت جسم ضحيّتها لتسكن فيه! أمّا هدفها من ذلك فهو الوصول الى بيئة مائيّة، حيث يمكنها أن تتكاثر. ولكن ما هو السلاح الذي تستعمله هذه الدودة لتنفيذ جريمتها؟ إنها قدرة «شيطانية» تؤثر بها كيميائياً على دماغ مضيفتها الجرادة، لإخضاعها لمصير تعيس.

 

عالم الطفيليات المتسلطة

توصّل فريق مونبولييه إلى إلقاء الضوء على المحفِّز الجزيئي وراء هذه الستراتيجية التي نجدها فقط من الناحية المبدئية في عالم الطفيليّات المتسلِّطة. ويعتبر هذا الاكتشاف سابقة في مجال علم الأحياء، يُستفاد منها ليس فقط على الصعيد الطبي، بل أيضاً في النظر الى علم النشوء والتطوّر، من زاوية جديدة مختلفة. ويكفي أن نجلس على حافة جدول ماء، ونراقب جرادة «التالاسينوم» التعيسة الحظ وهي تقفز الى الماء، بأمر من جلاّدها. فما أن تصبح الجرادة تحت سطح الماء، حتى يظهر القاتل: دودة طولها نحو عشرة سنتيمترات، تخرج من جسم الجرادة ولا تلبث أن تتركها وهي تتلوّى، سابحة في الماء. «إنها دودة طفيلية تنتمي الى مجموعة الغورديّات. وهي مجموعة تضمّ نحو ثلاثمئة نوعٍ، تسبّب العدوى لتسعة أنواع على الأقل من مستقيمات الأجنحة (مثل الجراد والجدجد أو صرّار الليل)، وذلك في جنوب فرنسا وحدها. وينتج عن ذلك أن معدّل الأضرار يصل في بعض المناطق الى عشرة بالمئة!»؛ هذا ما يقوله فريديريك توماس، عالم الأحياء في مختبر «ظهور الأمراض المُعدية وتطوّرها» في مونبولييه. ويتابع توماس موضحاً: «في البداية تكون هذه الدودة - وهي في طور اليرقانة التي لا ترى بالعين المجرّدة - داخل جسم الجرادة، حيث تنمو وتصل الى مرحلة البلوغ. عندها تبدأ بالتلاعب بسلوك مضيفتها، لتدفع بها في نهاية الأمر، الى الانتحار غرقاً، بهدف الوصول  الى بيئة مائيّة تتكاثر فيها».

 

ستراتيجية التحكّم

كيف تصل هذه الطفيليّات الى ضحيّتها من مستقيمات الأجنحة؟ «إنه أمر بسيط»، يقول العالم الأحيائي «توماس»، «فبعد أن تضع الدودة الطفيلية يرقاناتها في الوسط المائي، تتكيّس هذه الأخيرة وتتشبّث بواسطة مخالب خاصة، على يرقانة بعض أنواع الحشرات المائيّة مثل جارّة الحطب (حشرة تتغلّف يرقانتُها بغلافٍ تبنيه من النباتات والرمل والمحار). وبعد أن تتحوّل يرقانة الحشرة المائية، الى حشرة بالغة، تغادر الماء الى الهواء الطلق وهي لا تزال تحمل في جسمها يرقانات الدودة الطفيلية. وبعد أن تموت الحشرة المائية، يكفي أن تشكِّل وجبة طعام لإحدى الجرادات أو أنواع أخرى من مستقيمات الأجنحة، حتى تقع هذه الأخيرة في الفخ، وتنمو في أحشائها الدودة الطفيلية حتى تتمّ مرحلة البلوغ. وهنا تبدأ هذه الأخيرة بالتلاعب بجزيئات مضيفتها، وهكذا...
الجدير بالذكر أن البحث في هذا المجال، دام مدّة ثلاث سنوات، قبل أن يتوصّل العلماء إلى الكشف عن الستراتيجية التي تلجأ إليها الدودة الغورديّة، لتتسلّط على مضيفتها الجرادة، وتدفعها إلى الانتحار: تضخّ الدودة الطفيلية في دماغ ضحيّتها، بعض الجزيئات الخاصّة. وتُعتبر ستراتيجية التحكّم هذه - لغاية الآن - فريدة من نوعها في مجال التحكُّم في عالم الحيوان. فعلماء الأحياء كانوا قد حدّدوا لغاية الآن، أنواعاً من استراتيجية التحكُّم أو التلاعب «غير المباشر»، حيث يقوم الطفيلي، بتحريض مضيفه لكي يُفرِز مواداً تتلاعب بجسمه، يقول فريديريك توماس، «ولكن نحن نواجه في هذه الحالة، عملية تحكُّم مباشرة: إنها الدودة ذاتها التي تفرز جزيئات، تؤثّر في سلوك مضيفها بعد أن تنتقل الى دماغه.

 

أنواع أخرى من أشهر الكائنات المتسلِّطة

الدودة الغوردية ليست الحشرة الوحيدة التي تلجأ لأسلوب التسلّط والتلاعب. فهناك أيضاً الدَنَف أو الدودة الطفيلية التي تصيب البقر والضأن في الكبد. وقد ابتكرت هذه الدودة ستراتيجية مميتة، لتبلغ «مسكنها»، وهو كبد الأغنام، حيث تضع بويضاتها. والواقع أن هذه البويضات لا تبقى في الكبد، وإنّما تـخـرج مـع بـراز  الضحـيّة من الغنميّات. وتفقّس البويضات، يرقانات تدخل أوّلاً في معدة البزّاق، الذي يعود ويُخرجها من جسمه، على شكل إفرازات مخاطيّة، تدخل بدورها صدفةً، في معدة النملة. ولا نعرف حتى الآن، ما هي الآليّة البيولوجيّة التي تتلاعب بدماغ النملة الضحيّة، وتتسلّط عليها لتدفعها حتى تقف على الأطراف اليانعة، لنبات البرسيم أو الفصّة، التي تأكلها بشراهة كبيرة... أنواع الغنميّات!! إن هذه القدرة على التأثير في دماغ الجسم المضيف، هي التي تسمح لبعض أنواع غشائيّات الأجنحة كالزنبور مثلاً بالبقاء والتكاثر. فأنثى هذا الأخير، تضع بويضتها في بطن العنكبوت من نوع يذفْه؟ْفي. وتتلاعب الإفرازات التي تُطلقها البويضة، بسلوك مضيفها، لدرجة أنها ترغمه على نسج شرنقة حولها تحتمي بداخلها، بدلاً من أن ينسج لنفسه بيتاً! ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ. فعندما يخرج صغير الزنبور من شرنقته، يهاجم مضيفه العنكبوت ويلتهمه...


حافز الانتحار

الجدير بالذكر أن الباحثين كانوا يعتقدون بإمكانية التأثير على سلوك مستقيمات الأجنحة، عبر تغييرٍ على مستوى الدماغ، تقوم به الدودة الطفيلية. لكنهم لم يكونوا يملكون بعد الإثبات العلمي على ذلك. ومن أجل التوصل الى ذلك، خطر للعلماء الباحثين أن يحلّلوا البروتينات التي يفرزها دماغ الجرادة «تلاسينوم»، في أوقاتٍ ثلاثة مختلفة: قبل انتحارها (أي قبل أن تقفز الى الماء بثوانٍ قليلة)، وخلال الانتحار (تماماً بعد القفزة)، وبعد الانتحار (بعد القفزة بـ 15دقيقة). وقد تمكّن العلماء من القيام بهذه الدراسة، بفضل تقنيّة متطوّرة تسمح بــ «تصوير» مجموع البروتينات التي ينتجها عضو من الجسم، في لحظة معيّنة. وقام الباحثون بمقارنة الجزيئات التي يكشفها التصوير، مع الجزيئات التي تصنعها عادة الدودة الغورديّة الطفيلية. وكانت النتيجة كالآتي: لقد وجد هؤلاء في الجهاز العصبي للجرادة، جزيئات من بروتيين "Wnt"، لم تكن موجودة فيه أصلاً، قامت الدودة الطفيلية بإنتاجها. ولا شك أن عملية نقل هذه الجزيئات الى دماغ الجرادة، تلعب دوراً حاسماً في إطلاق حافز الانتحار غرقاً.
وفي ردٍّ على السؤال: كيف أن جسم الجرادة، لا يكتشف الجزيئات البروتينيّة الغريبة عنه، والتي أفرزتها الدودة؟ يقول العلماء، إن ذلك يعود الى حيلةٍ تتبعها الدودة، تسمى «التكيُّفيّة» أو «التخلُّقيّة الجزيئيّة»، أي الشبه الذي يأخذه بعض الكائنات، إمّا مع البيئة التي يعيش فيها، أو مع الأجناس الأفضل منه، أو تلك التي يعيش عالةً عليها. وهنا لا بد أن نعرف أن الجرادة تُنتج بشكل طبيعي بروتينات الـ "Wnt" وقد تبيّن للباحثين، أن هذه البروتينات تشبه بتركيبتها الى حدٍّ كبير، البروتينات التي تبثّها الدودة في الجهاز العصبي لضحيّتها. وهكذا، فإن الدودة الغورديّة، تستغلّ هذا التشابه الكبير بين بروتيناتها وبروتينات الجرادة، لتفرز هذه البروتينات في الجهاز العصبي لهذه الأخيرة من دون أن يتمكّن جسم الضحيّة من اكتشافها والقضاء عليها.

 

حوار خفيّ بين الجزيئات

يقول الباحثون: «إن بروتينات "Wnt"، لها وظائف ومهام كثيرة، لدرجة أننا لا نزال نجهل كيف تتمكّن من توليد هذا النزوع أو الميل للقفز الى الماء، عند مستقيمات الأجنحة». ولتحديد هذا الحوار الجزيئي الخفيّ، الذي يدور بين الجلاّد وضحيّته، قام العلماء بالكشف عن دماغ الجرادة المصابة، وهي تحت تأثير تسلُّط الدودة التي تتحكّم بسلوكها. ولاحظ هؤلاء أن إنتاج بعض أنواع البروتينات، يتغيّر معدّلُه بشكل غير عادي، لا سيما منها البروتيينية"Isoform D"، الذي يلعب دوراً هاماً في الإرتكاس الأرضي عند الجرادة (أي الدافع الغريزي أو المكتسب الذي يدفع بالحيوان أو بالحشرة، للتوجّه نحو مكان الطريدة أو الماء). ويبقى السؤال كيف أن عملية النشوء والارتقاء قد سمحت بتطوير ستراتيجية مفزلكة مثل هذه؟
يؤكّد العلماء إنه ليس هناك أي علاقة لذلك، بـ «ذكاء» الدودة الغورديّة، وأن للصدفة دورها الأساس في ظهور هذه الستراتيجية. فخلال عملية التطوّر، بقيت الأنواع من الديدان، التي تمكّنت من تطوير تحوّلاتها الجينيّة، بحيث تـنـتـج بــروتـيـنـات "Wnt" مشـابـهـة لـتـلـك الـتـي تنتجها الحشرات. أما الأنواع الاخرى من الديدان التي لم تتمكّن من القيام بذلك، فقد انقرضت.

ومتابعة دراسة ستراتيجية التحكّم هذه، ليست من باب إشباع الفضول فقط، إذ يقول الباحثون بحماسة: «نحن نعمل على تحصيل معطيات خلال السنوات القادمة، تساعدنا في إيجاد مجموعة جزيئات، تستعملها الطفيليات المتسلِّطة أو المتلاعبة. وسوف يساعدنا ذلك كثيراً في الأبحاث. فالتعرّف على الستراتيجية التي تتبعها الحشرة الطفيلية، له وزنه في اكتشاف اللقاحات والأدوية المعالجة». ولكن قبل بلوغ هذا الهدف، لا بد أن يركّز الباحثون، على العلاقة التي تربط بين الدودة الغوردية وبين مضيفتها الحشرة المستقيمة الأجنحة، وبالتالي اكتشاف المزيد، عن طبيعة الجزيئات التي تستعملها الدودة. ومن هنا الخطوة القادمة، المنتظرة في العام 2006وهي: حقن جزيئات من البروتيين "Wnt" في دماغ سليم، لإحدى الحشرات المستقيمة الأجنحة، وذلك في محاولة للتأكّد اذا كانت البروتينات كافية وحدها لإطلاق عملية الانتحار.