قرية من بلادي

وفيّة لماضيها وتراثها
إعداد: الرائد توفيق نعيم يزبك - غانم اسطفان عاصي

حصارات الجبيلية
الفلاح ما زال يسابق الفجر وعطر البركة يفوح من رغيف الطابونة

حصارات، قرية في قضاء جبيل، تبعد حوالى السبعة أميال عن مدينة الحرف. الإسم فينيقي الأصل (Haser)، والكلمة تعني القرية المستعمرة.
تتربع حصارات فوق تلة مترامية الأطراف، تعلو عن سطح البحر نحو 450 متراً، يحدها من الشرق شامات ومن الشمال غلبون، من الغرب كور الهوا (حصرايل) ومن الجنوب حبالين. من يقصدها لا يستطيع الوصول اليها إلا عبر بوابتها الشرقية، ومن حيث يدخل، يتبع طريق العودة.


تفرعات وانتشار
تشير المراجع التاريخية الى أن حصارات بلدة قديمة العهد، بقيت زمناً من دون سكان الى أن قصدها من إهدن الأمير شكيبان أحد مردة لبنان سنة 1111 ميلادية، وتفرعت من الأمير الإهدني عائلات سعادة وابراهيم وعاصي، ثم دخلت عائلات بولس وتفرعت ومنها عائلة بربور، وفيها ايضاً عائلة الحويّك منها غبطة البطريرك الياس الحويّك، وعائلة يزبك التي تفرعت منها عائلة نجم.
إنتشرت عائلات حصارات على مدى الوطن: في جزين وزحلة وقنطرة عكار، بكفيا وقرى كسروان، بدادون، حلتا، عورا وفي وادي قنوبين.
أما في بلاد جبيل فينتشر الحصاراتيون في المدينة، وفي عمشيت وإده، وقرى قرنة الروم: الريحانة، جدايل، البربارة، شيخان، غرزوز، حصرايل.
هذه القرية الغنية بالثمر والشجر، هاجر الكثير من أهلها، خصوصاً في إبان الحرب العالمية الأولى الى دول أميركا الجنوبية وبعدها توسعت حركة الهجرة باتجاه الولايات المتحدة الأميركية حيث تتركز الجالية الحصاراتية خصوصاً في ولاية مساشوستس، وقد برز العديد من مغتربيها في المجالات شتى.

 

تراث وقيم لبنانية متوارثة
سكان حصارات يقطنونها بمجملهم صيفاً وشتاءً نظراً الى قربها من مركز القضاء ولتمتعها بمناخ معتدل ساحر، ولكونها تعيش جواً من التراث، ومن التعلق بالقيم اللبنانية وبعشق أبنائها لأرضهم حيث ما زلنا نجد صورة الفلاح الغادي يسابق الفجر الى حقله، وصورة النسوة يجتمعن ليعددن الخبز في فرن «الطابونة»، ففي كل حيّ من الضيعة أكثر من فرن وتعمل كلها على الحطب الذي تعانق رائحته الفضاء لتطبع على المنقوشة و«السمينة» أو «الطلامي» والرغيف، عطر البركة...
في نهاية الصيف يعمل الحصاراتيون على تجميع المونة الشتوية قبل أن يهدر المزراب. وتشمل هذه المونة: التين المطبوخ والزيتون الذي يقطف ويرسل الى المكابس لتحويله الى زيت، وشجرة الزيتون بدأت تتزايد لتسابق أشجار التين والدوالي والمشمش، والخرنوب.
وسط القرية سهلة واسعة تمتاز بتربتها الغنية الخصبة تعرف بإسم: الشكارة، وفي أحد أطرافها سكن المقدم يوسف الحصاراتي، حيث كان قد بنى عليّة وبقربها بستان، ولا تزال الأرض تعرف بإسم «البستان» والعلية، أما أسماء أحياء الضيعة فتدل على طبيعتها ومنها:
الضهور، حرف الدير، الحروف، حارة الكنيسة، الجمّة، الوعرة، رشكف، البياضة، البريكات، الدقّار، الضهيرة، السهّالة...

 

كوكبة متنوعة
أعطت حصارات كوكبة من رجال الدين والفكر والأدب ومن المجلّين في المجالات شتى، وإن حاولنا تعدادهم فنحن بحاجة الى صفحات وصفحات أكثر. ونذكر على سبيل المثال: الخوري يوسف الزيناتي الحصاراتي وقد استعنّا بمخطوطته التاريخية في مقالتنا هذه، الأب الحبيس في محبسة عنايا أنطونيوس يزبك الحصاراتي، ثم الأديب والشاعر الراحل نعيم يزبك، والشاعر الزجلي المعروف رفيق بولس أطال الله بعمره...
ويشتهر أبناء حصارات بإيمانهم وبتعبدهم للسيدة العذراء ولمار يوحنا المعمدان. هكذا بنى الأجداد في منتصف القرن التاسع عشر، كنيسة سيدة البيدر الرعائية على أنقاض كنيسة قديمة.
داخل الكنيسة القديمة توجد صورة زيتية للفنان الراحل كنعان ديب يعود تاريخها الى سنة 1842. أمّا الكنيسة الصغيرة التي تُعرف باسم دير مار يوحنا المعمدان في حي الحرف والتي يعود تاريخها الى ما قبل الحملات الصليبية، ففيها بيت من نحاس نادر الوجود. وتعلو في القرية، كنيسة مار غالب الأثرية وكنيسة مار أنطونيوس.
العام 1964 تأسس نادي حصارات الثقافي الرياضي الإجتماعي الذي أقام ملعباً مقفلاً يعتبر الأول في بلاد جبيل ومستوصفاً.
بدأت مدرسة حصارات الرسمية مسيرتها مطلع الاستقلال في بناء صغير يعود لوقف الرعية. أما اليوم فقد بُني صرح تربوي كبير على أرض قدّمها أحد أبناء القرية، وباشرت المدرسة نشاطاتها هذا العام 2007 - 2008، على أمل أن تصبح المدرسة ثانوية.
في الخـتام، نـردد مـا كـان يقـولـه شيخ الضيعـة جوان عاصي رحمه الله: «يا حصارات مَنِّك قليلة». والواقع أنه بالاضافة الى كل ما ذكرناه، فإن حصارات ترفد الجيش اللبناني والقوى الأمنية بأكثر من 150 عسكرياً بينهم ثمانية ضباط ومنهم عدد لا بأس به، تقاعدوا ليحملوا القلم أو المعول من جديد حفاظاً على إرث الآباء والأجداد الذين حولوا الصخور الى حدائق غنّاء للشجر والثمر، للفيء والظل، عنوانهم الكرم والسخاء، بابهم مشرّع للضيف بالعطاء من دون منّة أو مواربة، أو تكلّف أو سوء نيّة.