مساحات بيضاء

وللحـق مفعولــه الرجعي...
إعداد: رويدا السمرا

قد تأتي هذه السطور متأخرة بعد أن انتهت حرب العراق. لكنّ حروباً أخرى لا تزال تنهش لحوم البشر في عصرنا المتحضر, ولا تزال دماء بريئة تروي الأرض في كل يوم وكل ساعة. لكن في اعتقادي أن كلمة الحق يجب أن تقال, حتى ولو عادت بنا الى الوراء. فللحق أيضاً مفعوله الرجعي.

 

أود أحياناً لو أرحل الى أبعد ما يمكن أن تصل إليه الحياة, ثم أعود. أودّ لو أموت لكي أعرف, وبعد ذلك أعود. أموت, لا حباً بالشهادة ولا بقرار من اليأس أو زهداً بالحياة, بل لتتحرر نفسي, وأدخل بنفسي الى عقولهم لكي أعرف كيف يفكرون. أموت لأعرف, ثم أعود لأني أحب الحياة كما هي, لا كما يريدون هم أن تكون, أصحاب المعالي, المتمسكين بالعروش والراقصين على النعوش, اللاعبين بالمصائر والمخططين للمجازر. لو أعرف فقط كيف يفكرون وأي شرائع وشُرعات يتبعون.


أهي شرعة حقوق الإنسان, وقد أصبح الإنسان في زمانهم يريد سلّته من دون حقوق؟ وأي حق يبقى لهذا الإنسان, وقد صار يطلب السترة من دون أن يمشي من الحائط للحائط؟ فالقرارات الدولية في هذه الأيام, أكثر من الهم على القلب, والخوف كبير من أن يضرب أحدهم قراراً ضخماً بعرض الحائط, فيقع على رأس صاحبنا المسكين.
أهي شريعة الأديان التي يتبعها هؤلاء؟ وكيف يمكن للأديان أن تسمح بالعنف يتفجّر قتلاً وتدميراً, وقد تكلّم أنبياؤها بلغة الخير والسلام؟ هي شريعة الغاب ربما, التي يتبعها هؤلاء. لكن شريعة الغاب تليق بالإنسان الأول في عصره الحجري, لا بأوائل الناس في عصر الإنترنيت. فهؤلاء لطالما كانوا يدّعون أنهم صانعو الحضارات وروّاد التحضر. فكيف يمكن لعقولهم, التي يفترض أنها تخلصت من بقايا التخلّف, أن تتقدم في هذا الاتجاه وترجع في الوقت ذاته, أزماناً الى ذهنية إنسان “نياندرتال”؟ وبأي منطق يمكن أن نفسّر هذا التضارب في المنطق؟ وكيف نفكّر, لنعرف كيف يفكّر هؤلاء؟


برأيي أن هؤلاء السادة استبدلوا ويستبدلون لغة الفكر بلغة الغرائز ولغة التعقّل بلغة العنف, لأنه في اللغتين معاً, إرضاء لشهواتهم وإشباع لأنانيتهم. هؤلاء السادة منافقون بكل بساطة. منافقون وخائنون للعهد.
أيها السادة, تختاركم الشعوب حكّاماً عليها, لتصلوا بها الى بر الأمان, وتوفّروا لها العيش الكريم, لا لتتحكموا بمصائرها على نحو يُرضي أهواءكم الرذيلة, ويُشبع جنون السلطة في عقلكم المريض.


أيها السادة آكلي لحوم البشر, حاربوا بقايا الهمجية التي خلّفتها في ذاتكم عشائر أهل الكهف وسعادين الأدغال. قاوموا مشاعر الخبث والمكر التي زرعتها في نفوسكم ثعالب البراري. إقطعوا ذيول الشر المتبقية في أذهانكم من عهد تيمرلانك وهولاكو, بدل أن تقطعوا رقاب العباد وأرزاقهم. هدّموا قصوركم دفاعاً عن “الحق” الذي تطالبون به أو تفرضونه, بدل أن تهدّموا البلاد على رؤوس ساكنيها, فلا يبقى فيها غير “الرؤوس”. إنزلوا الى ساحة الحرب بأجسادكم أنتم, وتواجهوا بسكاكين مطابخكم العامرة, بدل أن توجّهوا أسلحتكم عن بعد, الى أجساد العباد. دعوا الرجال يتلذذون بشقائهم في إعالة أُسَرِهم ولا تأخذوهم في نزهات الى الموت. اتركوا النساء تنعمن بآلام المخاض ولا تحرقوا قلوبهن بأحزان الترمّل والثَكَل. دعوا الشيوخ يموتون بسلام والأطفال يكبرون.
أيها الجبناء المتحاربين بأجساد الآخرين, توقفوا عن شرب دماء الأبرياء في نخب “انتصاراتكم”, حدّدوا بدمائكم أنتم, ساحة الحروب التي تصنعونها. توقفوا عن هذا الجنون. يكفينا ما شاهدناه منكم وشاهد. يكفينا أكاذيب, يكفينا مصائب, يكفينا شياطين, يكفينا أنتم!
إرحلوا, إرحلوا الى أبعد ما يمكن أن تصل إليه الحياة ولا تعودوا. إرحلوا ولا تعودوا. فالحضارة من دونكم أفضل, والتحضّر من دونكم أفضل, والحياة من دونكم أفضل, والموت من دونكم أفضل. موتوا ليعيش الإنسان.