طريق الشهادة

...وللشهادة طرقات كثيرة
إعداد: إلهام نصر تابت

تشق الشهادة طرقات كثيرة. منها ما يمر في الوجدان الجماعي للرفاق، فيرسّخ فيه الولاء المطلق للوطن، ولاء لا يحول دونه بذل الحياة. ومنها ما يمر في الذاكرة الجماعية للمواطنين مؤكدًا لهم حين تشتد الصعاب أنّ الوطن غالٍ، غالٍ، أغلى من الحياة، وإن كثُر المتخلّون عنه واللاهثون خلف مصالحهم وأنانيتهم. ومن هذه الطرقات، ما يمر في الأرض القاحلة، المتروكة لقحطها، فيضخ الحياة فيها ويُنبت المواسم.

 

هذه حال طرقات الشهادة، تشق اليباس وتصنع الحياة، وهذه هي حال طريق الشهداء في عرسال التي دشنها قائد الجيش العماد جوزاف عون في اليوم ما قبل الأخير من تشرين الأول 2020.

تنظر إلى هذا الطريق المعبّد، ترى الزفت يلمع تحت أشعة الشمس، ممتدًا على مدى 12 كلم وسط الأرض الجرداء، تتأكد أنّ خطوات العسكريين تبارك الأرض الغالية وتُغيّر حالها. تتأمل الجرد القاسي الخالي، وفي وسطه هذا الطريق الذي يقود إلى المراكز العسكرية المنتشرة في البعيد، البعيد، حيث الأعين مفتوحة دائمًا، والسواعد جاهزة أبدًا. لكنه يقود أيضًا إلى ما بعد القحط واليباس، إلى بساتين الكرز المتغاوية بخيراتها وجمالها، وإلى مقالع الصخر، ومن أحجارها جمال بيوتنا. يا للمفارقة! خيرات من كرز وصخر...

 

ليس بعد اليوم

خيرات بينها وبين أصحابها مسافات يقارب اجتيازها الإعجاز، لكن ليس بعد اليوم. فها هو الطريق سالك، مريح، خطته دماء شهداء أبرار وعبّده الوفاء لتضحياتهم، ولأهلهم الذين قاسوا الكثير. وها هم هؤلاء الأهل الحاملين وجع فقدان فلذات الأكباد، المتعبين من مرارات الحياة، ها هم حول قائد الجيش يقولون شكرًا، باللسان والأعين والقلوب. وها هو بينهم يشد على أياديهم مؤكدًا الوعد بأنّ الجيش لن ينسى يومًا تضحيات أبنائهم، وبأنّ هذا الطريق الذي شُق لتسهيل وصولهم إلى أرزاقهم، كما لتسهيل وصول العسكريين إلى مراكزهم، سيظل موضع متابعة من الجيش، وسيتم تعهده بالصيانة ليظل ممرًا حيويًا وسط الجرود.

 

قدرنا وإياكم...

العماد عون الذي يعرف حق المعرفة واقع المنطقة وأهلها منذ كان فيها قائدًا للواء المشاة التاسع تحدّث بتأثر واضح. أخبر الحضور بأنّه في كلّ مرّة يزور فيها عرسال، هذه البلدة العزيزة، يستذكر معاناتها الطويلة بسبب الإرهاب، «والأثمان التي دفعتها، كما المؤسسة العسكرية، التي فقدت خيرة أبطالها في محاربته وإفشال مخطّطاته في تحويل البلدة كما لبنان إمارة له، فانتصرت عرسال، وانتصر معها الجيش دفاعا عن كرامتنا وسيادة وطننا».

قائد الجيش أكد إنّ «تراب عرسال وجرودها قد تقدّسا بدماء شهداء المؤسّسة العسكرية الذين خُطفوا وقُتلوا على بعد كيلومترات من هنا، ولا ننسى أبناء البلدة العسكريين، الذين استشهدوا في معارك، خاضها الجيش على كل مساحة الوطن، اذ سقط منهم أربعة وعشرون شهيدًا، فيما لا يزال أكثر من خمسماية عسكري بين ضابط ورتيب وفرد في الخدمة الفعلية، فضلًا عن أكثر من ثلاثماية وسبعين من المتقاعدين، وأكثر من ألف وثلاثماية من عائلاتهم الذين هم على العاتق».

ولم يُغفل معاناة أبناء عرسال على صعيد لقمة العيش، خصوصًا بسبب الإرهاب، إذ خسر أبناؤها لسنوات «مورد رزقهم من مقالع الحجر العرسالي، الذي يزيّن معظم بيوت اللبنانيين، كما من الزراعة. لكنّ عرسال وأهلها، لم يغيبوا عن اهتمام المؤسّسة العسكرية، التي ميّزت بين الإرهابيين وأبناء البلدة الشرفاء، وناضلت لتحريرهم واستعادة الأرض، وانتصرت في معركة «فجر الجرود». فعادت الأرض تزهر اخضرارًا وعاد الأهالي الى أرزاقهم. اليوم، عرسال خالية من الإرهاب بفضل وعي أبنائها وطريقة تعاطي قيادة الجيش معهم. أبناؤها يعلمون علم اليقين أن الجيش وحده يحمي لبنان». العماد عون أكد مرة جديدة: «بالنسبة إلينا، ما من بلدة لبنانية قريبة أو بعيدة، كلها سواسية، وفي قلب المؤسسة العسكرية. نحميها وندافع عنها مهما غلت التضحيات».

وأضاف: «الجيش، حاضر اليوم بقوّة في هذه المنطقة. منتشر على طول حدودنا الشرقية وصولًا إلى أبعد نقطة. حماية أرضنا وشعبنا هي واجب علينا وشرف لنا».

وفي ختام كلمته، أكد أنّ طريق شهداء عرسال التي تربط المراكز العسكرية بعضها ببعض، هدفها أيضًا تأمين الوصول الى الأراضي في الجرود، ما يسمح لأصحابها باستثمارها بشكل أفضل، لتعود الحياة اليها من جديد. وعاهد المواطنين: «قدرنا وإيّاكم كان وسيبقى متلاحمًا ومتماسكًا. أنتم أهلنا وأبناؤنا، وسنبقى على قسمنا بحمايتكم والدفاع عنكم».

 

مع رفاق الأمس

تدشين الطريق في حضور أهالي الشهداء والتحدث إليهم، أعقبه لقاء عزيز بين القائد ورجاله في قيادة اللواء التاسع في اللبوة. اللواء إياه الذي كان قائدًا له في واحدة من أقسى مراحل المواجهة مع الإرهاب. هناك عاين أوضاع العسكريين، اطلع على أدق التفاصيل المتعلقة بأدائهم لمهماتهم كما لظروفهم وأوضاعهم. تحدث إليهم عن صعوبة المرحلة التي يمر بها الوطن على مختلف الصعد. أوصاهم بالحرص الشديد على صحتهم في ظل انتشار وباء كورونا، وأكد ثقته بهم، وبجهوزيتهم الدائمة للدفاع عن لبنان في وجه أي خطر. وقبل أن يغادر ودعهم واعدًا بلقاءات أخرى، وبطرقات كثيرة سوف يشقها تعاقد الوفاء والعزم.