بلى فلسفة

يا قلبي بكره السفر
إعداد: العميد أسعد مخول

تسمع فيها الرقّ يقطف الإيقاع قطفاً مضغوطاً محصوراً، واضح النبرة قصير المدة، فكأنها القبلة معصورة عصراً، أو فكأنها سقطة الماء في البركة الطمّاعة المشتاقة المتلهّفة للنقطة الهابطة الصافية، وفي حسابها أنها لو حرمت منها لاستحالت إلى جفاف.

ثم إنك تكاد ترى الرقّاق موقعأ على هواه، دُمّه تك وتكّه دمّ، حين يبتدئ تكون البداية وحيثما ينتهي تكون النهاية، وذلك لفرط تمكّنه من تكوين المكان والزمان اللازمين لفنه، وكأنه منفصل عن الجميع، يضرب "وحدته" حين يشاء، ويلتقي مع باقي الآلات حين يرغب، ويبتعد عنها عندما يهوى ويختار. والكلّ، عازفين، يخال إليك أنهم يخبطون خبط عشواء في النغم، جملاً وأنغاماً متناثرة توزع الجمال وتنشره، بحيث يتحتّم على مبدع الغناء أن يتبعها ويطيع خطواتها، وكأن مبدع اللحن أتاح لها منذ البداية ذلك التشرّد المجنون ... وما خبط العشواء ذاك إلا كانفصال الحجارة الضخمة عن اهرامات الجيزة، وانطلاقها بجلال ومهابة في كل اتجاه يكون فيه مستمع للطرب الشرقي، أو متلقّ للغناء العربي الأصيل.

كما أن ذاك الخبط العشوائي الجميل يظهر أكثر ما يظهر حين تتأخر اللوازم الموسيقية عن اللحاق بالجمل الغنائية، فتظهر المزاجية المتفننة، والتصرّف المحبب بحيث يبدو أن لا عجلة من أمر سوى الطرب الصّافي المحلق.

قد تكون الأغنية معدّة في الأساس لكي تكون قصيرة المدّة، وهذه هي حال معظم ألحان محمد القصبجي لأم كلثوم، باستثناء " رق الحبيب " الأغنية  "الجمهورية" الطويلة  الوحيدة المعروفة لهما، إلى أن كشف النقاب عنها : "يا قلبي بكره السّفر"، مع أنها ظهرت في الأصل قبل "رق الحبيب" بسنوات ثلاث.

وأصل الحكاية بالنسبة إليّ أنني " تصيّدت" هذه الأغنية منذ فترة قصيرة فيما كنت استمع إلى إذاعة القاهرة، فلفتتني للحال، مع انني معرض في الغالب عن التسجيلات الغنائية المطوّلة، لما فيها من تصفيق غير مسؤول، ومن تصفير وصراخ وضجيج ولهو وترديد وتمديد وتكرار.

استمعت إلى اللحن مرات ومرات، فخلصت إلى أنني لا أزال في مقدمةٍ لاستماع لاحق يحتاج لليال وليال، هذا إن صحّت لديّ فرص الاستماع المرغوب، وان اطاعتني أمزجة التذوّق والتلقّي والفهم والإدراك.

يمتد التسجيـل إلى ساعة كاملة، وهي المـدة المتوسطـة للتسجيـلات القليلة التي أنشدت الأغنية فيها خلال عمرها الممتد على مدى عامي 1938 و1939، إلى أن توقفت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، فكأن الكون لم يكن يتّسع آنذاك لحربين، واحدة في الزند والساعد، وأخرى في النفس وفي الفؤاد، وقد انتصرت، كما هو معروف، حرب الرمح والخنجر والصاروخ والفاخوخ (بتعبير أديبنا جورج جرداق).

بنيت "يا قلبي بكرة السفر" على الركائز الثلاث الكبيرة: روح رامي، وعقل القصبجي، وصدح أم كلثوم ولا أعتقد، في هذا الأثر بالذات، أن واحداً من الثلاثة قد أبدع أقل من الآخر، وإن يكن لكل منهم هدف قد يختلف أحياناً عن هدف الآخر، وفقاً لحركة الأفلاك الفنية التي تسيطر وتهيمن وتطغى.

* * *

أحمد رامي يكتب بالتأكيد لصوت أم كلثوم، ويكتب بالتالي للملحن تمهيداً لاكتساب أغنية جميلة مكتملة تحتل مكانها في سجل الآثار الخالدة. لكنه، قبل هذا وذاك، يكتب من أجل أن يعبّر عمّا في داخله من وجدان وعاطفة، وهذا إخلاص للكلمة معروف لديه وراسخ. صحيح أنه أخذ عليه أحياناً، التكرار في الجمل وفي المعاني (الروح، الطيف، الفؤاد، العين، النسمة، الطير، الغصون، الشكوى، السّهر، البعد، الوصال، الفراق...)، لكنه كان أمام قدرين متواصلين: قدر الحب وقدر الكلمة، والحب مهما زاد أو انخفض، أو طال أو قصر، أو ارتبط بالفرح أو استسلم للحزن... يبقى ذاك الشعور الذي تناولته الحضارات وعالجه الشعراء والأدباء، في لوعته وفراقه وخيانته ووفائه وحلاوته وشقائه، والكلمة هي الصورة والمعنى والصيغة والديباجة والرمز والتشبيه والتلوين والتنويع... وهما، أي الحب والكلمة، رافقا الشاعر على مدى يزيد على خمسين عاماً، فزادت الرفاقية بين الثلاثة، وطالت الزمالة، واعتاد كل واحد على الآخر، بحيث صعب التجديد في بعض المرات و تحتّم التكرار، إلا أن الجمال قد استمر، والشعور هو الآخر زاد واكتمل، إضافة إلى الرقة والإخلاص والرسوخ في الغرام والضنى واللوعة والوداعة واللطافة والكياسة والأناقة والصفاء.

قد يكون رامي موجهاً كلامه إلى أم كلثوم نفسها، وهذا ما يرجحه الكثيرون، وما يثبته بعضهم، وقد تكون المرأة تلك قد بادلته الحب واهتمّت به، ومالت إليه، وهذا ما لا يثبته أحد وما لا يرجّحه أحد أيضاً. إنما قد يكون الكلام موجهاً إلى كائن آخر، من فتاة الفيوم، إلى فتاة القاهرة، إلى فتاة الخيال المجنّح الطائر المشرّد الهائم في اللامحدود واللامنتهي من المساحات الشعورية.

والاستغراب هنا هو أن يكون الغرام "الرامي غير الصائب" قد انحصر في امرأة أقامت في وجهه جداراً، أو رفعت صخرة، أو نصبت جذعاً ناشفاً يابساً جافاً صلباً، اغتيلت فيه الهمسة الأخيرة من همسات الود، وأضرمت النار في منسكه وفي مخدعه، وفي مأواه وملتقاه! هل وقع الشاعر أسيراً للغشّ على مدى تلك السنين، يا ترى؟ هل فطر على الرضا في البداية، ثم عاد وانتهى إلى الصدّ والفراق لسبب أو لآخر؟ هل كان من عناوين محنته أن ينتظر وأن يطيل الانتظار بعيداً عن المعرفة والتبصّر وصواب التقييم والتقويم، وهو من هو في الثقافة وسعة الرؤية؟ وهل كتب عليه أن يتأرجح على مدى عمره بين "أصون كرامتي من قبل حبّي"، و" أصون كرامتي من أجل حبّي"؟

من هذا كلّه، قدّر على أحمد رامي أن يرى حبيبه مسافراً، ليس في الحاضر فقط، إنما في الماضي وفي الغد، وأن يكون مكان إقامته على الدوام عند الشاطئ، مودعاً الفلك في الرحيل (أيها الفلك على وشك الرحيل)، فللعين فيه صور، وللصدر أمنيات لا ترقى إلى الملموس، وللقلب العليل... خليل.

وقد يكـون المسافر هو الشـاعر نفسه، أو قلبـه، أو حبيب قلبه، والفرق بين الاثنين غير موجود في مرات كثيرة لأنهمـا مندمجان متّحدان (في الخيـال بالتأكيد، وإلا لكان الشعـر قد اختفى واستـراح كما يظنّ الكثيرون):

يا قلبي بكره السّفر               ونغيب عن الأوطـان
وتطول ليالي السّهر              في البعد والأشجـان


وأحمد رامي يشدو بكلمة أوطان في العادة بدلاً من وطن، وهي انطلاقة انسانية شمولية راسخة لديه، وسببها هو تكوينه النفسي السامي والشفاف والمنفتح، وتأثره بالتنوّع الثقافي الشامل بدءاً من الثقافة العربية، وعودة إلى الثقافة الفرعونية، ومروراً بالثقافة الفارسية والفرنسية، وصولاً إلى الثقافة الانسانية المطلقة... وهذه الكلمة نلتقيها أكثر من مرة لديه: في مطلع أغنية :يا طير يا عايش أسير غريب عن الأوطان...  وفي متن أغنية أحب عيشة الحرية: كل البلاد عندي أوطان...

 وبحكم حصة الشاعر "المفرطة" من التفاؤل العاطفي، سرعان ما يعثر على الحل، فالنسيم الذي يمر به، ويلفح وجهه وقبعته وقلمه وأوراقه... هو نفسه النسيم الذي يطوف في دنيا الحبيب، ويهبط عليه، ويقيم في جواره، ويهنأ بملامسة خدّيه، ويمرّ على شفتيه، ويستقر أنّى يشاء في كيانه، هذا النسيم سيكون صلة الوصل بين الاثنين... ويا للهناء:

 لكن صبرت وعزّاني              في بحر وجدي وأشجاني
إن النسيم اللي بشمّه          فايت عليـــــــه
أقابله ع البعد وأضمّه           وأشكي إليـــــــه

 

 لكن إقامـة الشاعر في حبّة تفاؤله الصغيرة تلك إلى زوال سريع، وهذا هو حظّه وقدره، وهذه هي ضريبة إحساسه ورقّته وجنوح أفكاره:

لكن يا قلبي فين النّسيم        ينقل له شوقي وأفكاري؟

 

 وهكذا يعود ويرتمي في النتيجة المقررة له، والمقدّرة والمرسومة، وهي أن يبقى وحيداً، وأن يسافر وحيداً، وأن يكتفي بخياله وذكرياته وبقايا الحبر في ريشته، ليس إلاّ:

لما أبقى وحدي غريب               بين الأمل والخيال
حيران وما لي حبيب                 أسعد معاه بالوصال

* * *

أما القصبجي فإنه لم يستطع منذ بدايته، فتى أو شاباً أو كهلاً أو شيخاً، إلاّ أن يكون خاضعاً للعقل والنبوغ والمهابة في اللحن والنغم. أجراس وأصداء من صخور وجبال، وحركة ألوان ورعود وبروق، وقرقعة وطنين، تنبعث كلها من جوف الأرض وترنّ في آذان الوجود. وهو ميّال دائماً للتفوّق على ذاته وعلى من حوله. يتسلم النص من الشاعر رقيقاً متألماً فيزيده تأثّراً وتأثيراً، وينقله إلى الناس بعد أن يلبسه جملاً موسيقية معبّرة متألقة، ويكوّن من مضمونه ومعانيه قضية كبيرة خطيرة، فكيف إذا كان النص "متلبّساً" بهواجس أحمد رامي ووساوسه وشكاويه إلى الأطيار والأنهار والغيوم والسماوات؟

يعتقد، كما مرّ، أن القصبجي قد صاغ لحنه لأغنية قصيرة مكثّفة، ثرية اللحن نقية الرنين، من هنا امكانية اطلاق فحواها على مدى الوقت الإضافي بحيث تتوزع جمل الدقائق الخمس المفترضة على ساعة كاملة بسهولة ويسر، خصوصاً وأن المستمع العربي ميّال إلى الغناء المطوّل، حتى ولو انبثق من أغنيات مختصرة لا تحتمل التوسيع والإطالة، فكيف لو كانت الحال مع هذه الأغنية المشبعة بالأنغام المكثفة الغنية المنوّعة؟
لبّى الملحن في "يا قلبي بكره السّفر" نداء الشاعر، ونقل أفكاره وأوضح معانيه، وعبّر عن لواعج نفسه، لا بل شاركه فيها وزاد عليها، فأتت الأغنية حزينة مكابرة متعالية شامخة "تضم جناحها على جرحها".

في البداية، هناك مقدّمة موسّعة، يغلب عليها البطء والجلال، تبدو للوهلة الأولى غير متواصلة، وكأنها أقسام ثلاثة متقاربة ومتتالية، بحيث أن نغمها الأصلي "الراست"، وإيقاعها الأساسي "الوحدة الكبيرة" لا يظهران إلاّ لاحقاً، بعد ذلك يظهر غناؤها بطيئاً هو الآخر، إلاّ إذا كان نوع التسجيل الذي حصلت عليه هو الذي يجعلني أظن ذلك.

أما عن اللوازم الموسيقية، فإنها تذكّر بالمقطوعة القصبجية المعروفة "ذكرياتي"، خصوصاً في النصف الثاني من المطلع حين يطل مقام النهاوند مع "وازاي أشوف القمر..."، وذلك رغم الاختلاف التام في النغم العام للأغنية وهو الراست، ومقام النهاوند للمقطوعة المذكورة، إضافة إلى الإيقاع الذي يتباطأ هو الآخر في الأغنية ويسرع كثيراً في المقطوعة، خصوصاً في خانتها الأخيرة وهي الخانة المقصودة. كل ذلك، مع أن "ذكرياتي" ارتبطت بأغنية "رق الحبيب"، وكانت تقدّم في بعض الحفلات كافتتاحية تسبق مقدمتها الموسيقية، وتهيء لها، وتقدّم لطلتها الموسيقية البهية.

وقد لوّن القصبجي لوحته بما وسعت يداه من ألوان، فمن العجم إلى الراست إلى النهاوند إلى البيات إلى الهزام، مروراً بالصّبا والحجاز، عودة إلى العجم واستقراراً على الراست في الختام. كما أن حالة مستمرة من التوتر، ومن رغبة الابتعاد عن العاديات كانت ترافقه، وكانت موهبته هي السند الكبير في ذلك، كما أن الصوت الذي لحّن من أجله كان هو الآخر عنصر الاطمئنان والثقة ...  وعنصر الإيحاء وبليغ العطاء.

* * *

أما أم كلثوم، الركن الثالث في هذه الأغنية، فإنني أقف حائراً بين أن أرى فيها صوتاً معبّراً هادراً صادحاً صافياً دقيقاً صحيحاً تحكمه الموهبة وعطاء الخلق الإلهي، أو أن أرى أيضاً نفساً عاشقة ولهانة، عطشى للغرام متوثبة للعشق مستسلمة أمام الجمال، خاضعة لنبض الشرايين. والمعروف عن المطربة أنها كانت محكومة بقلب جبّار متصلّب متسلّط لا يعرف التسرّع ولا الخضوع للمشاعر. لكن أصابع أخرى أشارت إلى أن المرأة عشقت مثل بنات جنسها، وأكثر، وأنها حافظت على حبّها مستوراً محفوراً في الحجر الكريم الصغير، القلب المختبئ في الأحشاء، والمقيم خلف الحنايا والضلوع. وهي بذلك أعلنت فنها مكشوفاً منشوراً بين الملأ، وأبقت حبّها مطوياً محفوظاً في سراديب الذات العميقة، من هنا ما قيل عن تجربتها، الطويلة المجهولة مع الكاتب مصطفى أمين، والقصيرة المعروفة مع الملحن محمود الشريف.

وتلبّي أم كلثوم رغبة الشاعر في إرسال كلماته ونشر معانيه، كما تلبّي طموح الملحن في إطلاق الأنغام وترتيل الألحان، يسعفها العازفون مطربين مثلها، محلّقين في دنيا الجمال والطرب، ويظهر حسن صنيعها مباشرة في المقطع الأول:

وازاي أشوف القمر          من غير حبيب قلبي ما يكون قريب جنبي

 

 فبعد أن تكرّره عدة مرات متشابهة، تعود وتنهيه بشكل مختلف تماماً، بمقام البيات، فيكون التكرار بذلك ضرورياً مشكوراً لكونه يؤدي إلى هذا الاستقرار الجميل قبيل الوصول إلى المقطع التالي:

والنسمة تسري وتتكلم           واحنا ساكتين

 

إلا أنها تنسجم تماماً مع القصبجي، وتفاجئ رامي، ربّما، في مقطع:

سمعت منه نجوى الحبيب           اللي بعد عنّي
وشفت طيفه قريـــب                عايز يكلّمنـي

 

وذلك حين تقول: سمعت منه نجوى... وتتوقف، ويظهر المعنى بذلك وكأنه تم واكتمل، لقد سمعت من الطير نجوى، إحدى النجاوى، مجهولة الصاحب وغير واضحة الانتماء، إلى أن تعود وتضيف: الحبيب، فإذا النجوى المسموعة هي نجوى الحبيب نفسه، ولا أحد غيره، نجوى آتية للتو من البعيد، يرافقها طيف بهي يقترب ويقترب، يريد الكلام في استعجال واهتمام: عايز يكلّمني...
 لكن"المأدبة" الجمالية تقوى نارها وتشتد، ويؤتى نضوجها عند القفلة الصدّاحة التي تتخطى كل ما عداها، في الأغنية أو في غيرها:

أقابله ع البعد وأضمّه            وأشكي إليـــــه

 

 لقد سبق ذلك تحضير موسيقي وغنائي محكم ومتقن، وتم التمهيد له والإعداد من أجله ببراعة كبيرة، فهبط الصوت خلاله من فضائه خير هبوط، واستوى على العرش مطلقاً بعض نبراته القادرة، تاركاً الكثير منها في استراحة متأملة واثقة، وهذا ما ربط النتيجة بتلك الحلاوة المسكرة. والتحضير لتلك القفلة كان في الصرخة الهزامية الجميلة هي الأخرى:

لكن صبرت وعزّاني           في بحر وجدي وأشجاني

 

 حيث ينبري واحد من المستمعين صارخاً بملء صوته: أيوه... أنا هنا، فينتشر الضحك والانفراج بين الحاضرين.

 وأم كلـثوم، في معـظم الأغنية، هي تلك الحافظة لفـكرة اللـحن وأسـلوبه وهدفه وغايته، الفاهمة المنضبطة الذكية القادرة على الاستيعاب والتطوير في الحدود المناسبة والمطلوبة والمحبّبة، وكان يزيد من هـيبتها الاحـتياط الصوتي الذي تحتفظ به من دون أن تضطر لاستخدامه أو لإطلاقه، إلى أن وصلت إلى إعادة المقطع ما قبل الأخير:
لكن يا قلبي فين النسيم                ينقلّه شوقي وأفكــاري
وفين يا قلبي ساعة النعيم             وقت القمر والليل ساري

 

حيث أطلقت صوتها في حدوده القصوى، من عندياتها، وكأني بالقصبجي آنذاك، وقد ضرب يديه، في سرّه، الواحدة بالأخرى: لا، لا، يا أم كلثوم، ليس هذا ما كنت أقصده! إلاّ أن الملحن الكبير كان يخشى دوماً أن تسوء علاقته بسيدته التي خضع لها حتى مماته.

في الشـكل الأول المرسـوم للمقـطع المذكور كان عود القصـبجي يطلق مناجـاة هامسـة بعد كلمتي النسـيم والنعيم، لكنه سكت عند الإعادة، وبدا عليـه الإقرار والاعتراف بأن الحفلة هي حفلة أم كلتوم وأنه يحق لها أن تتصرّف على هواها، وأن ترضي جمهورها، وقال في سرّه: إن ذا وقت لاستـعراض قـوة الصـوت، فاسكـتي يا أوتـار العـود.

خلال ذلك، كان قانون محمد عبده صالح قد أطلق زغردة منفردة فيما كانت الكمنجات تحاول الإحاطة بالصّخب الحاصل نتيجة لانفعال الجمهور مع الصوت القادر، وقد تم التمهيد للعودة إلى الغناء المقرر، فعادت ريشة القصبجي لترنّم من جديد، وعادت أم كلثوم لتشدو بهدوئها السابق المقطع الختامي:
لما أبقى وحدي غريب              بين الأمل والخيال
حيران وما لي حبيب                 أسعد معاه بالوصال

 

 وتظهر المطربة وكأنها تواسي الشاعر، وتشكو حاله، وتعرض وضعه الحزين أمام الجميع. ويتصاعد اللحن والشدو معاً في كلمة حيران، الكلمة التي التقطها الصوت الكلثومي كما يلتقط الصائغ المتمكّن حديده من لهيب النار، فيطوّعه على هواه، ويصنع منه الشكل الفني الذي يحتاج إليه، وعندما ينتهي يستريح قرب بارد الماء، ويراقب بافتخار ما صنعت يداه، ويقول... آه!