وداع

...يا كبيرًا أتعبه الوطن
إعداد: د. إلهام نصر تابت

ترددت الإذاعة اللبنانية في بث أغنية « بكتب إسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب» رائعة إيلي شويري تأليفًا وتلحينًا، وجوزيف عازار غناءً، لكن الأغنية ما لبثت أن أصبحت نشيدًا يتردد ليس فقط في لبنان، بل أيضًا في البلاد العربية وحتى في البرازيل حيث تُرجمت إلى البرتغالية...

صاحب «أنا رايح» المتشح بحزنه الجميل، هو نفسه ذلك المتوهج عنفوانًا في «صف العسكر» وسواها الكثير من الأغاني الوطنية، هو نفسه ذلك المتألق بصوت مشحون بالشجن في بحثه عن الفرح، وفي صنعه للفرح. إيلي شويري المبدع تأليفًا وتلحينًا وغناءً وتمثيلًا، غرف من خوابي الجمال الكثير وأعطى الفن بسخاء، فباتت أعماله شمسًا لا تغيب. 

 

أول تماس فعلي لذاكرتي مع اسم إيلي شويري، كان نتيجة رواية أستاذ مادة الرياضيات إيلي عازار لواقعة تردد الإذاعة في بث أغنية عمه جوزيف عازار «بكتب إسمك يا بلادي»، بسبب اعتبارها شديدة المغالاة! كانت للأستاذ إيلي مكانة كبيرة لدى جميع تلامذة الصف، لذلك كان من الصعب أن تغيب تلك الأغنية عن ذاكرتنا منذ حدثنا عنها ذات يوم من العام ١٩٧٤. يروي جوزيف عازار لجريدة «النهار» أنّ هذه الأغنية تُرجمت إلى البرتغالية وقد اكتشف ذلك عندما كان في البرازيل، كما يروي أنّ إيلي شويري قدمها هدية للجيش اللبناني بمناسبة عيد الاستقلال في العام ١٩٧٤، وهي واحدة من روائعه الوطنية، ومن أعماله التي يقارب عددها الـ ١٥٠٠أغنية وفق البعض، بينما يذكر آخرون أنّها ١٢٠٠. ليس الرقم هو ما يهم هنا، المهم أنّ إبداعات هذا الفنان بصوته وبأصوات الكثير من الكبار، تُشرق في وجدان الملايين، وأنّ هذا الإرث الكبير الذي تركه يستحق أن يُجمع ويُنظم ويُحفظ للأجيال. لم يستطع هو أن يقوم بهذه المهمة، وكان هذا الأمر يؤلمه وفق ما قال في أحد أحاديثه الصحفية. 

 

روح تتدفق جمالًا

في أغانيه سواء كانت للوطن أو الحب والإنسان روح متقدة تعبّر عن اختلاجاتها شعرًا وموسيقى، وتتدفق جمالًا فتسكن الوجدان وتتغلغل في أعماقه. أما في مجال التمثيل فقد لمع خامة نادرة مميزة بخفة الظل، هكذا أحببناه مشاغبًا في «بياع الخواتم» مع الأخوين رحباني وفيروز، وحتى «شريرًا في مسرحيات أخرى لهما، كما أحببناه بياعًا عاشقًا في مسرحيتهما مع صباح «دواليب الهوا» التي عُرضت في بعلبك، وكان دوره فيها أول ظهور له على مدارج القلعة. بعد أن افترق عن الأخوين رحباني عاد إلى بعلبك مع فيروز مرة أخرى في ١٩٩٨، ثم في الـ٢٠٠٦ عندما أعيد عرض مسرحية «صح النوم» التي يؤدي فيها أمام فيروز واحدًا من أطرف أدواره. 

فترة عمله مع الأخوين رحباني وفيروز كانت بالنسبة إليه بمثابة «حلم من قصص الأساطير» كما يقول في أحد الأحاديث، مضيفًا، أنّها خولته خوض أجمل التجارب الفنية، فغرف من نبع الفن ورافق زمن النبلاء وعباقرته.

 

آه يا شويري آه

بدأ حياته الفنية في الإذاعة الكويتية وكان أستاذه في الموسيقى عوض الدوخي، لكنه عاد في العام ١٩٦٢ إلى لبنان الذي كان يشهد نهضة فنية، وتعرف إلى الأخوين رحباني. عندما سمع عاصي صوته صاح: «آه يا شويري آه». وقال له «بعد اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا»، وأسند إليه دور عيد في مسرحية «بياع الخواتم». واستمر في العمل معهما مشاركًا في جميع مسرحياتهما وصولًا إلى «ميس الريم»، وأضحى أيقونة في المسرح الرحباني حسبما قال سعيد فريحة. لكن الحرب أتت ومزقت كل شيء، «مزقت الفرح» بحسب تعبير شويري. 

لقد تأثر بالأخوين رحباني، ولكنه أيضًا كان بمثابة مستشار لهما حسب ما يفصح حديث لإذاعة «صوت الخليج». وفي حديث آخر يقول عن الأخوين رحباني: «لم يكونا غنيين، مارسا طقوس الطفر وعلّماني ممارستها». آمن مثلهما بسمو الفن وبأنّه رسالة يجب أن تقول شيئًا. كان يجمع كلفة تسجيل أغنية «بالخمس ليرات والعشر ليرات» من دون أن ينتظر من مؤديها مقابلًا ماديًا حسب ما صرّح في حديث لمجلة «الجرس».

بالإضافة إلى عمله مع الأخوين رحباني كانت له أعمال مسرحية مع روميو لحود ووسيم طبارة وأنطوان غندور، وخلال السبعينيات قدم برنامجًا إذاعيًا مع الإعلامي سامي غميقة كان يُبث من إذاعة «صوت لبنان». في الإذاعة نفسها تعرفت إليه في أواخر السبعينيات وكانت الحرب تمعن خرابًا وتمزيقًا في أوصال الوطن. على درج الإذاعة حيث الفريق يفترش الدرج حين يبدأ القصف، كان إيلي شويري يحاور عوده فتولد الأغنية ابنة لحظتها، وتُبث على الهواء. كانت فترة البث المباشر وقتها تحل مكان البرامج الصباحية ويشارك في إعدادها وتقديمها عدد من الفنانين والإعلاميين. أتذكر من تلك الفترة بشكل خاص أغنية «بيلبقلك شو ما عملتي».

 

سامع صوتك يا بلادي

سكن الوطن كالهاجس في عروق إيلي شويري التي نبضت بالفن الأصيل النظيف، فتدفقت أغانيه الوطنية بسخاء حتى بات يُعرف بـ«أبو الأغاني الوطنية»، وباتت هذه الأغاني خبزًا للأيام العصيبة التي عاشها لبنان، ونوعًا من مقاومة الخراب والتشرذم والدعوة إلى الحب والاتحاد بين الناس، بعضها كان بصوته وبعضها بأصوات فنانين كبارٍ آخرين. «بلدي» (وديع الصافي)، «تعلى وتتعمر يا دار» (صباح)، «يا أهل الأرض» (غسان صليبا)، «سامع صوتك يا بلادي»، (بصوته) وسواها الكثير من الأغاني الخالدة. 

مسيرته مع الجيش اللبناني زاخرة بأجمل الأغاني وبعضها تم تصويره (فيديو كليب من إنتاج مديرية التوجيه)، فإضافة إلى «صف العسكر» وسواها من الأغاني التي قدمها للجيش كانت له أغنية «قصة بطل» الرائعة بصوت وائل كفوري بالتزامن مع معارك نهر البارد، وفي العام ٢٠٠٨ أعادت مديرية التوجيه إنتاج أغنيته لمجدلا «غنوا القصايد»، كذلك صوّر في العام ٢٠١٣ أغنيته الرائعة للجيش «اعتز الأرز». إلى ذلك كان يشارك في الحفلات التي تقام بمناسبتي عيد الجيش والاستقلال، وعلى مدى سنوات متتالية خلال التسعينيات كان يقيم في الأول من آب احتفالًا يزرع خلاله أرزة في تحية إلى جيش لبنان. 

 

أنا مقهور

إيلي شويري واحد من كبار صانعي رصيد لبنان الجمالي المشع، وصانع شهرة الكثير من الكبار في عالم الأغنية اللبنانية. خلال النهضة الفنية في لبنان كما في أيام التمزق والانحطاط، ظل ذلك المبدع الذي وهب الفن عمره ونبضات قلبه. وستظل في وجداننا نبرة صوته الشجي سواء كان يرقّص الحلوين على عوده، أو يسخر من الأيام كما في «أيام اللولو»، أو يصرخ للشهداء: «ما ينرد تراب الأرض علينا ان كان رح ننساكن». 

في العام ٢٠١٦ التقيته في كنيسة سيدة النجاة في الكسليك، حيث أقيم قداس لراحة نفس عاصي رحباني في مناسبة مرور ٣٠ سنة على غيابه، في حضور عدد من الفنانين والأصدقاء. كان متعبًا لكنه حضر القداس. لم يكن متعبًا فقط، كان مقهورًا وفق ما قال في مقابلة. طبعًا، يعز كثيرًا على من عاش في لبنان الحلم، أن يمضي سنواته الأخيرة في ظل هذا الكم من القسوة والبشاعة والانحطاط...

وداعًا إيلي شويري، يا علامة جمال فارقة في وطن مشلّع، وداعًا يا كبيرًا أتعبه الوطن، لكنه ظل يغني. يا لخسارتنا، يا لحاجتنا للكبار.