- En
- Fr
- عربي
ضيف العدد
كتب حسن جوني
لمذا تثير بي "فيروز" كل هذا القلق الجميل: الشعر.. الموسيقى... والصوت الآتي مثل سحب الوتر على الرباب، فتنشر حولي مناخاً خريفياً، يحرضني على الحوار مع أكثر المواقف حزناً وفرحاً في حياتي. وهذا يذكرني بتساقط الزمن في الليل والنهار.. بالحب والكراهية كما هو بالموت والحياة، وأسأل نفسي: هل الغناء الذي هو أصل الشعر والموسيقى في منظومة إبداعات "الرحابنة" و«فيروز» في صميمها وقاسمها المشترك هو كتابة سيرتنا الموحدة!؟
ربما لا تكون أولا يكون غير "فيروز" قادراً أو قادرة على إدخالنا، وعلى مختلف أمزجتنا وقدراتنا الذهنية والعاطفية وتناقضاتنا الحياتية والإجتماعية، أقول إدخالنا في مرآة واحدة حيث تتوحد وجوهنا، وحيث يبدو الحنين لامعاً وكابياً ودامعاً في عيوننا.
هل هي "فيروز" من ينقذنا من الشتات والتمزّق، وتوقفنا هنيهات مع صوتها، بين... بين.. على الحد الفاصل الغامض بين شكوكنا في أن نكون ما زلنا قادرين على الحلم؟
قال شاعرنا الكبير جورج شحاده يوماً:
كيف نموت ما دمنا نحلم...
من أين تأتي اللوحة!! كيف تتشكل في مصادرها، وكيف يحدث التصوّر الأوليّ لعناصرها.. وكيف ومن أين يبدأ الفنان رحلة عمليته الإبداعية وكيف ينتهي مقتنعاً بتوقيع لوحته؟
لا شك أن اللوحة تشكل ناتجاً لمعاناة دقيقة، تولد من «حلم» الفنان بل من إدراكه لحقيقة ذاك الحلم، وأحلام المبدعين وحدها تتحول الى حقيقة خالدة.. حقيقة يبقي الفنان فيها على ما يجب أن يبقى ويزيل ما يجب أن يزول، وتلك هي معادلة الحاجة الجمالية التي يحققها الفن منذ نشأته حتى اليوم.
بمعنى أوضح.. للفنان ثقافات متعددة.. وقدرات متشابكة ومعقدة، أولها إدراك الظواهر المرئية، والنفاذ الى جوهرها، ومن ثم تحويلها الى رموز تعبيرية أو مجازاً نقول اللغة التي يكتب بها الرسام أفكاره.
قد يلجأ الفنان الى ثقافة ثانية، وهي في اختياره لحالة جمالية تتجسد في ظاهر المرئيات ودلالتها.. أي الأشياء كما هي، كي نرى معه واقعاً مثالياً خلف الواقع الذي نراه كمن يقرأ في العين ما ليس مشهوداً في العين.
لكن غاية الفنان العظمى، هي في ما يقدم لنا من فن يكون شهادة على العصر الذي يحياه والبيئة التي يحياها... والفنان كما الشاعر إبن بيئته، يقيم في تاريخ وطنه وجغرافيته وثقافته أصيلاً محبوكاً بآمال أمته، منفتحاً على الدنيا... دنيا الثقافات متفاعلاً معها.
وللثقافة هذه محافل وهياكل وقصور وطقوس وشعائر وصالات عرض ومتاحف ومحترفات وأكاديميات.
بين "زقاق البلاط" وهو من أقدم أحياء بيروت و«رأس النبع» أيضاً، مروراً "بالبسطتين" "التحتا والفوقا" كنت أسلك يومياً طرق طفولتي بين بيتي والكلية العاملية.. سيراً على القدمين فقد منعني والديّ من ركوب "الترام" خوفاً من الإنزلاق تحت عجلاته.. حسناً.. فالذهاب والإياب رياضة عززت قدرتي الجسدية حتى اليوم، لكن ما عزز ذاكرتي التشكيلية وحتى اليوم أيضاً، هو ما كنت أراه وأتأمله من"ناس" قهوة القزاز الفوقا والتحتا، وشجرة المانيوليا التي تدلت أزهارها البيضاء كمصابيح عطرة فوق رأسي بداية كل صيف.. والمنازل المتراصة وبواباتها الحديدية وأدراجها المتعبة وسطوحها القرميدية وزواريبها التي تبتلع خطواتنا والنوافذ التي طالما أطلت منها الوجوه فضولاً وتودداً.. كانت الوجوه في النوافذ أول من علمني وضع وجه في إطار، كما نبهت عيني على الرسم والتلوين وتلوين الفراغ المحيط بالوجه. وعرفت أيضاً العلاقة البدهية بين الإنسان ومحيطه بل كيف يولد البشر من حجر الجدران.. وعلمتني هذه المشاهد جدلية الإحساس الداخلي بالمرئيات الخارجية وبالتالي تحولات الرموز..
أمرّ اليوم بـ«الزقاق» وقد مضى من حياتي إثنان وستون عاماً وبالبسطتين الفوقا والتحتا وقهوة القزاز المتبقية هناك وصولاً الى رأس النبع، أبحث عن بيتنا وعن شجرة المانيوليا وعن الطفل الذي كنته يوماً.. أضعت كل شيء تقريباً، وما تبقى هو وجهي الذي تحوّل على مرآه الجدار الرملي.. زمناً مكثفاً كالجدران التي تداعت شيئاً فشيئاً .. كالأحلام المستحيلة.. كالقرميد المتناثر داخل الغرف التي ظللها يوماً.. أعود الى محترفي في المنارة... أقف بين القماش والألوان وما في روحي سوى حنين دافئ... غارب، أرسم وألون وأدندن في سري مع"فيروز" جارة الطفولة في زقاق البلاط العتيق:
"يا هوى بيروت".