فليكن ذكرهم مؤبدًا

يحملون الأمانة ويسيرون...
إعداد: نسران ونيران

كان من المبكر أن يغادرا ولكن... للقدر أحكامه، ومن يرتدون تراب الأرض وشجرها ويقسمون على منحها دماءهم ،هم خير من يعرف هذه الأحكام المُرّة. يعرفون منذ اللحظة الأولى لأدائهم يمين الوفاء للوطن، أنّهم اختاروا الطريق الأصعب، لكنّهم يحملون الأمانة الغالية ويسيرون...

 

النقيب الطيار جوزيف حنا ابن دبل الجنوبية والملازم أول الطيار ريشار صعب ابن الشويفات، نسران حلّقا في الأعالي طيارَين كفوءَين شجاعين، وضابطان تزيّن مسيرتهما مناقبية الشرفاء الثابتين في ولائهم الملتزمين واجبهم العسكري والوطني. خسارة الجيش بهما كبيرة، وكذلك خسارة الوطن، أما حرقة الأهل فمداها العمر، ولا يخفف منها سوى قدسية الشهادة، وما لها من مكانة في الوجدان. فوحدها دماء الشهداء تصبح صخورًا في أساسات الوطن...

 

النموذج الذي نريده للبنان

استشهاد الضابطين في الحادثة الأليمة أثار موجة من الحزن والتعاطف بين اللبنانيين على مختلف المستويات. وقد زار دولة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي قاعدة بيروت الجوية في حضور قائد الجيش العماد جوزاف عون حيث قدّم التعازي، وأعرب عن تقديره العميق للجهود التي تبذلها المؤسسة العسكرية حفاظًا على أمن لبنان واستقراره  في ظل الصعوبات التي يمر بها اقتصاديًا واجتماعيًا، مثمّنًا احتراف العسكريين ومناقبيتهم في مختلف المهمات التي يؤدونها.

 واعتبر الرئيس ميقاتي أنّ العسكريين هم حماة السيادة الوطنية، مشددًا على أنّ الجيش نموذج للشباب اللبناني الذي لا علاقة له بالطائفية والمناطقية، ويمثل النسيج الوطني بكل أطيافه، وبوجوده لا خوف على الوطن. وختم قائلًا: "ما تجسدونه بوحدتكم هو النموذج الذي نريده للبنان".

أما قائد الجيش الذي شكر الرئيس ميقاتي على وقوفه إلى جانب المؤسسة العسكرية، فقد أكّد أنّ العسكريين متسلحون بإرادتهم الصلبة وإيمانهم بلبنان وبرسالتهم ومؤسستهم، ولن ينال شيء من عزيمتهم.

وكان العماد عون زار القاعدة عقب الحادثة وأكّد أنّ دماء الشهداء هي "حافز يعزز إرادتنا على الصمود والاستمرار".

وهو إذ أكّد من جديد "أنّ التضحية هي قدر العسكريين وصولًا إلى الشهادة إذا اقتضى الواجب"، أثنى على جهود القوات الجوية واحترافها، مشيدًا بما حققته في مواجهة الإرهاب ومكافحة عصابات المخدرات، ومؤخرًا في مهمة مكافحة الحرائق في اليونان وقبرص. وجزم قائلًا: "لن نتراجع أمام الصعوبات، وسنبقى مستمرين حفاظًا على دماء شهدائنا وكرامة عسكريينا، التراجع ليس واردًا في قاموسنا ولا خيار لنا سوى الاستمرار".

 

الوداع

قيادة الجيش وأهالي الضابطين الشهيدين شيّعوهما وسط مراسم التكريم التي تليق بهما، ووسط حزن ثقيل مدوٍ.

انطلقت المراسم من أمام المستشفى العسكري الذي تشهد ساحته تكريم الشهداء قبل الوداع الأخير. هناك أدت مراسم التكريم ثلة من الشرطة العسكرية يجللها الوقار وشاركت موسيقى الجيش في التعبير عن رهبة الحزن وخلود الشهادة. وبعد تزيين النعشين بالأوسمة غادر الموكبان، فاتجه الأول إلى دبل، فيما كانت الشويفات وجهة الثاني، وفي كليهما احتشد الأهالي لوداع البطلين، فاستقبلوهما بالورود والأرز والزغاريد تخنقها الدموع.

مثّل قائد منطقة الجنوب العميد الركن مارون القبياتي كلًّا من وزير الدفاع الوطني موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزاف عون في تشييع النقيب الطيار الشهيد جوزيف حنا، وكانت له كلمة مؤثرة خاطب فيها الشهيد قائلًا: عهدنا فيك الضابط المتميّز بمناقبيته وانضباطه، الساعي إلى أعلى درجات التفوّق، والإنسان المثقف الخلوق الذي قدّم المثال في النزاهة والاستقامة والصفات الحميدة والأب المخلص المناضل في سبيل عائلته، والإبن البار الذي شكّل مصدر فخر لذويه وبلدته".

في الشويفات مثّل قائد منطقة جبل لبنان العميد الركن عمر مجلد كلًّا من وزير الدفاع الوطني وقائد الجيش، ونوّه في الكلمة التي ألقاها بشجاعة الشهيد وتفانيه في أداء الواجب، وقال: "لقد شاء القضاء المحتوم أن يختتم شهيدنا حياته وهو يحلّق في سماء وطنه الذي عشقه منذ الطفولة، فقرر أن يصبح أحد حراسه الأشداء، وانضوى في صفوف الجيش طيارًا متألقًا محترمًا، مشهودًا له بالانضباط والمناقبية والتميّز، وبالفكر اللامع والأخلاق الحميدة".

23/ 8/ 2023، حادث الطوافة التي تحطمت واحترقت في حمانا بينما كانت عائدة من مهمة تدريبية، نسران استشهدا، لن تستطيع النيران محو صورتيهما من الوجدان.

لكن يا لظلم القدر! ويا لشجاعة عسكريينا وهم يواجهون كل يوم وفي كل موقع طوفانًا من المخاطر!

 

النقيب الطيار الشهيد جوزيف حنا:

 من مواليد 25/ 12/ 1994، دبل- بنت جبيل.

 تطوّع في الجيش بصفة تلميذ ضابط اعتبارًا من 12/ 11/ 2012، وتدرّج في الرتبة حتى رتبة نقيب اعتبارًا من 1/1/ 2023، استشهد في 23/ 8/ 2023.

حائز عدة أوسمة وتنويه العماد قائد الجيش وتهنئته عدة مرات.

تابع عدة دورات دراسية في الداخل والخارج.

متأهل وله ولد.

يُرقّى إلى الرتبة الأعلى بعد الاستشهاد.

 

الملازم أول الطيار الشهيد ريشار صعب:

من مواليد 30/ 12/ 1998، الشويفات – عاليه.

تطوع في الجيش بصفة تلميذ ضابط اعتبارًا من 14/ 11/ 2016، وتدرّج في الترقية حتى رتبة ملازم أول اعتبارًا من 1/ 8/ 2022، استشهد في 23/ 8/ 2023.

حائز عدة أوسمة وتنويه العماد قائد الجيش وتهنئته.

تابع عدة دورات دراسية في الداخل والخارج.

عازب.

يُرقّى إلى الرتبة الأعلى بعد الاستشهاد.

 

هذا هو الجيش

كان على متن الطوافة بالإضافة إلى الضابطين الشهيدين، المعاون الفني أحمد صيدح الذي نجا بأعجوبة، وهو ما زال في مستشفى أوتيل ديو حيث يخضع لعمليات جراحية متتالية ويصارع الألم بصبر الشجعان ومعنويات الأبطال.

حين زاره قائد الجيش العماد جوزاف عون على أثر الحادث كان نائمًا، وكم كانت فرحته كبيرة عندما أخبره أهله أنّ العماد عون أتى للإطمئنان عليه وأمضى في المستشفى وقتًا يستوضح عن حالته من الأهل والطاقم الطبي. يخبرنا: "شعرت بفرح لا يوصف، وتناسيت أوجاعي للحظات. في وقت لاحق زاره قائد الجيش مرة أخرى وهذه المرّة كان مستيقظاً وكان فرحه كبيراً …هذا هو الجيش، في أوقات الشدة يكون الجميع حولنا. لا يمكنكم أن تتصوروا شعوري حين أرى رفاقي يتوافدون مجموعات مجموعات إلى غرفتي، يكبر قلبي... "

يشكر المعاون صيدح ربه، ويعتبر أن عمرًا جديدًا كُتب له، ويؤكد: عندما أشفى سأعود إلى قطعتي، سأُحلّق من جديد... نسأله عن أوجاعه وكيف يتحمّلها؟ فيقول: "كله يهون أمام خسارة الرفاق، ذاك ألم لا يزول". يصمت لحظة ويتابع بلهجته البعلبكية: " كنا متل الإخوة، بس هيدا قدرنا، المؤسسة قدمت شهداء كتير وبعدا مكملة بالرغم من الظروف الصعبة، المسيرة بدا تكمّل، ما رح توقف عندي أو عند غيري من اللي راحوا".

بدأ مشوار المعاون صيدح في الجيش في العام 2010، تطوّع لمصلحة القوات البحرية وبعد متابعة دورات اختصاص انتقل إلى القوات الجوية، هو يعشق الطيران وإصابته لن تمنعه من متابعة الطريق الذي اختاره مدركًا صعوبته ومخاطره. أهله الفخورون بشجاعته يحتضنونه ويشكرون الله: "المهم أنّه نجا"...