فكر وأدب

يوسف حوراني ودعوته الى الحضارة الإنسانية
إعداد: وفيق غريزي

لبنان منبع الفكر والمبدعين من شعراء وأدباء وفنانين ومفكرين. لذلك عرف بـ«منارة الشرق». فأينما تجولنا في قراه ومدنه، رأينا في كل قرية مبدعين بارزين في حقول مختلفة من حقول الإبداع، ومن هؤلاء المبدعين يوسف حوراني.

 

حياته

وُلِدَ الأديب يوسف حوراني في بلدة يارون - جنوب لبنان، العام 1931. تلقى علومه الابتدائية في مدرسة القرية، حصّل كل ثقافته الباقية على نفسه في لغات ثلاث: العربية والفرنسية والانكليزية. نال دبلوم دراسات عليا في فلسفة التاريخ بعد قرار كلية الآداب في الجامعة اللبنانية إعفاءه من الإجازة نظراً الى مستوى مؤلفاته. مارس تدريس اللغة والأدب العربي والفلسفة والتاريخ في المدارس الآتية: المدرسة الأسقفية الكاثوليكية في صيدا، الكلية الوطنية العالية، والمدرسة البطريركية في بيروت.

عمل خلال 1953 و1954 في الكويت كاتباً في شركة الخليج الهندسية. ثم تسلّم إدارة النشر لجميع منشورات دار مكتبة الحياة بين 1958 و1967. رئس تحرير  مجلة «المعارف» الصادرة عن «دار مكتبة الحياة» من 1960 حتى 1964، وعمل منذ 1967 في مجلة «رجال الأعمال»، مشرفاً على الترجمات العلمية والإقتصادية، وكتب زاوية ثقافية في مجلة «الديار». ألقى محاضرات عديدة في مختلف الدول العربية حول الفلسفة والتاريخ. كما كتب  في عدد من الدوريات الفكرية العربية. العام 1965 تزوج من دعد قناب فتاة من اللاذقية، والحائزة إجازتين في الحقوق والآداب.

 

من مؤلفاته:

- الإنسان فرد لا جماعة، بحث فلسفي علمي في فردية الانسان وتكوينه البيولوجي 1956.

- حنين الأرض، مجموعة قصصية 1959.

- الإنسان والحضارة، مدخل دراسة الحضارات الإنسانية 1962.

- نظرية التكوين الفينيقية، تحقيق وشرح للنص الفينيقي المنسوب الى سنخوني أتن.

وفي السنوات الاخيرة كانت له ابحاث تاريخية قيّمة حول بلدة قانا، خلص فيها الى القول ان قانا اللبنانية هي قانا التي زارها السيد المسيح وصنع فيها أُولى معجزاته.

رافق يوسف حوراني مختلف التيارات الحضارية ومقوماتها، متغلغلاً في أقصى الجذور، معالجاً فعالية الإنسان، ومختلف أوجه القوة فيه، ناسجاً حول فكرة اساسية، هي الدافع الانساني الطبيعي لتكوين الحضارة، كاشفاً عن ثقافة واسعة شاملة، سهلت له المقابلات المفيدة بين الحضارات، وأمدّته بمعين زاخر للإستشهاد والتقرير، ثقافة تمتد من حضارة ما بين النهرين واليونان ومصر لتتصل في النهاية بأحدث المظاهر الحضارية في الشرق والغرب.

 

بين المدنية والحضارة

بالنسبة الى يوسف حوراني لا أهمية للفرق بين لفظة المدنية ولفظة الحضارة، وإن جاز أن نستعمل التعريف اللفظي نقسم الحضارة الى عدة مراحل كما فعل في الغرب الفيلسوف «شنغلر» في مثل هذا المجال. ولكنه بتعريفه (أي حوراني) الخاص للحضارة، فهو يرى أنها التزام الدافع الطبعي. وهكذا تنعدم امام تعريفه الأشكال الخارجية التي اطلق عليها الباحثون اسم المدنية، ويعبرون بها عن المرحلة التي تصبح فيها الحضارة اشكالاً في البناء والفنون والمظاهر الأدبية والفكرية.

والحضارة المثالية التي تصبو اليها الانسانية، والتي يؤمن انها ستصلها  في يوم من الايام هي تلك الحضارة التي يكون السلوك الانساني خلالها متلاحماً لصالح جميع الافراد في المجتمع الكامل، «من دون فرق طبقي، او فكري بين فرد وآخر، وهذه الحضارة ستصلها الانسانية عندما تستطيع الثقافة ان تشذب الانسانية من رواسب نوازع الغاية. ويقول حوراني: «إني لا أرى ان الفاصل القصير الذي يفصلنا عن الغاية ما يزال قليل الأثر في بناء الفردية الانسانية. هذا التاريخ الذي نراه يمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة أتى بعد مئات الألوف من السنين التي قضاها الانسان حيواناً في الغابة. فليس من السهل ان يكون تخلصنا من حياة الغابة بهذه السهولة، او بهذا المدى القصير النسبي».

 

شروط الابداع

إن لقيام الحضارة شروطاً وعناصر ابداعية، ويرى حوراني انه في الواقع، لا يمكن ان تكون هناك محاولات معتمدة، وإنما هناك شعور انساني. هذا الشعور لازم افراداً قلائل في المجتمع، جاؤوا احياناً بصفة فنانين، وشعراء، وأنبياء، وفلاسفة، فنرى مثلاً الشاعر السومري يقول في إحدى قصائده إن الزمن الذي كان للانسانية، وهو طبعاً الزمن الخيالي الذي يراه ويتطلع اليه، زمن يعيش فيه الذئب مع الحمل والسبع مع النعجة، حيث لا احد يعتدي على الآخر. هذه الرؤيا التي يراها الشاعر الابتدائي رآها الانبياء، وقد بشّر جميع الانبياء في العهد القديم ان الله هو لجميع البشر والشعوب، وليس لشعب واحد، كما اعتقد اليهود بعنصريتهم. ورأى هذه النزعة نفسها في الفلسفات الكبرى، كالرواقية، والمسيحية، والاسلام، وان تكن بدت عند بعض الجماعات على نطاق ضيّق، فهو يؤكد ان الانسانية جمعاء ستصلها، وليس هذا اليوم بعيداً نسبياً لمجرى التاريخ السريع العاصر.

ويشير حوراني الى انه دائماً كان الاحتكاك بين الشعوب دافعاً للابداع. فالاحتكاك بين الشعوب منذ بدء الحضارات، كان سبباً في تفكيك حتميات هذه الشعوب، وايمانها المطلق، والمتحجر احياناً، ببعض العقائد. ونرى مثلاً حسب رأي حوراني هذه الاحتكاكات حررت الفلاسفة الكثيرين من أفكارهم التي كانوا يرونها حتمية، على الرغم من مركزهم الكبير في عالم الفكر والمنطق. فأرسطو على سبيل المثال، وكثيرون غيره من الفلاسفة الاغريق، كانوا يرون العالم الخارجي عالم برابرة، بينما نرى فاتحاً كالاسكندر المقدوني، عندما يحتك بالعالم الخارجي، يؤمن بأن هذا العالم يحق له العيش كالاغريق انفسهم، كما نرى المسيحية في ما بعد تعطي ثقافة جديدة هي غير الثقافة الاغريقية الشرقية التي عاشت على شواطئ المتوسط الشرقي، وذلك كان نتيجة الاحتكاك بين الثقافات المختلفة في ذلك العصر.

 

الأبجدية ونشرها

حول قضية قدموس ونشره الحرف والابجدية في بلاد الإغريق، يعتقد حوراني أن سبل الهجرة، ونشاط التجارة بين الفينيقيين والإغريق، لا يسمح لنا ان نلزم قدموس وحسب بتعليم الابجدية، وإن يكن هو نقلها وعلمها، كما تروي ذلك بعض القصص الإغريقية. ولكن قدموس يقول حوراني «كما يظهر، كان يبني حضارة كاملة في بلاد الاغريق، ومن بنائه نسبت اليه مدينة ثيبة الإغريقية، وينسب اليه ايضاً انه قضى على احد الامراض». وقد اعتقد الإغريق ان هذا المرض كان بصورة تنين. ويظهر ان قدموس كان أميراً ولم يكن فرداً هاجر في سبيل التجارة او في سبيل عمل فردي، لأن بناء مدينة ينسب الى فرد، عمل جبار ونحن لا نعتقد بأنه هو اول من نقل وأحلّ الحروف الأبجدية في بلاد الإغريق، حسب وجهة نظر حوراني.

وعن شعور الانسان المتحضر بنشوة الانتصار وهو يرى الشعوب تكفر في سبيل العلم، يقول حوراني: «في كل انتقال من فكرة قديمة الى فكرة جديدة، كانت الحماسة تدفع الشعوب لأن تشعر بهذه النشوة، ولم يكن الانتقال من الفكرة الدينية الى الحتمية للعالم، الى فكرة العلم والتفسير الطبيعي، الا فرصة انتقال، كالفرص التي مرّت قديماً، والتي نقلت العالم الوثني الى المسيحي، ونقلت العالم المسيحي الى العالم المعاصر.

 

المرأة والحضارة

كان العقل وسيلة لايجاد الدافع، او لتنسيق الدافع الحضاري بين المجتمع الكامل. والعقل لدى حوراني هو الذي ينقل الانسان من القلق والشك الى تفسير العالم، والى الايمان بفكرة عليا. ويأخذ الايمان مجاله هنا لتحقيق الذات الانسانية. ووفق تصوّر حوراني فإنّ المرأة الأكثر ملاءمة للحضارة، ستكون المثقفة التي تعي رسالتها كاملة في المجتمع، ويعني بتلك الرسالة كونها صانعة للمثل الانسانية وكون المجتمع ينفعل بتطلعاتها وأمانيها.

إن يوسف حوراني مبدع متميّز برؤاه التي تخترق الحجب الى أن يصل الى الحقيقة الانسانية النقية.