- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
دونالد ترامب ليس أيّ رئيس، إنه الاستثناء بين الرؤساء. تعرفه العواصم، ويعرفه العزم، والإقدام، والحسم. هامة قدّت من مقالع العنفوان، وقامة مشحونة بالحيوية. واضح، صريح، مباشر. ترك فوزه دويًّا هائلًا على مدى الرياح الأربع، وترك الملوك والرؤساء والسلاطين في موقع الدهشة والحيرة. ما عساه أن يفعل هذا المتكئ مجددًا على أريكة الزعامة في البيت الأبيض؟ وأي سهام ستنطلق من كنانته لتصيب دولًا وأنظمة مبعثرة على مدى القارات الخمس؟
طموحاته جمع بين متناقضات لا تلتقي عند خطّ مستقيم. أسلوبه في العمل، أسلوب المصارع الواثق من قدراته، همّه دائمًا الفوز بالضربة القاضية، وفي الدقائق الأولى من المباراة. يقول بالشيء، وغالبًا ما يأتي بعكسه.
رفع شعار «أميركا أولًا»، وثبّـته ضمن استراتيجيّة مثلّثة الأضلع.
الضلع الأول: تقييد الاقتصاد العالمي بعقوبات وضوابط صارمة، غالبًا ما تكون فجائيّة لمصلحة الاقتصاد الوطني، والدفع به ليبقى في قمرة القيادة وقمّة الريادة.
الثاني: الصداقة عنده هي المصلحة. هكذا تعاطى مع الحلفاء في الاتحاد الأوروبي، ومع حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، متأثرًا بالمبدأ القائل: «ليس هناك من صداقات دائمة، هناك مصالح دائمة».
الثالث: الدفع نحو قيام سلوكيات استئثارية متحرّرة من الضوابط القانونية، والأعراف والمواثيق. السيادة عنده هي للأقوياء، وليس للخرائط المرسومة بحبر يذوب عند البلل بقطرة ماء.
خلال ولايته الرئاسية السابقة، مارس ازدواجية غير مسبوقة في الأداء السياسي، وكأنّه لا يسمع ما ينطق به لسانه، ولذلك لُقّب بـ «أبو اللاءات الثلاث»:
- لا عدالة -من منظاره - إن لم تقترن بالقوّة. وقوّة القانون تحصّن العدالة، وتحرّرها من الإرباك، والمواربة.
- لا لنظام عالمي متعدد الأقطاب، في ظلّ «أميركا أولًا». إنّها القطب القادر على فرض معايير تدعم قوّته الاقتصادية، وتبرّر ريادتها.
- لا ضمانات للجغرافيات الضعيفة، ولا حدود ثابتة للدول الفقيرة، النامية.
أتحف القادة العرب بحرصه الشديد على قيام الدولة الفلسطينية، وكانت النتيجة قراره بضم الجولان المحتل ليصبح جزءًا من «دولة إسرائيل»، ونقل مقر السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وأباح حريّة بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
كندا.. الولاية 51
قبل أن يدخل البيت الأبيض، ويجلس إلى المكتب البيضاوي كرئيسٍ للولايات المتحدة، طالب بضم كندا لتصبح الولاية 51. وبشراء جزيرة غرينلاند، واستعادة قناة بنما، ولعب دور شرطي البحار والممرات المائية في الشرق الأوسط من قناة السويس، إلى باب المندب، والبحر الأحمر، للإمساك بمسارات التجارة العالمية.
لماذا زيادة الضرائب، وتعب القلب مع كندا؟ ولماذا الفروقات في العلاقات؟ وآخر الدواء الكي، فليكن الضمّ. ويكفي أن يكون شعار المرحلة «أميركا أولًا»، لتصبح أولوية المصالح فوق أي اعتبار؟!
يريد بشحطة قلم أن تصبح كندا الولاية51. إثر استقالة رئيس وزرائها جاستن ترودو، كرّر ترامب المطالبة بالضم!
وكان ترودو قد أشار إلى «صراعات داخلية»، و«حكومة غير منتجة». وقال: »هذا البلد (كندا) يستحقّ خيارًا حقيقيًا»، منهيًا بذلك ما يقرب من عقد من الزمن في السلطة.
وفي ردّ فعل على ذلك، نشر ترامب على منصّته «تروث سوشيال» قائلًا: «إذا اندمجت كندا مع الولايات المتحدة، فلن تكون هناك تعريفات جمركية. ستنخفض الضرائب بشكلٍ كبير، وسيكونون محميّين تمامًا من تهديد السفن الروسية والصينية التي تحيط بهم باستمرار».
وأضاف: «لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تحمّل العجز التجاري الضخم، والإعانات التي تحتاجها كندا للبقاء. جاستن ترودو كان يعلم هذا، ولذلك استقال».
وهدّد بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المئة على جميع السلع الكندية إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات لوقف ما يسمّيه تدفق المهاجرين، والمخدّرات إلى الولايات المتحدة. على الرغم من أنّ أعدادًا أقل بكثير تعبر الحدود من كندا مقارنة بالمكسيك التي هدّدها ترامب أيضًا بفرض تعريفات.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يتحدّث فيها ترامب عن فكرة ضمّ كندا إلى الولايات المتحدة، ففي كانون الأول 2024 زعم أن «الكثير من الكنديّين يرغبون في هذا الاندماج، إلّا أن استطلاع رأي أجرته مؤسسة «ليجر» أظهر أنّ النسبة الحقيقية تبلغ حوالى 13 في المئة».
انتقدت هيئات سياسية كندية بارزة توقيت استقالة ترودو، إذ حصلت قبل أسابيع قليلة من تنصيب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة وفق ما نقله موقع Euronews.
السفير الكندي السابق لدى الولايات المتحدة ديفيد ماكنوتون قال لشبكة cbc «الاستقالة تعني أنّ ترودو لم يعد لديه الكثير ليقوم به لمواجهة تهديد ترامب بفرض التعريفات». ورأى «أن ترودو كان ينبغي أن يتخذ هذه الخطوة قبل أشهر ليتيح لكندا فرصة الاستعداد لتهديدات ترامب، وقد حذّر الاقتصاديون من أنّ فرض هذه التعريفات سيؤثر سلبًا بشكلٍ كبير على الاقتصاد الكندي».
من جهته قال رئيس الوزراء المستقيل جاستن ترودو: «لن تكون كندا أبدًا جزءًا من الولايات المتحدة». وأضاف عبر منشور على موقع إكس: «لا توجد فرصة في الجحيم بأن تصبح كندا جزءًا من الولايات المتحدة». وتابع: «يستفيد العمّال والمجتمعات في بلدَينا كونهما أكبر شريك تجاري وأمني لبعضهما البعض»، بحسب وكالة «رويترز».
وأوضحت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي على منصّة إكس: «إن تعليقات الرئيس ترامب تُظهر عدم فهم كامل لما يجعل كندا دولة قوية، ولن نتراجع أبدًا في مواجهة التهديدات».
وبحسب بيانات «معهد الإحصاء الكندي» مثّلت صادرات كندا للولايات المتحدة نحو 77 في المئة من جملة صادراتها في العام 2023، إذ بلغت نحو 594.5 مليار دولار. فيما استوردت الولايات المتحدة نصف وارداتها بواقع 373.7 مليار دولار، أي أنّها تحمل فائضًا تجاريًا قدره 221 مليار دولار.
وتستحوذ الولايات المتحدة على 88 في المئة من صادرات الطاقة الكندية بواقع 166 مليار دولار، فيما تستورد منها 73 في المئة من واردات الطاقة بنحو 32.1 مليار دولار.
وتعدّ السيارات وأجزاؤها من بين أكثر القطاعات المتضرّرة، إذ إنّ أميركا هي وجهة 93 في المئة من الصادرات الكندية بواقع 84.9 مليار دولار، لكن وارداتها أيضًا كبيرة بواقع 83.2 مليار دولار، وتمثّل 59 في المئة من واردات القطاع.
إلى ذلك، تمثّل صادرات السلع الاستهلاكية لأميركا أيضًا نحو 81 في المئة من صادرات كندا بواقع 69.1 مليار دولار، فيما كانت وارداتها من أميركا نحو 35 في المئة من الواردات الاستهلاكية لكندا.
وبصفة عامة، يراوح نصيب أميركا في القطاعات المختلفة بين 49 في المئة و95 في المئة من جملة الصادرات الكندية.
أمام هذا التفاوت في الأرقام، ماذا يفعل ترامب؟ وهل سيقدم على الضم؟ وكيف ستكون التداعيات؟
إنّها أسئلة تُطرح. والمستقبل الآتي كفيل وحده بتوفير الأجوبة حول القرارات، والخيارات!
غرينلاند.. ليست للبيع
قبل أن يحسم ترامب تهديده بضم كندا، انتقل إلى جزيرة غرينلاند مطالبًا بشرائها. وغرينلاند، جزيرة عملاقة، مساحتها أكثر من 2166086 كلم مربع، ذاتيّة الحكم، تابعة لدولة الدانمارك التي حكمت الجزيرة لأكثر من 200 عام. تقع في قارة أميركا الشمالية، ولكنها في الواقع جزء من أوروبا. تظلّ الشمس مشرقة فوق تلك الجزيرة الشاسعة لمدّة شهرين متتاليَين ما بين 25 أيار، و25 تموز. وتقدّر نسبة المساحة التي يقطنها السكان فيها بـ 20 في المئة فقط من مساحتها الكلية.
طالب رئيس وزرائها ميوتي أيخيده خلال خطاب بمناسبة العام الجديد، بالاستقلال عن الدانمارك. وأعرب عن رغبة قويّة في أن تحدّد غرينلاند مستقبلها، وتتحرّر ممّا وصفه بـ «أغلال الاستعمار» التي فرضتها الدانمارك.
وقال: «لقد حان الوقت الآن لكي تتخذ بلادنا الخطوة القادمة. ومثل الدول الأخرى في العالم يجب علينا أن نعمل على إزالة أغلال الاستعمار، والمضي قدمًا».
وردًّا على تعليقات ترامب، صرّح أيخيده بحزم: «إنّ غرينلاند ليست للبيع، ولن تكون للبيع أبدًا»، ممّا يعزّز الشعور بأنّ مستقبل الجزيرة يجب أن يحدده شعبها، وليس القوى الخارجية. ويأتي هذا الدفع من أجل السيادة في أعقاب التعليقات التي أدلى بها الرئيس ترامب، والتي اقترح فيها «اقتناء غرينلاند» وضمّها إلى الولايات المتحدة.
وتبرّر الولايات المتحدة ذلك، بأسبابٍ ثلاثة:
الأول: تزايد أهميّة غرينلاند الاستراتيجية خلال الحرب الباردة، وامتلاك الولايات المتحدة قاعدة جوية كبيرة هناك، وهي قاعدة «بيتوفيك الفضائية»، والتي كانت تعرف سابقًا بقاعدة «ثول» الجوية.
ومن غرينلاند تستطيع الولايات المتحدة مراقبة ومنع أي صاروخ قادم نحوها من روسيا، أو الصين، أو حتى كوريا الشمالية. وبالمقابل يمكنها إطلاق الصواريخ، والسفن باتجاه آسيا، وأوروبا بسهولةٍ أكبر من غرينلاند.
السبب الثاني: غرينلاند مساحة شاسعة، غنيّة بالموارد الطبيعية، والمعادن الأرضية النادرة والتي تستخدم في الهواتف المحمولة، والمركبات الكهربائية، وغيرها من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية مثل النيوريميوم، والديسبروسيوم، ويمكن أن تستخدم أيضًا في صناعة القنابل، والأسلحة الأخرى حسب الجمعية الملكية للكيمياء، علمًا أنّ الصين تعدّ في الوقت الحاضر المورد الرئيسي لهذه المعادن.
السبب الثالث: مع تسبب الانحباس الحراري العالمي في ذوبان الجليد، من الممكن أن تنفتح ممرّات مائية جديدة في منطقة القطب الشمالي، وتحرص كل القوى الكبرى على تعزيز وجودها هناك. وقد ترغب الولايات المتحدة في استباق أي دور روسي، أو صيني أكبر من غرينلاند، والمناطق المجاورة لها.
أسلوب مرفوض
انتقدت افتتاحية «نيويورك تايمز» أسلوب الرئيس ترامب في تعاطيه مع قضيّة الجزيرة، فقد أعلن عن رغبته في شرائها وكأنّها صفقة من صفقاته العقارية،ثم تراجعه عن زيارة الدانمارك لأنّه لا يحتمل رفض طلبه، إذ كانت رئيسة وزراء الدانمارك السابقة تويت هيلي ثورننغ شميدت قد غرّدت ساخرة: «هل هذا نوع من المزاح؟».
ولخّصت الصحيفة الأمر بأنّه واحدة من أكثر المسرحيات المذهلة لرئيس لا يفتأ يبتكر طرقًا جديدة لإدهاش وتنفير وإغضاب الجميع يوميًا تقريبًا.
ورغم الانتقاد، رأت الصحيفة أنّ امتلاك غرينلاند سيكون أمرًا جيدًا للولايات المتحدة، لأنّ الجزيرة ترقد على كنز من المعادن النادرة، وهي الفئة التي تزداد هيمنة الصين عليها، كما أنّ لها أهمية أمن قومي للولايات المتحدة التي تحتفظ في أقصى شمالها بنظام إنذار صواريخ، ومراقبة فضائية، وميناء بحري في قاعدة بيتوفيك الفضائية الواقعة على الساحل الشمالي الغربي للجزيرة. وقد حاولت الصين مرارًا وتكرارًا الحصول على موطئ قدم في الجزيرة، لكنّ الدانمارك لم ترضخ حتى الآن.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ ترامب ليس أول رئيس أميركي يسعى إلى شراء غرينلاند. لقد درس وزير خارجية الرئيس أبراهام لينكولن، وليام سيوارد الفكرة في العام 1867. وحاول هاري ترومان، وفشل في العام 1946. إلى ذلك، حصل الرؤساء السابقون على جزء كبير من أراضٍ أخرى بالشراء. فقد اشترى توماس جيفرسون لوزيانا من فرنسا في العام 1803، واشترى أندرو جونسون الألسكا في العام 1867، واشترى وودرو ويلسون جزر الهند الغربية الدانماركية – جزر العذارى الأميركية الآن - من الدانمارك في العام 1917. ولذلك كان ترامب سيحقق نجاحًا تاريخيًا لو اقتنى غرينلاند. لكن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى امتلاك الجزيرة للاحتفاظ بقاعدة عسكرية كبيرة هناك. والأهم من ذلك أنّ العالم الذي رأت فيه القوى الكبرى أنّ مهمتها الحضارية المتمثلة بغزو أو شراء الأراضي والمستعمرات قد ولّى منذ زمن بعيد، والغضب من استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في أوكرانيا في العام 2014 شاهد على ذلك.
وانتقدت الصحيفة ردّ ترامب على إعلان رئيسة الوزراء ميت فريدريكسن أنّ غرينلاند ليست للبيع، عندما وصف ردّها على مبادرته بأنّها «سيئة». وقال: «لا تتحدّثي إلى الولايات المتحدة بهذه الطريقة، على الأقل تحت ولايتي».
وقد تحوّلت الأخبار عن اهتمام ترامب بضم غرينلاند إلى «مادة للنكات» على الإنترنت، بينما تلقّى استقبالًا باردًا من سكان الجزيرة، والقيادة الدانماركية الذين استاؤوا من اقتراحه، وكأنّ المنطقة «صفقة عقارية كبيرة»، وفق تعبيرهم.
قناة بنما
هدّد الرئيس ترامب بإعادة السيطرة على قناة بنما إذا لم تخفّف الحكومة البنمية الرسوم المفروضة على السفن الأميركية التي تعبر القناة. وقال في تجمّع شعبي في أريزونا: «الرسوم التي تفرضها بنما سخيفة. إنّها غير منصفة. لا بدّ أن يتوقف هذا النهب لبلادنا فورًا».
تصريحات ترامب أثارت غضب الرئيس البنمي خوسيه راوول مولينو الذي قال: «إنّ كل متر مربع في القناة، والمنطقة المحيطة بها، ملك لبنما». مضيفًا: «إنّ سيادة بنما واستقلالها غير قابلين للتفاوض».
وتُعتبر قناة بنما ثاني أهم ممر مائي صنعه الإنسان بعد قناة السويس، وهي من أهم الإنجازات الهندسية في القرن العشرين. تقع القناة في دولة بنما في أميركا الوسطى، وتربط بين المحيط الهادئ ومنطقة البحر الكاريبي، والمحيط الأطلسي، يبلغ طولها 82 كيلومترًا.
تحيط بالقناة من الجهتين بحيرات عدّة، مثل بحيرة غاتون التي تشكل مخزنًا رئيسيًا للمياه اللازمة لعمل القناة، وتمتاز تلك المنطقة بطبيعة غنيّة بالغابات المطيرة، والتنوع البيئي.
وتتمتع قناة بنما بأهمية استراتيجية كبيرة. فقبل إنشائها كانت السفن التجارية مضطرة للإبحار حول الطرف الجنوبي من أميركا الجنوبية عبر رأس هورن في التشيلي، وهو طريق خطير يضيف نحو 13 ألف كيلومتر إلى الرحلة، ويستغرق من 20 إلى 30 يومًا إضافيًّا حسب الظروف الجوية، وسرعة السفن.
فمع افتتاح القناة في العام 1914، تقلّصت المسافة إلى نحو 8 آلاف كيلومتر، وأصبح الوقت المستغرق لعبور القناة يراوح ما بين 8 إلى 10 ساعات. وأسهم هذا التغيير الجذري في توفير الوقت، والجهد، وخفض تكاليف الشحن، ممّا جعل القناة عنصرًا محوريًّا لا غنى عنه في التجارة العالمية.
تستقبل القناة أكثر من 14 ألف سفينة سنويًّا، وفي مقدّمتها السفن الأميركية، والصينية، واليابانية، وتحمل بضائع تتجاوز قيمتها 270 مليار دولار أميركي. وتمرّ عبرها سفن نقل السيارات، وناقلات الغاز الطبيعي، والسفن الحربية، إضافة إلى السفن المحمّلة بالمنتجات الزراعية مثل الذرة، وفول الصويا القادمة من الولايات المتحدة، والمتجهة إلى آسيا، والبضائع الإلكترونية، والسيارات من آسيا إلى أوروبا والأميركيتين.
وتعدّ قناة بنما شريانًا للاقتصاد والتجارة الأميركية، إذ إنّ الولايات المتحدة هي أكبر مستخدم لها. وتمثّل السفن الأميركية نحو 73 في المئة من حركة المرور فيها، وتمرّ عبرها 40 في المئة من إجمالي حركة الحاويات الأميركية كل عام.
ورغم أنّ قناة بنما أصغر ممر مائي عالمي، إلّا أنّها حقّقت إيرادات قياسية بلغت 4 مليارات دولار في العام 2024، وذلك بفضل التوسعات التي تمّ إنجازها في العام 2016، والتي سمحت بمرور سفن «نيوباناماكس» العملاقة، ممّا عزّز قدرتها التنافسية.
أما أسباب زيادة رسوم العبور التي أثارت انتقادات ترامب فتعود إلى أنّ القناة تواجه تحديات بيئية، مثل انخفاض مستوى المياه نتيجة الجفاف، والتغيير المناخي ما دفعها لزيادة الرسوم لمواجهة هذه التحديات.
النفوذ الصيني
كان الرئيس ترامب قد أشار في تصريحاته إلى الصين، وقال: «إنّ إدارة القناة تعود لبنما وحدها، لا إلى الصين، ولا أي جهة أخرى، ولم ولن ندعها أبدًا تقع في الأيدي الخطأ». فما الذي يخشاه ترامب؟
وفق موقع «بوليتيكو» الأميركي تبدو تصريحات ترامب مرتبطة بمخاوف بشأن زيادة النفوذ الصيني في التجارة العالمية، والبنية التحتية الاستراتيجية. فعلى مدار العقدين الماضيين، عزّزت الصين من وجودها بشكلٍ كبير في أميركا اللاتينية، من خلال الاستثمارات في الموانئ، ومشروعات البنية التحتية، واتفاقيات التجارة.
ورغم أنّ الصين لا تسيطر على القناة، ولا تديرها، لكنّ شركة تابعة لمؤسسة «سي كيه هاشيسون» القابضة، ومقرّها هونغ كونغ، كانت تدير منذ فترة طويلة ميناءين يقعان على مدخلَي القناة في البحر الكاريبي، والمحيط الهادئ. وفي ظلّ المنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، قد تعتبر قناة بنما ساحة أخرى للصراع بينهما.
وبحسب موقع «بوليتيكو» لم تصدر عن الصين أي مؤشّرات علنية على اتخاذها أي خطوة لشراء القناة، أو توسيع نفوذها على عملياتها، وربما تكون تصريحات ترامب استباقية لمحاولة إثناء الصين عن أي مخطّط توسّع في أميركا اللاتينية.
فكرة تعود للقرن السادس عشر
بدأت فكرة إنشاء قناة تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ في القرن السادس عشر عندما اقترح الملك الإسباني كارلوس الخامس حفر ممر مائي عبر الأراضي البنمية، لكن هذا الحلم لم يتحقّق بسبب التحديات التقنية في ذلك الوقت. وفي أواخر القرن 19 تولّت فرنسا مشروع بناء قناة بنما تحت قيادة الدبلوماسي الفرنسي فرديناند دو ليسبس، الذي أشرف على بناء قناة السويس.
بدأ العمل في حفر القناة في العام 1881 لكنّه توقف بعد 8 سنوات بسبب التكاليف الباهظة، وتفشّي الأمراض مثل الملاريا، والحمّى الصفراء التي أودت بحياة نحو 22 ألف عامل. وبعد توقف المشروع الأول تمّ تأسيس شركة فرنسية جديدة في العام 1894، لكنها لم تحقق تقدمًا يذكر، واقتصر نشاطها على صيانة الموقع، لتقرّر لاحقًا بيع حقوق المشروع للولايات المتحدة مقابل 40 مليون دولار.
وفي عام 1903 وقّعت الولايات المتحدة معاهدة مع دولة بنما المستقلّة حديثًا آنذاك، سمحت لها بتطوير مشروع القناة. وقضت المعاهدة أن تدفع الولايات المتحدة لبنما جزءًا من إيرادات القناة، وفي المقابل تضمن الولايات المتحدة حياد القناة، والسيطرة على الأراضي الواقعة على جانبيها.
عمل خلال الفترة الأميركية أكثر من 50 ألف عامل على المشروع، من بينهم عمّال من جزر الكاريبي، وأوروبا، وآسيا، ورغم الظروف القاسية، نجحت التدابير الصحية مثل مكافحة البعوض وتجفيف المستنقعات، في تقليل عدد الوفيات إلى نحو 5 آلاف شخص. وفي غضون عشر سنوات من العمل المكثّف، افتُتحت قناة بنما رسميًّا في 15 آب 1914 مع عبور أول سفينة أميركية تدعى «إس إس أنكون».
ظلّت القناة تحت السيطرة الأميركية منذ افتتاحها وذلك بناء على معاهدة العام 1903 التي اعتبر العديد من البنميين أنّها تمثّل انتقاصًا من سيادتهم الوطنية، ممّا أدى إلى تصاعد التوترات بين الطرفين. وفي العام 1964 بلغت الاحتجاجات الشعبية في بنما ذروتها، ما دفع البلدين إلى البحث عن حلول للنزاع حول القناة.
وفي العام 1977 وقّع الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر، ورئيس بنما عمر توريخوس معاهدتين تاريخيتين، نصّت الأولى على تسليم تدريجي للقناة إلى السيادة البنميّة بحلول نهاية العام 1999، أما الثانية فحدّدت كيفية ضمان حياد القناة بعد نقلها لتظل مفتوحة أمام جميع الدول.
وخلال الفترة الممتدة بين 1977 و 1999 تقاسمت الولايات المتحدة وبنما إدارة القناة بشكلٍ مشترك. ومع حلول 31 كانون الأول 1999 تسلّمت بنما رسميًّا السيطرة الكاملة على القناة منهية بذلك قرنًا من النفوذ الأميركي المباشر على هذا الممر المائي الحيوي. لكن خلال هذه الفترة غزت الولايات المتحدة بنما وكان ذلك في 20 كانون الأول 1989 خلال فترة رئاسة جورج بوش الأب، وتمت العملية تحت اسم عملية «القضية العادلة». هدفت العملية إلى الإطاحة بالجنرال مانويل نورييغا الذي كان حليفًا سابقًا لواشنطن، ومتهمًا بالتورط في تجارة المخدّرات، وغسل الأموال. وقد برّرت الولايات المتحدة التدخل بحماية مواطنيها المقيمين في بنما، وتأمين القناة الاستراتيجية، ودعم الديمقراطية بعد الانتخابات التي زوّرت نتائجها لمصلحة نورييغا، وفق ما قالته المعارضة البنمية آنذاك.
أدت العملية العسكرية إلى سقوط مئات القتلى، بينهم مدنيون. وأثارت انتقادات دولية واسعة بسبب الخسائر البشرية والتدخّل العسكري، ومع ذلك أسفرت عن إنهاء حكم نورييغا، وتمكين الرئيس المنتخب غييرمو إندارا من تولي السلطة ما مهّد لعودة الديمقراطية إلى بنما.
فهل يعيد التاريخ نفسه اليوم؟
البحر الأحمر.. قناة السويس
مع أنّ الولايات المتحدة لم تتأثر بشكلٍ مباشر من التوتر في البحر الأحمر كونها تقع بين محيطين، ما يمكنها من إرسال مواردها خصوصًا من الغاز والنفط إلى معظم الدول، إلّا أنها مسؤولة مباشرة بحكم موقعها كدولة كبرى معنية بأمن إمدادات الطاقة وأمن التجارة الدولية.
وقد أدى تصاعد الأحداث مطلع العام 2024، والتوترات في البحر الأحمر، إلى زيادة ملحوظة في أسعار النفط، كما أدى إلى تقلّبات كبيرة في أسعار الغاز. ووفق مؤشر روتردام TTF تتضح القفزة بنسبة 12 في المئة تقريبًا. ويعكس هذا التقلّب عدم استقرار أسعار الهيدروكربون عند حدوث أزمات جيوسياسية.
ونظرًا لمخاطر الصراع حول البحر الأحمر، قامت بعض شركات النقل البحري بتغيير مساراتها، أو تعليق عملياتها في المنطقة. ووفق “يورونيوز” فإنّ الالتفاف حول أفريقيا لتجنّب المرور في البحر الأحمر يزيد فترة الشحن، ويرفع بالتالي تكاليف النقل، وأقساط التأمين، وهذه العوامل أدت بدورها إلى زيادة التضخم.
أثّرت أزمة البحر الأحمر بشكل كبير على اقتصاد الصين، وتجارتها على الرغم من إعلان جهات معينة أن السفن الصينية والروسية يمكنها التحرّك بحرية عبر باب المندب. وأدت الأزمة إلى ارتفاع معدّل التضخم بنحو 0.3 في المئة في الصين، وانخفاض نمو الناتج المحلّي الإجمالي بمقدار 0.4 في المئة، بما يحدّ النمو العالمي إلى حوالى 2 في المئة في العام 2024.
هنا يُشار إلى أنّ زيادة التوتر في المنطقة – ووفق بعض الإعلام الأميركي – تحقّق مصلحة الولايات المتحدة في صراعها مع الصين من خلال التأثير سلبًا على مصالح الصين الاقتصادية.
لكن لا بد من الإشارة أيضًا إلى أنّ ما يقارب 14 في المئة من التجارة البحرية العالمية يمر عبر البحر الأحمر وفق شركة VORTEXA من بينها 8.2 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمنتجات البترولية.
وتشير التقديرات إلى مرور حوالى 16.2 مليون طن متري من الغاز الطبيعي المسال والنفط، التي تتوجّه خصوصًا إلى دول أوروبا وآسيا نظرًا لاعتمادها على واردات الطاقة عبر هذه الطريق البحرية.
مصر
تدفع مصر فاتورة قاسية نتيجة التوترات في البحر الأحمر، وتعثّر الملاحة البحرية، وانعكاس كل ذلك على حركة المرور في قناة السويس، وتراجع سفن الحاويات العابرة للقناة التي تعدّ أقصر ممر مائي يصل حركة التجارة العالمية بين الشرق والغرب.
ويؤكد رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع أنّ إيرادات القناة تضرّرت بشكلٍ كبير، وتراجعت إلى 7.2 مليار دولار في العام 2023 – 2024 بعد أن كانت وصلت إلى 9.4 مليار دولار في العام المالي 2022 – 2023.
كما أن معدّل عبور السفن انخفض إلى 20148 سفينة في العام المالي 2024، من 25911 سفينة في العام المالي 2023. وقد أدت الهجمات في البحر الأحمر إلى حدوث حالة من الشك، والمخاوف، والحذر والحيطة من أصحاب إدارة الشركات الأجنبية الغربية – الأوروبية الأربع الكبرى، وهي: الدانماركية MERSIK والألمانية HAPAG - LLOYO والفرنسية CMA CGM والإيطالية / السويسرية MSC.
وآثرت هذه الشركات النجاة بعدم استخدام ممر مضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وقناة السويس، واستخدام البديل الوحيد وهو المرور والدوران حول رأس الرجاء الصالح (أفريقيا)، وصولًا إلى أوروبا والبحر المتوسط وأميركا.
كيف سيتعامل الرئيس ترامب مع هذه الممرات المائية الشرق أوسطية، والتي تتحكم باقتصاديات العالم؟ إنّه السؤال التحدي... والمستقبل يجيب!