مبادرات شجاعة

ناداني الواجب... فلبّيت النداء
إعداد: ليال صقر الفحل

في أوقات الصعاب وساعات المحن، تختلف ردات فعل الأشخاص في التصرف، منهم من يفرّ، ومنهم من ينهار، ومنهم من يتصرف... وأبناء المؤسسة العسكرية هم ممّن يتصرفون. وغالبًا ما يتصرفون بحكمة ودراية مهما اشتدت الصعاب، ويكون تصرفهم تجسيدًا لمفاهيم راسخة قي عقولهم وقلوبهم بفعل تنشئتهم ومحبتهم لوطنهم وولائهم له.


كنا نتابع عندما كنا صغارًا أبطالًا خارقين على شاشات التلفاز يكرسون أوقاتهم لمساعدة الآخرين في اجتياز صعوبات أو مشكلات كانوا يتعرضون لها. هؤلاء الأبطال موجودون في الواقع، وهم يبرزون في الأوقات الصعبة، ويقومون بأعمالٍ فيها الكثير من الشجاعة وتخطي الذات.
لا حاجة لإعادة تذكير اللبنانيين بالحدث الكارثي الذي زلزل العاصمة بيروت في الرابع من آب، وخلّف وراءه دمارًا هائلًا لم تخلفه جولات حروب امتدت لسنوات، والذي ما زالت آثاره قائمة بعد مرور ما يزيد عن أربعة أشهر.
اليوم، تعرّفنا إلى سوبرمان الجيش الذي تجاوز ألمه وذهوله واستمدّ من حسه الإنساني قوة إلى قوة، ومن تنشئته العسكرية إقدامًا، فحوّل دراجته إلى سيارة إسعاف نقلت سبعة جرحى إلى المستشفى.
عن فرد في المؤسسة العسكرية أتحدث، عن عريفٍ أتمّ واجبه العسكري كاملًا وغادر مكان عمله متّجهًا ليقوم بواجبه العائلي في بيته. كان يجتاز شارع بشارة الخوري مستقلًا دراجته النارية، فجأة رأى أرصفة الشارع كما أبنيته وأشجاره، تتحول إلى ركام وزجاج متناثر وقطع زفت وأغصان مبعثرة ومتراكمة في كل صوب. مدينة نابضة بالحياة تحولت في ثوانٍ إلى مدينة منكوبة تتألم من وقع أضرار بشرية ومادية لا تحصى ولا تعد. فيلم رعب شهده فرد لم يشهد له مثيلًا رغم كونه عسكريًا. قذفه العصف بعيدًا، فجرّح الزجاج والحديد رجليه ويديه ووجهه. وجد نفسه قادرًا على النهوض فوقف، نظر من حوله، تنبّه إلى وجود أشخاص فاقدي الوعي، استيقظ مارد النخوة في صدره، وحمله الإقدام نحو موظف أمن رماه العصف على بعد أمتار منه. كان ممدّدًا مضرجًا بدمائه، تذكر في وقت لا مجال للتأخر فيه أن ما تابعه من دورات إسعافات أولية يمكّنه من المساعدة، وأنّ أول ما كان يجب أن يبحث عنه هو النبض. نبض صلّى ليجده في هذا المصاب ووجده، فحمله وحافظ عليه كما تحافظ أم على طفلها بين يديها. يروي لنا: «كنت أشد على المصاب بيد كي لا يفلت مني وأزيد ألمه ألمًا، وأحمل دراجتي النارية بيدي الأخرى حتى أستطيع اجتياز الركام والزجاج المتراكم في طريقي. مسؤولية كبيرة وجدت نفسي أمامها، ولا أعلم كيف تحولت يداي المضرجتان بالدم إلى ذراعين فولاذيين. وكنت في كل مرة أوصل مريضًا أشعر أنّ الواجب يناديني لا بل يجبرني على البحث عن غيره، فأعود مرة تلو الأخرى، أتحمّل الألم نفسه، وبالقوة نفسها، لا بل بمزيد من الصلابة. تنوعت الإصابات بين طفيفة ومتوسطة وحرجة، لكن المشهد نفسه: دماء ودموع وأصوات تستغيث. تكررت العملية أكثر من سبع مرات، وأوصلت الجرحى إلى مستشفيي ماريوسف والساحل. وعند عودتي إلى محيط الانفجار مرة جديدة كانت دراجتي قد أصبحت فارغة من مادة البنزين. ترجلت عنها ورحت أركض بحثًا عن محطة، لكن الوضع كان كارثيًّا لدرجة أنّني لم استطع تزود الوقود من أي محطة. لم يكن أمامي سوى حل دفع الدراجة وأحيانًا حملها حتى بلغت محطة بعيدة نوعًا ما، فتزودت البنزين واتجهت إلى المستشفى العسكري المركزي حيث اهتم الممرضون بتضميد جروحي ومداواتها».
وختم: «لا يتوقف الواجب العسكري مع مغادرته الثكنة العسكرية، فشعار الشرف والتضحية والوفاء ليست مجرد حروف وكلمات. إنّها سمات تجري في دماء كل عسكري يؤمن بالوطن. لو أنّني فكرت بأنانية واستسلمت لألمي الجسدي وجروحي التي أصبت بها في ذلك اليوم، لما أنقذت هؤلاء المصابين. ناداني الواجب، ولبّيت النداء».
إنّه عسكري من جيشنا يشبه مؤسسته، ويجسد استعدادها اللامتناهي للتضحية في كل حين.