نافذة

مرّةً نَطَقَ لبنان
إعداد: روني ألفا

مرحبا أنا لبنان. لأول مرة أخرج عن صمتي. هل سمعتم يومًا بوطنٍ يحكي؟ اليوم سأخاطبكم بالمباشر.
مررتُ معكم بشوكٍ وليلٍ ومشقات. انتُهِكت كثيرًا منذ مئة سنة وأكثر. عُلِّقَ العمل بدستوري مرات خلال التاريخ. هل تذكرون؟ قُصِف مطاري. هُدَّت جسوري. دُكَّت بيوتي. كل الدول العظمى تقريبًا تنادت على اقتسام ثيابي وأنا على عود الصليب. أما أنا الذي ورد اسمي اثنين وسبعين مرة في الكتاب المقدس فلوّحتُ يومًا بأرزةٍ لضباطٍ وجنودٍ أقسموا الولاء لي. سمعتهم يتعهدون عدم قبول الخدمة إلا في سبيلي وسبيل رايتي على ألا يكون لهم علاقة إلا بدولةٍ ومؤسسات تحلفُ باسمي. أنا ممتنٌ للأحياء منكم والأموات. أنتم أيضًا صنعتم خلودي.
كلّكم أحببتموني. كم سعيدٌ أنا من سرمديّتي أن أحظى بأبناءٍ مثلكم. عقدتم باسمي المؤتمرات. طالبتم باستقلالي حين كانت الأغلال تُفَصَّل خصّيصًا لاعتقالي. ظنَّ البعض أنّ الأوطان تُعتَقَل. ليس هناك من سجن في العالم مهما كان كبيرًا يتّسع لتوقيف وطن. مناسبةٌ بعد ٧٧ سنة استقلال أن أشكر أبنائي على جرأتهم وشجاعتهم. أشكر كل جرحٍ انفتح. كلَ جرحٍ لم يُختَم. كل دموعِ الأمهات اللواتي صلّينَ وانتظرنَ أبناءهنَّ ليعودوا من صولات النضال.
أشكرُ رجالَ الإستقلال فردًا فردًا حيث لا يتسع حيّز ولا وقت لتعدادِ مآثرهم. معتقل راشيا ما زال شاهدًا على وطنيتهم. يومَها كان دستوري بخطر. دافعوا عنه من معتقلهم. ما أجمل أن أحظى برجالٍ يفضّلون المعتقل على تشويه سطر واحد من دستوري. أشكر شعبي البطل. المزارع تركَ مسكبته والفلاحُ تركَ ثلمه والمعلّم ترك طبشورته. كلّهم تنادوا لحماية رجال الاستقلال. كم يسعدني أن تشعروا بهذه الغيرة. محظوظ أنا بكم يا أبنائي.
أشكر كل من تظاهر واعتصمَ بإسمي. كل من عدّل في عَلَمي ورسم الأرزة في وسطه. كل من وقَّع عليه اسمه. شكري المكرر الى الصحافةِ التي أضربت والأقلام التي كتبت والإعلام الذي انتفض. أشكر الطلاب والموظفينَ والمعلمين والعمال والصحفيين والأطباءَ والمحامين وربات البيوت وسائقي سيارات الأجرة وصيادي الأسماك. منهم من سقطَ جريحًا بالرصاصِ الحي ومنهم من ارتقى شهيدًا لأبقى. أنا مدينٌ لكم بأبديّتي وسرمديّتي.
أشكرُ كل من رفع عَلَمي الجديد منذ ٧٧ عامًا فوق بلدية أو سرايا أو مركز شرطة أو ثكنة أو بيت أو تلة. لقد ساهمَ علَمي هذا في تغذية روح الوطن في كل واحدٍ من أبنائي وكم أنا فخورٌ بأن علَمي ما زال يوحي للرسامين والشعراء والكتّابَ بكلماتٍ ولا أجمل وقصصٍ ولا أروع وقصائد ولا أعمق.كم مرّة تردَّد نشيدي في حناجركم؟ كم مرّةً أنشده الأطفال ببراءةٍ والجنود ببسالة؟ شكري المكرَّرُ الى ولَدَيَّ رشيد ووديع. أدين لهما بترداد إسمي ملايين المرات على مدى السنوات.
أنا اليوم أنا. لم ينقصْ مني ذرة كرامة. لم تُسلَب مني أي هيبة. قدسيتي ضمَنَها الكتابُ المقدس وصانها التاريخُ وحفظتها الجغرافية عن ظهر قلب. لا تفرّطوا بها يا أبنائي. تذكّروا أنكم تحملون جنسية أجملِ بلدٍ في العالم. بلد يرقد تحت كل زيتونة فيه شهيد. في كل بيت من بيوتي قصة وطن. خبّروها مرفوعي الرؤوس. لا تخافوا علي. أنا باقٍ. خافوا على وحدتكم من الغريب. صونوا كرامتكم من العدو. اذا فعلتم ذلك تتحول خلافاتكم إلى رماد. أنتم لبنانيون. تذكروا هذه الصفة. أخرجوا بها الى العالم ولا تستحوا.
ثقوا بدولتكم. ثقوا بجيشكم. نعم الدولة. هي ملاذكم وسط الفوضى. تمّموا بناء مداميكها. دعّموا أساساتها. لن يبقى لكم بعد انحسار العاصفة الا الدولة. إبنوها واسكنوا في ثقافتها مواطنةً وعدلًا ومساواة. أوصيكم بجيشكم. من صمته يحقق. كونوا صوته. يموت ويحيا كأنه منذور للشهادة. واكبوه. ابكوا في جنازات شهدائه. صفّقوا لأخبار بطولاته. لا تخافوا. أنا معكم.