قصة قصيرة

522
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

كان الشوق والقلق قد استبدّا به واشتدّا عليه عندما قصد قريتها وانتظرها حتى خرجتْ ورفيقات لها من المصنع الصغير الذي يعملن فيه على مقربة من تخوم القرية. هذه المرّة كان في فيه كلام جديد يقوله لها، لكنه لم يكن عارفًا من أين يبدأ.
حاول «عماد» جاهدًا أن يكبح هيام قلبه، ويسلّم بمشيئة القدَر، ويعود أدراجه؛ فحسْبُه أنه رأى الطريق التي تمشي «صفيّة» عليها، وسمع شدو البلابل التي استعارت عذوبة صوتها. لكنّ قلبه رفض وتمرّد.
ساعتان مضتا قبل أن تخرج الرفيقات يضحكن ويثرثرن إلا صفيّة. صفيّة التي كانت تملأ الفضاء ضحكاتها وتسير جَذْلى راقصة منقّلةً كالظبية خطواتها، هي الآن سائرة بينهن ساكتة، مطأطئة رأسها من حزن ويأس. لكنّ اليأس والحزن اللذين استعمرا قلبها طيلة سنتين، لم يتمكّنا من نضارة وجنتيها، وصفاء عينيها، واستدارة الأقحوانة في شفتيها. إنها بحقّ زينة صبايا القرية والجوار. هكذا كانت. وهكذا بقيت. آسرة الجمال، فتّاكة اللحظات. وإذا كان الخالق قد خصّها بكلّ هذه النِعم، فإنه لم ينسَ أن يهبها، أيضًا، قلبًا طيّبًا، وروحًا نقيّةً، وذكاءً متوقّدًا.
وقف عماد في طريق صفيّة، ونظر في عينيها اللوزيّتين حزينًا وصامتًا. ثم خفض بصره إلى أصابع قدميها السمر، وتمنّى أن ينحني ويمسح عنها الغبار بأهداب عينيه. أما الصبايا الأخريات فتركن صفيّة ومضين على مهل من دونها. إنهن يعرفن كل قصّة الحبّ الجارف الذي جمع بينها وبين عماد. ليس هن فقط. أشجار الصفصاف التي تخفر الطريق، النسائم والأطيار والناس، كلّهم يعرفون الحكاية.
اعتصم عماد بالصمت، وجالد كي لا تسقط الدمعة من عينه. لكنّ قلبه كان يبكي.
- «عماد». إسم لفظته صفيّة مذبوحًا فوق شفتيها، وغطّت شعرها بالمنديل جيّدًا، وأحكمت رباطه تحت ذقنها.
- حبيبتي. كلمة لفظها عماد وهو يحتجز يد حبيبته بين كفّيه قبل أن تسحب صفيّة يدها.
- علينا ألا نلتقي بعد اليوم. هذا خطأ. ألسنة الناس لا ترحم، ولا الربّ يرضى بذلك.
- أحبّك يا صفيّة. اشتقتُ إليكِ يا حبيبتي، ولا أستطيع أن أحيا من دونك.
- أنا الآن امرأة متزوّجة، قالت واغرورقت بالدمع عيناها.
- أعرف يا حبيبتي. لكن كيف سيعرف قلبي!! إن كنتِ لا تستطيعين أن ترحميني، فأرجوكِ أن ترحميه.
- إرحمني أنت يا عماد وابتعد عن دربي إن كنت تحبّني، قالت بصوتٍ يحاكي البكاء. أتقول إنني كففتُ عن حبّك وسلوتُك؟ أتظنّ أن روحي لا تتمزّق وقلبي لا يحترق من بَعدك؟ لكنّ هذا قدَري وقدرك. وعلينا أن نرضى بما قُدِّر لي ولك.
أمسك عماد راحتَي صفيّة إلى صدره بحنان ومودّة: «لا أستطيع أن أخسركِ. لا أستطيع نسيان مذاق السعادة التي عرفتها معك... اطلبي منه الطلاق. تحرّري لنهرب معًا، ونعيش في مكان ليس فيه سوانا.
- أطلب منه الطلاق!! قالت وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ميتة لم تستطع إحياءها دمعتان سقطتا من عينيها.
- أجل يا حبيبتي. هو أنا مَن تحبّين؛ فلمَ تفنين عمرك مع رجُل لا تحبّينه!
- وماذا أفعل بطفلتي التي ما زالت تحتاج إلى رعايتي! أأتخلّى عنها وأهجرها إرضاءً لأنانيّتي! لا يا عماد. لم أكن من قبل أنانية، ولن أكون. هوذا نصيبي. الحياة ليست لي. أنا ميتة منذ سنتين، لكنهم لم يدفنوني بعد. أما أنت فالمستقبل أمامك. إذهب وعِشْ حياتك وانسَني. إنّ في ذلك خيرًا لك ولي. هكذا قالت، وسحبت يديها من بين كفَّي حبيبها، ودسّت أصابعها بين خصل شعره، وقبّلت رأسه قبلة الوداع الأخير، ثم استدارت ومضت تمشي الهوينا وتروي تراب الطريق بدموعها. أما عماد فأرسل وراءها عينيه وقلبه. ولما توارت، رفع بصره نحو السماء: «لماذا تفعل بي كلّ هذا يا إلهي، لماذا؟»، ثم بكى بمرارة.
وصلت صفيّة إلى البيت تجرّ قدميها. وكانت أمّها هناك، مثل كلّ يوم، تعتني بطفلتها، وتنتظر مجيئها من العمل. أما «سلمان» زوجها فكان في كلّ يوم من أيّام الربيع هذه ينضمّ إلى أبيه وبضعة عمّال في كروم العنب والتين وبستان الليمون يحرثونها، ويُقيمون ما تداعى من حيطانها في فصل الشتاء، أو يرافق أصدقاءه في رحلات الصيد.
رأتِ الأمُّ ابنتَها حمراء المقلتين من بكاء؛ فضمّتها إلى صدرها: «لماذا تبكين يا صغيرتي؟ هل تعرّض إليك أحد في العمل بسوء؟... تعالي، تعالي. اليوم عيد ميلادك التاسع عشر، وقد حضّرت لك قالب حلوى كبيرًا».
- تقصدين ذكرى موتي التاسعة عشرة.
- لماذا تقولين مثل هذا الكلام يا ابنتي!!
- لأنها الحقيقة، صرخت. لأنني ميتة لا حيّة. والميت يُحيون ذكراه لا يحتفلون بعيده.
- صفيّة، همست الأمّ واضعةً يدها على شفتيها المرتعشتين.
- لقد قتلتموني يوم أكرهتموني على الزواج من رجُل لا أحبّه. من رجل مجرم يستحقّ حبل المشنقة، صرخت بصوت أعلى. ثم ارتمت على صدر أمّها تبكي: «أنتِ التي طعنتِني أوّل طعنة يا أمّي، أنتِ». ثم دخلت غرفتها، وأوصدت الباب خلفها، وارتمت على سريرها تندب حظّها. وراحت تقلّب أوراق ذاكرتها حتى عادت إلى أوّل صفحة من حكايتها الجميلة... المؤلمة.
* * *
في ذلك اليوم قبل سنتين وبعض السنة، أُقيم في قرية سلمان وصفيّة احتفال شعبيّ كانت القرية قد دأبت على إقامته في تاريخ ثابت كلّ صيف في ملعب المدرسة. وكان هذا الاحتفال يؤلّب جماهير الناس من كلّ الجوار.
حضر عماد من قريته المجاورة بعد إلحاح من صحبه. الحفلات الصاخبة لم تكن تروقه. إنه يحبّ الهدوء، والطبيعة، والتنزّه في الغابة بخاصّة في أواخر شهر أيلول حيث يكون الأصفر والأحمر قد خالطا خضرة أشجار البطم والميس والصفصاف، ويهوى الموسيقى والمطالعة.
عندما بلغوا مكان الاحتفال، كان الملعب غاصًّا بالناس، والموسيقى تصدح أعلى من صوت المغنّي على المنصّة، وأيادي الفِتية والفتيات مشبوكة في رقصة «الدبكة» على إيقاع الطبل والزمر.
وقف عماد يتفرّج. وسرعان ما لفت نظره بين الراقصات فتاة صبيحة الوجه، ممشوقة القدّ، سمراء البشرة، يمور جسمها صحّة وعافية حتى لَيخالها الناظر إليها في الخامسة والعشرين من عمرها. ترقص برشاقة، ومعها ترقص أذيال فستانها الطويل وخصل شعرها البنيّة اللون؛ فلم يعُد عماد يستطيع لملمة عينيه عنها. وإذ التفتت ورأته ينظر إليها مبتسمًا، ابتسمت، وأشاحت بنظرها. وأكثر من مرّة فكّرت في الالتفات نحوه، إلا أنها كانت تُحجم في كلّ مرّة.
إحساس غريب جميل وجديد اقتحم قلبها على حين غرّة. كيف لا ومَن وقعت عليه عيناها، شابّ وسيم قويّ البنية، وقد بدا لها في الثانية والعشرين من العمر.
وما أصاب صفيّة أصاب عمادًا أيضًا. هذه الصبيّة فتنته، سحرته، وخلبت لبّه. فما أعظم الحبّ الذي يولد من نظرة واحدة!
دعا عمادًا صحبُه إلى مشاركتهم رقص الدبكة؛ فتردّد. لكنّ عينَي صفيّة أمرتاه؛ فانصاع واقترب، وفصل بين صفيّة وجارها. فلمّا التقط يدها، ابتسمت من غير أن تنظر إليه. وشعرت بأن قلبها قد عُصر بين أصابعه. وبعد قليل وقت ارفضّت حلقة الدبكة؛ فعاد كلٌّ إلى مقعده. أما صفيّة فانتحت ناحية لا يشاطرها فيها أحد؛ فاقترب عماد منها، ومدّ يده إليها مصافحًا.
- أنا عماد من قرية...
- أنا صفيّة من هذه القرية.
- أتسمحين لي أن أقول لكِ إنكِ... جميلة جدًّا؟
كادت صفيّة أن تقول له: «وأنت في غاية الوسامة». لكنّ الخجل قطّب شفتيها؛ فابتسمت، وأناخت رأسها. ثم رفعته، وقالت: «لاحظتُ أنك كثيرًا ما أخطأتَ نقلة القدم أثناء الرقص»، وضحكت.
- أتضحكين مني؟ عليكِ إذًا أن تعلّميني.
- في المرّة القادمة راقبْ حركة قدمَيّ جيّدًا.
- لن أستطيع.
- لماذا!!
- لأنّ عينيّ ستكونان مشغولتين بالنظر إلى جمال وجهك وإشراقة ابتسامتك.
ارتبكت صفيّة ولم تعرف بما تجيب؛ فاعتصمت بالصمت للحظة، ثم سألت: أهي المرّة الأولى التي تأتي فيها قريتنا ليلة الاحتفال بالعيد؟
- أجل. ويبدو أنني لن أفوّت العيد القادم. ولكن أرى أنه سيبطئ في مجيئه هذه المرّة، ولا أعرف كيف أتجمّل بالصبر حتى يجيء. قال وهو ينظر في عينَي صفية ظانًّا أنّ الجواب سيُعييها هذه المرّة أيضًا.
- ليس أجمل من حلول الموعد إلا انتظاره بشوق.
- آه!! الآن أستطيع أن أضيف إلى صفاتك الجميلة الفطنة وسرعة البديهة.
وما لفظ عماد جملته حتى كان صوت أحد أصحابه يناديه ويدعوه إلى المنصّة. وكيف لا يدعونه في مثل هذه المناسبة والكلّ يعرف أنه ذو صوت رخيم!
تردّد بادئ ذي بدء لأنه كان راغبًا في البقاء مع صفيّة ومحادثتها بعد. لكنه لبّى الدعوة، وخطا باتّجاه المنصّة خطوات واثقة، واعتلاها كالفارس يعلو صهوة الفرس، وطلب من العازفين أن يرافقوه بأنغام منخفضة، ثم أنشد:
بكتْ عيني. سألتُ العينَ هل مِن    قَذىً تبكينَ أمْ فَرْطِ اشتياقِ؟
أجابتْ: هذهِ ليست دموعًا            ولكنْ ذَوْبَ قلبٍ في احتراقِ
يموتُ أسيرَ أضلاعٍ قُساةٍ             وقاسٍ مثلُها يومُ الفراقِ
ويصرخ باكيًا: خّذْتُمْ حبيبـي           ألا رُدّوهُ أو فكّوا وِثاقي
فتحتُ الصدرَ أبحثُ عـن فؤادي       أُعَلِّلُهُ بأسبابِ التلاقي 
وجدتُ القلبَ قد أضحى رمادًا       فغيرُ رمادِهِ لا شيءَ باقِ. 
عندما بدأ عماد يغنّي هذه الأبيات، خلت الساحة من الراقصين الذين راحوا هم، أيضًا، يُنصتون ويرنّحون رؤوسهم طربًا. وإذ رأى سلمان أن صفيّة ما زالت واقفة وحدها، فكّر في اغتنام الفرصة الثانية بعدما ضاعت الأولى، أو بالأحرى فشل فيها؛ ذلك أنه عندما انضمّ إلى حلقة الدبكة وأمسك بيد صفيّة، وجمت الأخيرة، ثم تذرّعت بعد لحظات بأنها ربّما لوَت كاحلها؛ فانسحبت، وارتاحت قليلًا، ثم عادت، ولكن إلى مكان آخر من الحلقة قبل أن ينضمّ عماد إليها؛ فرمقهما سلمان بنظرة غضب واستياء.
الآن عاد يحاول من جديد. اقترب منها وحيّاها بلطف، وقال: أفرح كلّما رأيتك فرحة وسعيدة.
- شكرًا.
- رأيتكِقد أطلتِ الحديث مع ذاك الغريب.
- وما في ذلك!!
- ورقصتِ معه طويلًا أيضًا. وكان الفرح ملء عينيك.
- أوَصِيّ عليّ أنت يا سلمان حتى تكلّمني بهذا الكلام!
- لا تغضبي. أردتُ فقط أن...
- إسمعْ. المناسبة مناسبة فرح ومرح؛ فلا تعكّر مزاجي من فضلك. هكذا قالت، وابتعدت.
- أجل... ربّما في مناسبة أخرى. قال محدّثًا نفسه، ثم راح يرافق صفيّة بنظراته وهي تدخل الساحة الخالية، وتأخذ بالتمايل على أنغام الموسيقى، وكانت السعادة ملء قلبها وعينيها لشعورها بأنّ عمادًا يغنّي لها وحدها. أما عماد فأصبح صوته أجمل وأشجى لإحساسه بأنّ صفيّة ترقص له وحده.
لم يتحمّل سلمان هذا المشهد؛ فغادر حانقًا. أما عماد، فبعدما انتهى من الغناء، نزل عن المنصّة وسط تصفيق الجمهور، ثم جيء بنافخ المزمار وضارب الطبل، وغصّت الساحة بالراقصين.
قالت صفيّة لعماد: الصوت الجميل نغمة القلب الجميل؛ فما أجمل قلبك!
- إني خائف يا صفيّة.
- ممَّ!
- من العودة إلى عزلتي ووحدتي بعدما رأيتك. خائفٌ ألا أستطيع البقاء حيًّا من دون قلبي الذي سأتركه عمّا قليل معك وأرحل.
- أبهذه السرعة أحببتني!
- ألم تحبّيني أنتِ أيضًا بمثل هذه السرعة؟ إن أنكرتِ، فعيناكِ لا تنكران.
إذ ذاك طأطأت صفيّة رأسها، ولاذت بالصمت. ولمّا طلب عماد رقم هاتفها الجوّال، أعطته إيّاه من غير تردّد. ثم ودّعته وغادرت إلى بيتها. كذلك غادر عماد برفقة أصدقائه محمولًا على أجنحة السعادة. وعند المساء كلّمها، وأخبرها أنه لن يكون بعد اليوم وحيدًا لأنها ستكون رفيقته وصديقته وحبيبته حتى آخر يوم من عمره. فقالت له إنها خائفة على حبّها لأنّ البراعم التي تتفتّح باكرًا قد لا تنجو من بَرَد أوّل الربيع.
في تلك الليلة لم يغمض لسلمان جفن. صفيّة كانت تعجبه وتروقه، ويفكّر فيها منذ زمن. لكنه كان يقول في نفسه إنها ما زالت صغيرة. لتكبر قليلًا بعد. وإذا بها قد كبرت فجأة. وفجأة يغزو «حماه» فارس غريب. هذا الأمر أقلقه وأقضّ مضجعه. وما كدّره أكثر وأغضبه هو أن صفيّة صدّته، ورفضته. لذلك راح يرتقب سانحة يكلّمها فيها بجِدّ وصراحة. ولمّا رآها يومًا في حديقة بيتها تقطف بعض الثمار، عرّج عليها، وبعد السلام قال لها: اسمعي يا صفيّة. إنك تروقينني كثيرًا. لكنك تصدّينني. ألا أعجبك؟
- أرجوك يا سلمان، لا أريد الخوض في هذا الحديث.
- أنا أريدكِ لي. أسمعتِ؟ لي.
- ما معنى أنك تريدني؟
- أن تكوني زوجتي. زوجتي أنا.
- زوجتك!! ألا ترى أنني لم أُتمّ السابعة عشرة من عمري بعد!
- أستطيع أن أنتظركِ حتى تكبري.
- لا تنتظر يا سلمان. أنا أحبّك مثلما أحبّ كلّ أبناء ضيعتنا. فلننهِ هذا الحوار، أرجوك.
- إنكِ تحبّين ذاك الغريب، أليس كذلك؟
- لا شأن لك بي وبه.
- أهذا آخر كلام؟
- أجل.
مضى سلمان لا يبصر أمامه من شدّة الغيظ. وأخذ يفكّر في ما عليه أن يفعل.
عند المساء كلّم عماد صفيّة عبر الهاتف، وأخبرها عن تعبه في نهار عمله الطويل. كلّ مساء كان يكلّمها، وكانت تنتظر اتّصاله دائمًا على أحرّ من الجمر. إلى أن كان مساء قال لها فيه: أنتِ تعرفين كم أحبّكِ يا صفيّة. لكنني لن أكون حجر عثرة في طريق مستقبلك عندما يأتيكِ مَن يطلب يدك.
- لماذا تقول مثل هذا الكلام يا عماد!
- لأنكِ جميلة جدًّا. وعمّا قريب سيقف خاطبو ودّكِ صفًّا في بابك. أما أنا... أما أنا فشابّ فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، ويأكل لقمته مبلّلة بعرق جبينه.
- لستُ أفكّر في الزواج الآن. لكن ثِقْ في أنني لا أريد سواك، ولن أكون إلا لك. وأضافت بصوت منخفض: هذا إذا كنت تحبّني وتريدني.
- قريبًا سأسافر لأعمل وأجمع بعض المال، ثم أعود إليكِ، وأضع أجمل خاتم في إصبعك يا حبيبتي.
- كلّ ذهب الأرض لا يهمّني ما دام قلبك معي يا حبيبي.
- الحبّ وحده لا يبني بيتًا، ويُطعم خبزًا. لا بدّ من بعض المال لنحيا حياة كريمة. لذلك سأسافر لأنّ فرص العمل في هذه البلاد هي كما تعلمين.
- إذًا لترافقك السلامة. وعندما تعود ستجدني ما زلت أنتظرك وأحبّك.
وسافر عماد واعدًا ساعديه بالتعب وقلبه بالسعادة. وبعد انقضاء عام من العمل الدؤوب، تمكّن من جمع بعض المال؛ فأوفد أباه وأمّه يطلبان يد صفيّة له. وسرعان ما شاع الخبر في القرية وبلغ سلمانَ؛ فقرّر ألا يسكت عن هذه «الإهانة».
وكان أن خرجت صفيّة من البيت ذات صباح لرغبة بها في الانضمام إلى أمّها وأبيها وأخيها في الكرم عند منتهى تخوم القرية. فأخذت تجتاز بخطى وئيدة ذاك الطريق الضيّق عبر غابة الصنوبر، عندما سمعت وقع أقدام خلفها؛ فوجلت، لكنها لم تلتفت. فما كان من القادم إلا أن ناداها. ثم حثّ خطاه، ووقف في دربها. آه!! إنه سلمان، وقد بدا الشرّ في عينيه؛ فتوجّست خيفة.
- إلى أين أنتِ ذاهبة أيتها الجميلة؟
- إلى الكرم حيث أبي وأخي وأمّي. قالت متكلّفةً الشجاعة وهي تخطو محاولةً التملّص والمضيّ في سبيلها.
- مهلًا، مهلًا. لمَ العجَلة؟ قال سلمان وهو يلتقط معصمها ويشدّ بها نحوه.
- ماذا تفعل يا سلمان! أفلتْ يدي.
- ألا تخافين أن تحرق الشمس هذه البشرة البيضاء! قال وهو يتحسّس كتفها العارية، وعنقها، وأعلى صدرها.
- قلت دعْني، قالت وهي تحاول انتزاع معصمها من قبضته. لكنها عبثًا حاولت. ففكّ سلمان زرّ ثوبها العلويّ بخفّة. ولما تراجعت، قطع الزرّ الثاني ودسّ يده عميقًا: «هذا الجسد الطريّ لن يلمسه أحد غيري، أفهمتِ؟».
- اتركني أيها المعتوه، صرخت وهي تضرب سلمان بيدها الحرّة، وتشدّ شعره بكلّ ما أوتيت من قوّة.
- اصرخي قدر ما تستطيعين. أتظنّين أنّ أحدًا سيسمعكِ في هذا القفر! قال وهو يمزّق ثوبها، ويلفّ ذراعه حول خاصرتها، ويطرحها أرضًا، ويسقط فوقها؛ فراحت تركله، وتفحص الأرض بقدميها، وتغرز أظافرها في وجهه وعينيه وتصرخ بأعلى صوتها. ولما خارت قواها وعرفت أن لا خلاص لها ولا مناص، استسلمت وراحت تبكي. أما سلمان فلم يتركها إلا بعدما قضى منها وطره؛ فنهض يلهث: «الآن تستطيعين أن تتزوّجي بكلبك الأجرب». قال ذلك، وفرّ هاربًا؛ فنهضت صفيّة، ومضت تجرّ قدميها حاملةً عارها وجراحها وتروي الطريق بدموعها. وإذ رآها ذووها بهذه الحال، صُدموا. ولما سألوها عمّا أصابها، أخبرتهم بعد طويل تردّد.
- سأشرب الليلة دمه، صرخ الوالد وهو يقفز عن الشجرة.
- هذا الكلب سألحق به وأقتله، صرخ شقيق صفيّة وهو يتناول بندقية الصيد. فما كان من الوالدة إلا أن وقفت في دربه: «لا. هناك قضاء ومشنقة تُعلّق بحبلها رقبته. ليس علينا نحن أن نلوّث أيدينا بدمه».
قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم، كان رجال الدرك قد ألقوا القبض على سلمان وأودعوه السجن؛ فوكّل محاميًا للدفاع عنه بعدما رفع والد صفيّة دعوى بحقّه. وبعد بضعة أيّام التأمت هيئة المحكمة للنظر في القضية. فقال محامي الدفاع: سيّدي القاضي. إن موكِّلي على أتمّ الاستعداد لإصلاح خطئه. فصاحت الوالدة: إصلاح خطئه! على أيّ خطأ أنت تتكلّم يا حضرة المحامي! أهذه الفعلة الشنعاء تسمّيها خطأ! إنها جريمة جزاؤها حبل المشنقة.
- إلزمي الصمت يا امرأة، وإلا أمرتُ بإخراجكِ من القاعة، قال القاضي.
- بأمرك حضرة القاضي. سأقفل فمي، وأسكت.
عاد محامي الدفاع إلى المرافعة، قال: سيّدي القاضي. موكّلي مستعدّ لتوقيع تصريح يتعهّد فيه بالزواج من الفتاة. وعليه، فأنا أطلب له العفو تطبيقًا للمادّة 522 من قانون العقوبات تاريخ 5/ 2/ 1948، إذ ذاك ارتفعت في القاعة الهمهمات والوشوشات؛ فضرب القاضي المنصّة بالمطرقة، وأمر بالتزام الهدوء، ثم رفع الجلسة بعدما حدّد موعدًا لاحقًا لاستئناف المحاكمة.
في الخارج سأل والد صفيّة محاميَه عن هذه المادّة، أجاب: إنّ من شأن عقد زواج صحيح بين مرتكب الاغتصاب وبين المعتَدى عليها، أن يوقف الملاحقة، وحتى إنه يعلّق تنفيذ العقاب إذا كان الحكم قد صدر قبل العقد. أما إذا انتهى الزواج بطلاق من غير سبب مشروع قبل انقضاء خمس سنوات على الجرم المرتكَب، فإن الملاحقة تستانَف من جديد.
- يا سلام!! قالت الوالدة. في أيّ جاهلية نحن نعيش!
- يعني أنّ أيّ صعلوك يستطيع أن يغتصب أيّ فتاة وبعد خمس سنوات يرميها كالكلبة من دون ملاحقة، اليس كذلك؟ سأل الوالد.
- هذا هو القانون، مع الأسف، قال محامي الادّعاء، وأضاف: إلا أنّ لجنة الإدارة والعدل النيابية، تعكف منذ مدّة على إعادة النظر في هذه المادّة.
- وإذا رفضت المعتدى عليها الزواج؟ سأل شقيق صفيّة.
- عندئذٍ يُخلي القاضي سبيل الجاني.
- أهكذا بكلّ بساطة!! ألا رحمك الله يا حمورابي؛ فما كان أعدل قانونك!
قبل موعد انعقاد الجلسة الثانية دخلت الوالدة على ابنتها في غرفتها التي جعلتها ملاذها وسجنها، وقالت لها: الغضب يطفئ نور العقل دائمًا. علينا أن نتصرّف بحكمة وتعقّل.
- ما تعنين يا أمّي؟ لعلّك جئتِ تقنعينني بالزواج من هذا المجرم.
- القاضي سيطلق حريته إن أبدى استعداده للزواج بكِ سواء أقبلتِ أم لم تقبلي.
- أفضّل الموت على العيش معه تحت سقف واحد.
- ما به سلمان يا ابنتي! صحيح أنه ليس وسيمًا ويكبرك بخمسة عشر عامًا، لكنه ثريّ، ويملك ما لا يملكه أحد في القرية من كروم وبساتين.
- أمّي!! صرخت صفيّة، ووقفت. هذا الرجل لا أريده، ولا أطيق العيش معه، أتسمعين؟
- تعقّلي يا ابنتي، وإلا فأنتِ أمام أمرين كلاهما مرّ: إما أن تلبسي وتُلبسينا عاركِ كلّ عمركِ لأنْ لا أحد سيطلب يدكِ، وإما تحمّلين أباكِ وأخاكِ جريمة قتل، قالت الأمّ بصوت عالٍ.
- هل أصبح العار صفة المجنيّ عليه، والبراءة والشرف صفة الجاني في هذه البلاد!!
- هذا هو القانون. أنستطيع نحن تغييره! فكّري جيّدًا، والخيار لك. قالت وخرجت؛ فطمرت صفيّة رأسها بين يديها يائسة: «الخيار لي!! تساءلت ساخرةً من نفسِها. أي خيار ترك القدر لي! الموت هو خياري الوحيد. فليس ما يغسل عاري إلا موتي... ولكن لا. لن أهرب إلى قتل جسدي لترتاح روحي. سأختار موت روحي والحياة بجسد من غير روح، فلا أخلّف الحسرة في قلوب أهلي، أو أحمّلهم دمًا بسببي».
وافقت صفيّة على الزواج بسلمان. وانتقلت إلى بيته تدفن نفسها فيه. وبعد حين أخذت تتلقّى سوء المعاملة و«الاغتصاب بقوّة الشرع والقانون»، كذلك الاتّهامات بالخيانة. ذلك أن سلمان كان يقول لها دائمًا: أنتِ خائنة لأنك لا تحبّينني، لكن تحبّين ذلك الصعلوك. فالخيانة ليست بالفعل والقول فقط. إنها بالفكر أيضًا. ولكي يذلّها أكثر، أجبرها على العمل في المصنع.
أكثر من مرّة اتّصل عماد بها. وفي كلّ مرّة كانت تنظر إلى الرقم وتبكي من غير أن تجيب. ولمّا عرف سلمان أن عمادًا لديه رقمها، ضربها وكسر هاتفها.
قلق عماد كثيرًا، وبات لا يعرف طعم النوم والراحة؛ فطلب من أحد أصحابه تقصّي الحقيقة؛ فتقصّاها وأخبر عمادًا بها من ألِفها إلى يائها. وبعد زمن غير طويل كان عماد في لبنان؛ فذهب لتوّه إلى قرية صفيّة، وكان هذا اللقاءُعند المصنع، الأخيرَ بينهما.
رجع عماد إلى قريته مهزومًا يائسًا، ومصمّمًا على السفر من غير عودة. أما صفية فعادت مكلومة الفؤاد مسحوقة النفس. وعاشت عمرها في سجنها. وكانت كلّما وجدت نفسها وحيدة، وقفت إزاء النافذة، ونظرت ناحية الجبل الذي تقوم قرية عماد خلفه، وغنّت بصوت عصفور جريح: بكت عيني... حتى إذا ما وصلت إلى هذين البيتين:
فتحتُ الصدرَ أبحثُ عن فؤادي      أعلّلُهُ بأسبابِ التلاقي
وجدتُ القلبَ قد أضحى رمادًا       فغيرُ رمادِهِ لا شيءَ باقِ
ارتمت على السرير، وغطّت وجهها، وبكت بكاءً مرًّا.