علامات فارقة

أمين معلوف في «مجمع الخالدين»
إعداد: ريما سليم ضوميط

 

آتي إليكم وفي يدي جذوري، لغاتي،  شكوكي... وحلمي في التناغم والتقدم والتعايش

 

في حدثٍ ثقافي نادرٍ وفريد من نوعه، إنضم الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف رسميًا إلى الأكاديمية الفرنسية، ليصبح بذلك ثاني عربي ينتمي إلى «مجمع الخالدين» بعد الكاتبة الجزائرية آسيا جبار.
بالرداء الأخضر والسيف المزخرف برموز من ثقافته المزدوجة، وقف معلوف في الأكاديمية العريقة مطالبًا بتقارب الشرق والغرب، مستعرضًا سيرة سلفه في «المقعد 29»، عالم الأنتروبولوجيا الشهير كلود ليفي شتراوس، معلنًا أن يديه محمّلتان بكل ما منحه إياه لبنان وفرنسا...

 

المتعدّد الثقافات والإبداعات
أمين معلوف من أبرز الكتّاب العرب الفرنكفونيّين. ولد في بيروت في 25 شباط 1945، وامتهن الصحافة في لبنان قبل أن تجبره الحرب الأهلية على الهجرة الى فرنسا العام 1976، حيث عمل في المجال نفسه، وتولّى رئاسة تحرير مجلة «جون أفريك» الشهيرة.
يتميّز معلوف بغزارة إنتاجه وتنوّع مواهبه الأدبية وألقابه، فهو روائي وقاص وكاتب مقالة وصحافي.
أصدر أول أعماله بالفرنسية «الحروب الصليبية كما رآها العرب» العام 1983، ثم أنتج عدة أعمال روائية من أبرزها «ليون الأفريقي» التي نال عنها جائزة الصداقة الفرنسية العربية العام 1986، و«سمرقند» (جائزة دور النشر العام 1988).
كما أصدر روايات وأعمالًا أخرى منها «صخرة طانيوس» التي نال عنها جائزة غونكور الأدبية الفرنسية الرفيعة العام 1993، و«حدائق النور» و«الهويات القاتلة» (الجائزة الأوروبية تشارلز فيون، العام 1999).
كذلك نال العام 2004 جائزة البحر المتوسط عن كتابه «أصول»، والعام 2000 جائزة جاك أوديبيرتي عن كتابه «رحلة بالداسار»، وأخيرًا العام 2010 حصل على جائزة «أمير أستورياس» الإسبانية التي توج بها مجموع أعماله. وينتظر أن يصدر له قريبًا رواية جديدة عن دار نشر غراسيه بعنوان «التائهون» التي تروي قصة مؤرخ منفي عاد إلى لبنان.
 

في الأكاديمية
بانضمامه إلى الأكاديمية الفرنسية، أصبح أمين معلوف أول لبناني ينضم إلى هذه المؤسسة العريقة ليضيف نجاحًا آخر إلى مسيرته الحافلة بالنجاحات.
والأكاديمية الفرنسية هي صرح أدبي عريق، يضم نخبة من المفكرين والأدباء والعلماء والفلاسفة. مهمتها تنظيم قواعد اللغة الفرنسية والمفردات والأدب. وتتولّى نشر قاموس رسمي للّغة وقواعدها. كذلك تقدّم الأكاديمية جوائز قيّمة عن إنجازات مميّزة في عالم الأدب والرسم والشعر والمسرح والتاريخ والترجمة، أبرزها جائزة grand prix de la francophonie.
تأسست الأكاديمية الفرنسية العام 1635 على يد الكاردينال Richelieu رجل الدولة في عهد الملك لويس الثالث عشر. والعام 1793 أوقفت عن العمل في أثناء الثورة الفرنسية، ثم أعيد تفعيلها العام 1803 على يد القائد الفرنسي نابوليون بونابرت.
تتألف الأكاديمية من أربعين عضوًا يطلق عليهم لقب الخالدين نسبة الى عبارة «الى الخلود» التي تظهر على الختم الرسمي للإمتياز الممنوح من قبل الكاردينال Richelieu. ويتولى الأعضاء أنفسهم مهمة انتخاب أعضاء جدد بناء على طلب يتقدّم به الفرد بهدف ترشيح نفسه لملء مقعد شاغر، كما يمكن أن ترشّح الأكاديمية أحد الأشخاص للغاية نفسها. ويتم قبول العضو الجديد بتصويت الأكثرية، في جلسة تعقد بموافقة الرئيس الفرنسي راعي الأكاديمية.
تستمر عضوية الفرد مدى الحياة، ومع ذلك يحق للأكاديمية أن تطرد أحد الأعضاء في حال تبيّن ضلوعه في عمل مشين أو سلوك خطير، والأمثلة على ذلك كثيرة، من بينها طرد العضو الفرنسي Auger de Moleon de Granier العام 1638 بسبب السرقة، وطرد كل منAbel Bonnard, Abel Hermant , Philippe Petain, Charles Maurras في نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب تعاملهم مع النظام الفيشي.    
عضوية الأكاديمية لا تقتصر على المواطنين الفرنسيين, فالمرشح يمكن أن ينتمي الى أي دولة. وقد فاق عدد الأعضاء منذ تأسيس الأكاديمية وحتى اليوم السبعمائة، من بينهم ست نساء، إحداهن الكاتبة الجزائرية آسيا جبار التي انتخبت في العام2005.
على الرغم من أن معظم أعضاء الأكاديمية هم من الكتّاب، فإنه لا يشترط على المرشّح أن ينتمي إلى عالم الأدب. فهناك الكثير من الأعضاء الذين مرّوا في تاريخ المؤسسة ممن كانوا ينتمون إلى عالم السياسة أو العلوم، أو الفلسفة والدين.

 

كلود ليفي شتراوس
عند انتخاب عضو جديد، تقضي تقاليد الأكاديمية الفرنسية بأن يتلو العضو المنتخب خطابًا يذكر خلاله ميزات سلفه. وقد احتلّ أمين معلوف المقعد 29 الذي كان يشغله عالم الأنتروبولوجيا الشهير كلود ليفي شتراوس، وكان له في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة انتخابه خطاب مؤثر.
استهل معلوف كلمته متوجهًا إلى أعضاء الأكاديمية الحاضرين، بالقول: «منذ 25 عامًا مضت وقفت تحت هذه القبّة للمرّة الأولى. كنت قد أصدرت رواية للتوّ. قلّدتموني جائزة، دعوتموني، أنا وغيري من الفائزين، إلى الاجتماع السنوي العام. الإجتماع كان يرأسه كلود ليفي شتراوس. وأنا طالب في العلوم الإجتماعية في بيروت قرأت له «من العسل إلى الرماد». لقد كان بالنسبة إليّ، كما بالنسبة إلى كلّ أبناء جيلي، كاتبًا رمزيًا. عندما سمعته يُعلن اسمي وعنوان روايتي كنت أُحلّق فوق غيمة. لم أكن أنتظر أكثر من ذلك. وطبعاً، لم أنتظر أن أقف هنا، وسطكم، ألقي خطابي وأرثيه».
ثم أسهب معلوف في الحديث عن حياة سلفه الراحل ومختلف المراحل التي عاشها من الطفولة إلى الشباب فالنضج والشيخوخة. وخصّص مقاطع رصد من خلالها الأحداث المفصلية في حياة شتراوس.
«كان شتراوس محاربًا يساريًا. في عمر العشرين أصبح السكرتير البرلماني لنائب اشتراكي. عُين أستاذًا للفلسفة. أحبّ أن يُعلّم المنهج الدراسي المقرّر. وكان يدعو الطلاب للغوص في الآداب الفرنسية عبر أعمال معاصرة لكتّاب مثل كوكتو وكلوديل وأندريه جيد، فضلاً عن السرياليين. إلاّ أنّه في العام الثاني، ولدى عودة المدارس وجد في إعادة المنهج الدراسي الذي سبق أن درّسه فكرة لا تستهويه، واكتشف أنّ هذه المهنة ستفقده صبره وتشعره بالملل».
وأضاف: «كان لديه حب راسخ لبلده فرنسا ولغته لغة شاتوبريان التي يُفضلها على أي لغة أخرى. ولكنه في المقابل طالب بالاحترام المتساوي بين كل الحضارات الإنسانية. المساواة ليست إلا عريضة مبادئ. الناس لم يُخلقوا متساوين، والحضارات الإنسانية ليست متساوية أيضًا، ولكن في اللحظة التي نهمل فيها عريضة المبادئ هذه ونُشرّع اللامساواة نكون قد سلكنا طريق البربرية. لقد انتُقد بسبب تحريضه على الانفتاح ازاء الاختلافات الموجودة في العالم. وانتُقد أيضًا لقوله إنّ المجتمع الراغب في الحفاظ على ارثه وخصوصيته عليه أن يظهر شفافية أحيانًا أمام التأثيرات المقبلة من الخارج».
ثمّ تابع قائلاً: «العام 1939 طوى شتراوس صفحة من حياته. ترك البرازيل وزوجته الأولى دينا. وبعد فترة قصيرة عُيّن في مدرسة راقية تُدعى هنري الرابع. وبعد شهر من بداية الموسم الدراسي، اندلعت الحرب العالمية في أيلول من العام نفسه، فأُرسل شتراوس إلى الجبهة وعاش المآسي الصعبة التي عاشها جميع الفرنسيين من جيله: الانتظار، التوتر، الضياع، الإهانة...».
وعن تجربة سلفه في الأكاديمية قال أمين معلوف: «لآخر يوم في حياته ظلّ يشعر بسعادة كبيرة لانتمائه إلى الأكاديمية الفرنسية. على مدار 35 عامًا شارك في نشاطاتكم واجتماعاتكم كلّ خميس وكانت تُخفّف من لاطمأنينته وتوتره إزاء مشهد تطور هذا العالم».
وتناول فكر شتراوس فقال: في خاتمة كتابه «الإنسان العاري» (1970) يقول: «يتوجّب على الإنسان أن يعيش ويُناضل، أن يُفكّر ويعتقد، أن يملك الجرأة من دون أن يفقد يقينه بأنّه لم يكن موجودًا في السابق على الأرض وأنه لن يبقى عليها بعد رحيله الحتمي عن كوكب هو أيضًا زائل، بأفراحه وأتراحه وهمومه وآماله وأعماله التي ستُصبح كأنها لم تكن موجودة يوماً».
وأكد معلوف أن هذه النظرة هي في الغالب نظرة تعكس الجانب القلِق من شخصية شتراوس. وإنما هذا لم يمنعه أبدًا من أن يهنأ بلحظات هادئة إلى جانب المقرّبين منه في ممتلكاته الواسعة في البورغندي. هذا المكان الذي طالما فضّله على غيره. مكان بعيد عن العالم. مكان له هيبة لا تكفّ عن النموّ. عندما نتكلّم عن كلود ليفي شتراوس يتعيّن علينا ذكر كلّ المفكرين الكبار الذين عرفهم، الذين أثّر فيهم وتأثّر بهم. الذين صادقهم وانتقدوه وانتقدهم، وبقسوة أحيانًا. من بروديل إلى فوكو، ومن سيزير إلى سارتر.
عندما نمعن النظر في صوره الشخصية الموجودة في الكثير من أغلفة كُتب خُصصت له، نجد ذاك الشاب وهو في البرازيل. شاب بلحية سوداء ووجه دقيق ونظرة ثاقبة تختبئ وراء نظارات الأستاذ الذي كانه. شاب يحمل بيديه قردًا ويضمه إلى كتفه.
وعندما نُحدّق في صور رمزية أخرى أُلتقطت له بعد أربعين عامًا من صور البرازيل تلك، والتي نُشرت أيضًا في الكثير من الكتب والمجلاّت، نجد الرجل ذاته. الوجه الدقيق نفسه. وإنما بلا اللحية. نظرته لم تتغير، والنظارات هي هي، إنما على كتفه طير من سلالة الغراب.
هكذا كان زميلكم البارز. يبتسم بقلبه أكثر مما تفعل شفتاه. ومع أنّه لم يكن يشعر بتلك السعادة العارمة إلاّ عندما يتواجد في الغابة، بعيدًا من الحشود البشرية، مُحاطاً بأشجار عالية ونباتات كثيرة ومستعمرات من الفطر، فتحت عندما كان هنا، في وسطكم، لم يكن دائمًا يشبه تلك الصورة القاسية والرزينة التي عرفناها عنه أو رُسمت له.
في 30 تشرين الأول 2009 غاب كلود ليفي شتراوس عن زملائه وأصدقائه وعائلته وكلّ الذين أحبّوه. وبعد عام واحد فقط، احتُفل في فرنسا وخارجها بمئويته. كان ما يُشــبه دخوله إلى البنتايون وهو على قيد الحياة. إلى هنا، لم يكن أحد من زملائكم قد اقترب من الخلود إلى هذا الحدّ».
واختتم الكاتب اللبناني حديثه بالقول: «سيداتي سادتي، في الأكاديمية عندما نحصل على شرف الدخول في قلب عائلة كما عائلتكم الكريمة، لا نأتي بأيادٍ فارغة. وإذا كان المدعوّ مشرقيًا كما هي حالي، فيأتي بيدين مُحملتين. مع امتناني الكبير لفرنسا كما لبنان، أحضر معي كلّ ما منحني إيّاه هذان البلدان، جذوري، لغاتي، لهجتي، إداناتي، شكوكي، وأكثر من هذا كلّه حلمي في التناغم والتقدّم والتعايش.
أحلامي اليوم يُساء إليها. جدار يرتفع في بلدان الشرق الأوسط في وجه العوالم الثقافية التي أطالب بها. هذا الجدار، لم أكن أنوي تجاوزه لأعبر من ضفّة إلى أخرى. جدار المقت هذا، جدار الكراهية بين أوروبيين وأفارقة وبين الغرب والإسلام وبين اليهود والعرب، طموحي هو هدمه. إزالته. محوه. هذا كان دائمًا علّة حياتي، علّة كتابتي. هذا هو همّي وسأتابعه داخل مؤسستكم. تحت ظلّ حماية أسلافنا الكبار. تحت نظر شتراوس».

 

المراجع: wikipedia.com سلسلة المعرفة وكالة الصحافة الفرنسية  الموسوعة العربية العالمية

 

كلود ليڤي شتراوس
(28 تشرين الثاني 1908 - 30 تشرين الأول 2009)

عالم أنتروبولوجيا (علم الإنسان) فرنسي، طَوَّر المذهب البنيوي في دراسة الثقافة الإنسانية. والمذهب البنيوي طريقة في التحليل، تختبر بنية العلاقات بين الأشياء، أكثر من الأشياء ذاتها ببساطتها. اشتق ليفي شترواس المقاربة البنيوية من علم اللغة البنيوي، وهو علم يدرس اللغات من خلال بنية أصواتها وكلماتها، وأشهر نظرياته نظرية فرديناند دي سوسيرالتي تقول بدراسة اللغات دراسة وصفية باعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية، بعد أن كانت اللغات تدرس دراسة تاريخية. استخدم شتراوس المذهب البنيوي لدراسة العلاقات العائلية وأساطير الهنود الحمر، في الشمال والجنوب الأمريكي، وحتى طرق الطهي.


 

طابع بريدي بإسم أمين معلوف
أشاد الرئيس سيلمان بدخول الكاتب اللبناني أمين المعلوف إلى الأكاديمية الفرنسية واصفًا اياه بالخبر السار لجميع اللبنانيين ونموذجًا للإبداع اللبناني في الإغتراب، وأعلن أنه سوف يمنح معلوف أرفع وسام لبناني وسيتم إصدار طابع بريدي بإسمه تكريمًا لإبداعه.