جولة حدودية

«إرادة» على الحدود...
إعداد: الرقيب أول كرستينا عباس

استيقظوا باكرًا، ارتدوا الملابس الرياضية وانتعلوا الأحذية بدلًا من البزات الرسمية التي يرتدونها عادة، وانطلقوا. وُجهتهم قيادة فوج الحدود البرية الثاني الذي يتمركز في ثكنة النقيب الشهيد الياس الخوري في رأس بعلبك، على بُعد نحو ساعتَين ونصف أو أكثر من بيروت. شقّوا طريقهم الطويل بين مختلف التضاريس الطبيعية في لبنان، فقد بدأت رحلتهم في بيروت بين المباني والطرقات المتداخلة السهلة ومتساوية الارتفاع. تابعوا السير على الطريق السريع الذي يرتفع شيئًا فشيئًا بين التلال فالهضاب ثم الجبال، ليستقبلهم بعد ساعة تقريبًا سهل البقاع فيجتازوا فيه مسافة ساعة ونصف بالسيارة تقريبًا. تعب الطريق الطويل لم يكن سوى نقطة في بحر المشقات التي يعانيها العسكريون في خدمتهم اليومية وفق ما تبيّن لاحقًا للزائرين. 

إنّهم «اتّحاد رجال الأعمال للدعم والتطوير» IRADA الذي يضم مستثمرين وتجارًا وصناعيين وأصحاب مهن وأطباء ومحامين ومهندسين واستشاريين ومدراء نافذين في شركاتهم. تركوا أعمالهم وتوجهوا إلى الفوج ليعيشوا ساعاتٍ مع عسكرييه في مراكزهم الحدودية.

في الطريق، توقف ٣١ رجل أعمال من جمعية IRADA في أعلى نقطة بلغوها لالتقاط الصور، فبعضهم كان يزور المنطقة للمرة الأولى وقد أُخذوا بجمال المشهد من أعلى الجبال، ثمّ وصلوا إلى ثكنة قيادة الفوج بعد طريق طويل، وهناك استقبلهم قائد الفوج العميد الركن محمد دحبول والضباط والعسكريون. استراحوا بعد هذا التعب، التقطوا أنفاسهم وباشروا جولتهم. أرادوا أولًا أن يجربوا الجلوس في الحر كما يفعل عادة العسكريون في أثناء مهماتهم الميدانية، فاستراحوا في الحديقة بدل أن يجلسوا في المكاتب المكيّفة.

 

الحدود وإشكالية ضبطها

بعد الاستراحة وتبادل الأحاديث والتعارف، توجهوا ضمن مجموعتَين لحضور إيجاز عن الفوج ومهماته وبقعة انتشاره. هناك، صبّوا كل تركيزهم على المعلومات التي أُعطيت لهم ولم يرفّ لهم جفنٌ حتى أنهوا كل التساؤلات التي في بالهم حول الحدود وكيفية ضبطها، وعن الثغرات التي يهاجم البعض الجيش بسببها. «كم عدد المراكز وهل تغطي كافة الحدود؟» سؤال طرحه عدد من أعضاء الوفد، وكانت الإجابة إنّها ١٠ مراكز موزّعة وفق تضاريس الأرض في محاولة لضبط أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الحدودية البالغة مساحتها ٣٢١ كلم٢ على امتداد ٨٥ كلم. «ولكن رأينا قناة مياه تفصل بين الجانبَين السوري واللبناني، فكيف يتم ضبط التهريب عبرها خصوصًا أنّ عبورها لا يحتاج إلّا إلى جسر أو أخشاب؟» سأل أحدهم، والإجابة أنّ ذلك يتم عبر تسيير الدوريات في أوقات غير محددة ومتفاوتة ونصب كمائن في عدد من المعابر وأيضًا في بقع وأوقات غير مجدولة لمفاجأة المهربين والقبض عليهم.

لاحظ أعضاء الوفد مدى دقة وحرفية العمل لدى عناصر الفوج، كما لاحظوا صعوبة المهمة الموكلة إليهم في وسط تضاريس وعرة يختلف ارتفاعها ليصل في أعلى مركز للفوج إلى ٢٢٠٠ م. وفي ختام الإيجاز، خلصوا إلى نتيجة واحدة: إنّ ما يُحكى عن تقصير الجيش هو كلام فيه الكثير من التجني، فالواقع عكس ذلك. الجيش يعمل جاهدًا وبكل الطاقات والوسائل المتوافرة بين يديه لضبط الحدود لكنّ بعض المهربين يختبئون في الجهة السورية، وهناك تصعب ملاحقتهم.

 

«لا شيء يفيهم حقّهم»

انتهت الجولة عند مركز المراقبة الحدودي الذي كان يبعد ٤٠ دقيقة بالآليات عن الثكنة، والذي أُقيمت على امتداده عدة غرف فارغة حاليًا، تحسّبًا لأي وضع طارئ إذا حدث انقطاع خصوصًا في وقت الثلوج. «هنا نؤمن للعسكري كل حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب، ولكنّ المشكلة أنّه في بعض الأحيان ينقطع الاتصال بسبب الثلوج أو التضاريس أو العواصف فيبقى العسكري منقطعًا عن أهله وعن العالم الخارجي، ولا يبقى أي اتصال إلا الاتصالات الداخلية عبر الشبكة العسكرية فقط التي لا تخوّله التواصل مع عائلته» يقول قائد الفوج أمام الوفد. يتهامس البعض مبدين تعاطفهم مع العسكريين وتقديرهم لهم، ويفصح أحدهم: «فعلًا لم نكن نتصوّر أن الوضع بهذه الصعوبة». 

لحظة عودتهم إلى قيادة الفوج، وفي أثناء استراحتهم الأخيرة قبل المغادرة، أكّد الزائرون أنّ ما شاهدوه وعاشوه خلال ساعات يفوق أي تصوّر لواقع مهمات الجيش على الحدود، فما يعرفونه من خلال الإعلام ليس سوى نقطة في بحر المشقات التي يتحمّلها العسكريون. «لا شيء ممكن أن يفيهم حقّهم وحق تعبهم! ونحن كاقتصاديين تبدّد الخوف من قلوبنا عندما رأينا كيف يكافحون باللحم الحي لحماية الحدود ولضبط الأمن. فمن دون الأمن لا يمكن أن نعمل لتطوير أنفسنا وقطاعاتنا وبالتالي تطوير الاقتصاد ودفع عجلة النمو في البلاد»، قال متحدث باسم الوفد أمام قائد الفوج.

 

ما لم نكن نتوقعه!

في ختام الجولة، أشار لنا رئيس جمعية IRADA السيد عبد السميح شريف بأنّ فكرة هذه الجولة أتت إثر زيارة وفد من الجمعية لقائد الجيش العماد جوزاف عون بهدف التعرف إلى الظروف التي يعيشها العسكريون. وقد لمس الوفد من خلالها مدى التضحيات التي يقوم بها العسكريون والتي «لا تُقدَّر بثمن وللأسف بعض المواطنين والوسائل الإعلامية لا يرونها فلا ينفكّون يتحدثون عن عجز الجيش في ضبط الحدود، من دون أن يعلموا كيف يكون العمل على الأرض باللحم الحي». وأضاف: «وجدنا أنّ التكنولوجيا المستَخدمة للمراقبة متقدّمة جدًا وهذا ما لم نكن نتوقعه. وسننقل ما رأيناه ونشجّع كل من يستطيع أن يأتي ويعيش ما نحن عشناه اليوم». ودعا القطاع الخاص إلى عدم التقصير في دعم الجيش، «لأنّ العسكريين أهلنا»، ولأنّ مكافحة التهريب تسهم في دعم القطاع الخاص. فبينما يدفع هذا القطاع التكاليف الجمركية تؤدي أعمال التهريب إلى خسائر في الاقتصاد.

كانت زيارة فوج الحدود البرية الثاني استثنائية بجميع المقاييس بالنسبة إلى الوفد، «الكثير مما رأيناه لم نكن قد تخيّلناه مسبقًا ولا تخيّلنا أن يكون موجودًا، من المعدات المتطورة إلى الحرفية والتنظيم الجيد» وفق ما قال السيد شريف. أما السيد مالك الشعار الذي نسّق الزيارة، فيؤكد أنّ «كل ما رأيناه يدعو إلى الفخر والاعتزاز». وهو يضيف: «على المستوى الشخصي خدمت كضابط مجند سنة الـ٢٠٠١ ولم يكن الجيش على هذا المستوى من التطور والحرفية، فوجئت بما رأيته. ومهما قدّمنا للمؤسسة يعَدّ قليلًا، فهي خارطة الأمل التي تساعدنا على الخروج من الأزمة التي نعيشها». 

انتهت الزيارة، عاد الزائرون كل إلى عمله وبيته وحياته، حاملًا انطباعات عميقة عن رجال ما فتئوا يقدّمون كل غالٍ ونفيس من أجل وطنهم، رجال تُرفع أمام تضحياتهم القبعات، ويهون أمام إرادتهم ما يراه الآخرون صعابًا ومشقات...