دراسات وأبحاث

«إنّ معرفة الخصائص الجغرافية لأمةٍ ما تعني معرفة سياستها الخارجية»
إعداد: د.أحمد علّو
عميد متقاعد

«إنّ معرفة الخصائص الجغرافية لأمةٍ ما تعني معرفة سياستها الخارجية» نابوليون بونابرت

 

أوراسيا اسم مركب من كلمتَي أوروبا وآسيا، لكن الطروحات القائمة حول الكلمة تتخطى الجرافيا وصولًا إلى الإيديولوجيا، وفي المنظور الاستراتيجي تشكل أوراسيا منطقة الارتطام بين القوى الدولية الكبرى.
تبلغ مساحة هذه الكتلة الأرضية المكونة من آسيا وأوروبا ما يقارب 55 مليون كلم2، أي مايعادل نحو 37% من مساحة اليابسة على كوكب الأرض. ويسكنها نحو 5.25 مليار نسمة (آسيا 4.50 مليار، وأوروبا 750 مليون نسمة)، أي نحو 70% من سكان العالم (تقديرات تشرين الثاني 2018 ).


أوراسيا في السياسة
«تشكّل أوراسيا مكمنًا للتحدي السياسي والاقتصادي للسيادة الأميركية على العالم، وقوّتهـا تفوق بشكـلٍ واضح قوة أميركا، لذلك يجب منعها من أن تتوحد». جاء هذا القول في كتاب «رقعة الشطرنج الكبرى» لمؤلفه زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأسبق في الإدارة الأميركية (1977- 1981 )، والذي صدر بالإنكليزية في العام 1997 وبالعربية في العام 1999. يقدّم الكتاب نظرة جيوستراتيجية مثيرة وجريئة عـن التفوق الأميركي في القرن الحادي والعشرين. ويتركز تحليله على ممارسة القـوة فـي البـر الأوراسي الذي يوجد فيه الجزء الأكبر من سكان العالم، وأيضـًا من المـوارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي. فأوراسيا الممتدة من البرتغال إلى مضيق بهرينغ، ومن لابلاند إلى ماليزيا، تشكل «رقعة الشطرنج الكبرى» التي سيتمّ فيها الاعتراف بالتفوق أو السيطرة الأميركية وتحديها في المستقبل... والقوة (أو الدولة) التي تحكم أوراسيا سوف تسيطر على اثنتين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدمًا وإنتاجًا على الصعيد الاقتصادي.


في الجيوستراتيجيا الأميركية
حتى وقت قريب كان الجدل يدور بين المحللين الجيوبوليتك  يين البارزين حول ما إذا كانت قوة البر أهم من قوة البحر، وحول المنطقة الأوراسية الأكثر حيوية للسيطرة على القارة كلها. وقد قاد أحد أبرز هؤلاء المحللين، وهو هارولد ماكيندر، النقاش في بداية القرن الحالي وخلـص إلـى مفاهيم عن « المنطقة المحورية» الأوراسية (قيل إنّها تضمّ سيبيريا والجزء الأكبر من آسيا الوسطى)، وعن «الأرض المركزية» في وسط أوروبا وشرقها، بوصـفها تشكل نقاط الانطلاق الحيوية لتحقيق السيطرة على القارة. وقد أضفى ماكيندر طابعًا شعبيًا على مفهومه عن «الأرض المركزية» بمقولته المشهورة: من يحكم شرق أوروبا يسيطر على «الأرض المركزية»، ومن يحكم هذه الأرض يسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم هذه الجزيرة يسيطر على العالم. أمّا نيكولاس سبيكمان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة «ييل» الأميركية، فقد طرح فكرة الأوراسية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وقسّم الجغرافيا الأوراسية إلى قلب قاري هو روسيا، ولها امتداد بري يتجاوز 17 مليون كلم2، وهلال كبير من الدول الساحلية تشمل أوروبا كلها وشبه الجزيرة العربية والعراق وآسيا الوسطى، وإيران وأفغانستان والهند وجنوب شرق آسيا والصين وكوريا، ولكل من هذه الدول مكانتها الجيوسياسية وإمكاناتها الاقتصادية المهمة. كانت أوراسيا منذ الحرب العالمية الثانية، «منطقة الارتطام» في تنافس القوى الدولية الكبرى للسيطرة على العالم. وفي الظروف العالمية الراهنة، يرى بريجنسكي أنّه يمكن تحديد خمسة لاعبين جيوسـتراتيجيين رئيسيين على الأقل في أوراسيا، وخمس دول محورية جيوبوليتيكية، تحمل اثنتان منها ربمـا ما يؤهلهما جزئيًا لتكونا من اللاعبين في الخريطة السياسية الجديدة لأوراسيا. وهو يُدرج كلًا من: فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين، والهند في خانة اللاعبين الرئيسيين والفعّالين، بينما لا تتأهل بريطانيا العظمى، واليابان، وأندونيسيا، لهذا الدور على الرغم من أنها دول مهمة جـدًا. أمـا أوكرانيـا وأذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران، فتؤدي دور المحاور الجيوبوليتيكيـة الثابتـة المهمة إلى حدٍ حرج، على الرغم من أنّ تركيا وإيران تعتبران دولتان جيواستراتيجيتان إلى حد ما.

 

رقعة الصراع الكبرى: من أوكرانيا إلى أوروبا فسوريا والشرق الأوسط
انطلاقًا ممّا تقدّم، يمكن فهم أسباب الهجمة الأميركية باتجاه دول آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق، والثورات الملونة في أوروبا الشرقية والقوقاز وجورجيا (2008)، وثورات ما عرف بـ«الربيع العربي» (2011)، ثم ما حدث ويحدث في أوكرانيا منذ العام 2014 حتى اليوم، فضلًا عن اشتباك الولايات المتحدة وحلفائها مع إيران وتركيا والعراق وسوريا واليمن. وقد أدى ذلك إلى حالات كباش متعددة بين الولايات المتحدة وروسيا، فالدفاع عن أوكرانيا وسوريا هو دفاع عن موسكو ذاتها وفق مفهوم روسيا وحلفائها لأوراسيا. وترى روسيا أنّ الولايات المتحدة تحاربها اقتصاديًا وسياسيًا في أوروبا، وتضغط على ألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأطلسية القوية لوقف التقارب معها واستيراد الغاز منها، في ما يبدو وكأنّه هجوم معاكس وصد لمنع هيمنة دولة القلب الأوراسي (روسيا) على أوروبا الغربية.

 

الأوراسيّة في المفهوم الروسي (جغرافيا الذات)
عقب تفكك الاتحاد السوفياتي ساد المجتمع الروسي ما يُسمى بأطلسة روسيا، أو الأطلسية في مقابل الأوراسية، إذ سادت القيم الغربية، وخصوصًا الأميركية، الأمر الذي اعتبره الأوراسيون خطرًا قاتلًا لروسيا.
في العام 1998، أعاد المفكر الروسي ألكسندر دوغين طرح فكرة الفضاء الأوراسي للتداول، مؤكدًا أنّ أوراسيا هي بالدرجة الأولى هوية حضارية ذاتية، فضلًا عن تكاملها الاقتصادي والسياســي والعسكــري والاستراتيجــي مع محيطها. ومنذ العام 2000، بدا أنّ الرئيس بوتين وفريقه متأثرين بأفكار دوغين في سعيهم إلى إقامة اتحاد أوراسي على غرار الاتحاد الأوروبي، يمتد من فلاديفستوك إلى لشبونة. ويرى مفكرو الأوراسية الجديدة، أنّ الحضارة الغربية راكدة ومتلاشية، ومحاولات تجديدها وتحديثها تقود إلى مزيد من الفشل والتعقيد والأزمات في حياة مجتمعاتها. ويطرحون الأوراسية في المقابل نافين أن تكون يمينية أو يسارية، أو ليبرالية أو اشتراكية، مؤكدين أنّها وحدة شعوب أوراسيا في دولة - قارة تتفاعل حضاريًا. كما يعتبر الفكر الأوراسي (الروسي) أنّ روسيا الممتدة في آسيا وأوروبا هي محور التاريخ الذي تدور الحضارة حوله مكتسبة طاقة خلّاقة. وتتخذ الأوراسية موقفًا حذرًا من الغرب، والأميركيين بالذات، ردًا على رؤيتهم الأوراسية الخاصة، التي جسّدها بريجنسكي حين قال في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى»: «إنّ أفضل روسيا بالنسبة للأميركيين هي روسيا غير الموجودة، روسيا المحطّمة التي يستغلها جيرانها».


النظرية السياسية الرابعة
قدّم دوغين أطروحته النظرية السياسية الرابعة، كبديلٍ عن النظريات السياسية الثلاث التي كانت سائدة في القرن الماضي، وهي: الشيوعية والفاشية والليبرالية. وملخص هذه النظرية هو إعادة تدشين «الإمبراطورية الأوراسية»، بتعزيز القوة الجيوبوليتيكية لروسيا والتكامل بين المحاور البرية التابعة لها في الحزام الأوراسي، والحزام الباسيفيكي، والحزام الأورو - أفريقي (ومن ضمنه العالم العربي)، وبذلك تمثّل قطبًــا عالميًــا منافسًــا للقطـب الأميركي.وهو يرى أنّ الشرق الأوسط أصبح ساحة اشتباك جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة، وانتصار روسيا في هذه الساحة ضرورة لبقائها وليس ترفًا.
كذلك، يرى دوغين أنّ على روسيا التي مرت بمرحلتَي الشيوعية والليبرالية أن تدشّن مرحلة تغيير جديدة عالميًا بناء على «سموّ إمبراطوري أوراسي»، أي بناء على أسس أخلاقية جديدة بديلة عن القيم الاستهلاكية المادية، بل أنّه يعيد تفسير منطلقات الصراع العالمي في الحرب الباردة سابقًا، كصراعٍ جيوبولتيكي ذي أرضية جغرافية بين القوى البحرية الأنجلو - أميركية والقوى البرية الأوراسية، وليس بين الاشتراكية أو الشيوعية والرأسمالية، وهو ما يمكن تسميته بالعودة أو الردة إلى الجغرافيا كمبررٍ للسياسات الخارجية. فالاتحاد السوفياتي كان يشغل ربع مساحة العالم، ولم يكن قادرًا على النفاذ إلى البحار الدولية، وهي ثغرة جيوبوليتيكية خطيرة حاول علاجها بغزو أفغانستان جنوبًا، لكنّه مُنِيَ بهزيمة مدوّية أدت إلى تفككه. ولذلك دعا دوغين إلى إقامة تحالف بين روسيا والصين وإيران لتشكيل سدّ بوجه هيمنة القطب الواحد، الأمر الذي تحاول الولايات المتحدة احتواءه أو منع قيامه بالوسائل شتى. وهذا تحديدًا ما يجعل سوريا اليوم - برأي دوغين - محور الصراع بين الفلسفتين في إدارة النظام العالمي، فهي تعد ركيزة أساسية - وربما وحيدة - للمشروع الأوراسي في شرق المتوسط، حيث توجد القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، والتي تحولت إلى قاعدة ثابتة ودائمة. ولذلك يرى «أنّ مصير العالم المتعدد الأقطاب يتقرر في سوريا».


الأوراسيّة وصراع الأقطاب
يبدو وفق بعض المحللين أنّ روسيا بقيادة بوتين مستعدة لخوض صراع عسكري طويل الأمد في سوريا، ليس فقط للحفاظ على نفوذها كقوةٍ دولية عظمى، بل وللدفاع عن وجودها في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والبحار الدافئة. وهو السبب ذاته للحرب على جورجيا، ومحاولة إقامة قاعدة روسية في مصر، والتدخل في دونباس شرقي أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم، ثم استقلال دونيستك ولوغانسك. فروسيا بفعلها ذلك تضمن بقاءها، وكما يقول دوغين: «لو خسرنا دونباس، فإنّنا سنفقد القرم وبعد ذلك روسيا كلها». كذلك، يعتقد دوغين أنّ سوريا «هي الهدف الأبعد» من أوكرانيا ولكنّها لا تقل عنها أهمية، فمواجهة ما أسماه الإرهاب وخصوصًا ما يعرف بتنظيم «داعش»، ضرورة وجودية لروسيا من منظور الجغرافيا السياسية الأوراسية. وهنا يغرق دوغين في عمق نظرية المؤامرة Conspirasy theory، فيرى أنّ هذا التنظيم صناعة أميركية وُجد كذريعةٍ للتدخل في أي وقت، متناسيًا كل الأسباب والعوامل الموضوعية لنشأته ووجوده... مؤكدًا أنّ سوريا هي خط روسيا الخارجي للدفاع، والخط القادم بعدها هو على أراضي الاتحاد الأوراسي، وحتى داخل الاتحاد الروسي ذاته. نفهم من هنا سبب تدخّل بوتين العسكري في سوريا كضرورةٍ لاحتواء ما يعتبره إرهابًا على تخوم هذا الحزام الأوراسي، قبل أن ينتقل إلى محاربته في الأراضي الروسية ذاتها. فنشاط «داعش» وغيرها لم يعد فقط في سوريا والعراق، وإنّما في دول آسيا الوسطى كأفغانستان وطاجكستان وأوزبكستان، وفي شمال القوقاز، أي داخل روسيا نفسها، وهو لتكريس حالة الفوضى في المنطقة. ويعتقد دوغين أنّ روسيا ستمنع من خلال سياستها الخارجية انهيار معظم دول المنطقة بعد سوريا، وبخاصةٍ دول شمال أفريقيا، ما يوقف تدفّق ملايين اللاجئين إلى أوروبا. ويرى أنّ أوروبا تقف في المقابل كسدٍ على الحدود الجنوبية والغربية لروسيا، كما أقامت في حقبة سابقة درعًا واقيًا أمام التوسع العثماني، فالعلاقة بينهما تبادلية ولو لم تعترف أوروبا بذلك. وهكذا لم تعد الأوراسيا جغرافيا فحسب، فقد تحولت إلى إيديولوجيا تجتاح روسيا، وصارت «موضة» فكرية تجمع حولها الحالمون بتحدّي الهيمنة الأميركية في العالم، وأولئك الذين لم ينسوا قط الإمبراطورية القيصرية وأمجاد الاتحاد السوفياتي السابق.


خلاصة
إنّ رؤية كل من الولايات المتحدة وروسيا لأوراسيا، وكذلك رؤية دول أخرى فاعلة في الإقليم وحتى في العالم مع ما تستتبعه من قيام أحلاف واستقطاب للدول المختلفة، تتيح إدراك صعوبات الصراع الدائر اليوم فوق هذا المسرح وفهم مفرداته وتعقيداته، وسبـب استمراره وديموته...

 

المراجع:
- انتقام الجغرافية، روبرت كابلان، عالم المعرفة، يناير 2015، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
- رقعة الشطرنج الكبرى، زبغنيو بريجنسكي، الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة العربية الأولى، عمّان 1999، الأردن.
- الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر (ج1)، بيتر تيلور وكولن فلنت، عالم المعرفة يونيو 2002، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، الكويت.
- Alexandre Douguine La Quatrième théorie politique: La Russie et les idées politiques au XXIème siècle و Paris Ars Magna Editions, 2012).
- Anton Barbashin and Hannah Thoburn Putin’s Brain: Alexander Dugin and the Philosophy Behind Putin’s Invasion of Crimea - Foreign Affairs.
- http://blogs.aljazeera.
- http://www.almayadeen.