قضايا إقليمية

«الحسم السلبي» مفهوم تراجعي في منهجية العدوّ العدوانية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

تقوم نظرية الأمن الإسرائيلية التقليديــة علــى مقولــة أنّ إسرائيـل لا تستطيـع الصمـود في حـرب طويلـة الأمد، وعلى الافتراض بأنّه يمكن تقصير مدة هذه الحرب عن طريق استخدام الأسلحة المتطورة واعتماد العمليات الهجومية السريعة والكاسحة.


لا شك أن الجيش الإسرائيلي، مثل أي جيش آخر، يرى في الحسم العسكري غاية وجوده، لكنّ قادة هذا الجيش باتوا يدركون، بعد تجارب حربية كثيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة بشكل خاص، أنّه لا مناص من الاعتراف بأن العالم قد تغيّر، وأنّ وجه الحروب قد تغيّر أيضًا، وأن الواقع الأمني والعسكري الجديد يتطلب نظرية أمنية جديدة من شأنها أن تحافظ على القدر المستطاع من الدور الوظيفي التقليدي للكيان في المنطقة. وقد أدرك قادة العدو أيضًا أنّه لا بد لهذه النظرية من أنْ تكون متكاملة وشاملة بحيث يشكل فيها الجيش الإسرائيلي عنصرًا واحدًا وليس وحيدًا من العناصر المطلوبة لتحقيق الإنجاز المطلوب.

 

تقصير أمد الحرب غير ممكن
لقد بات ميدان المعركة الجديد، كما هو معلوم، يطال وسط المراكز السكانية المدنية التابعة للفريقَين المتصارعَين بوتيرة متزايدة وبشكل مركّز أكثر فأكثر. وبالتالي فالاستنتاج الذي توصل إليه قادة العدو هو أنّه: طالما لا توجد طريقة لعزل العدو عن «الدروع البشرية» الخاصة به، وطالما أنّه لا توجد طريقة لشلّ قدراته القتالية وتحييدها كليًا بالوسائل الهجومية مهما كانت قاسية ومتطورة، فإنّه من المطلوب أنْ يكون ثمة أسلوب جديد يضمن صمود الدولة أمام التحديات العسكرية القائمة والمستقبلية. وينطلق قادة العدو في تفكيرهم هذا ليصلوا إلى الاستنتاج المستوحى من تجاربهم القتالية المتكرّرة والقائلة إنّ تقصير أمد الحرب، المفضّل إسرائيليًا، هو هدف غير ممكن التحقيق بالضرورة، وهذا ما أثبتته أكثر من تجربة في لبنان وقطاع غزة (2006 و2012 و2014). وعلى ضوء ذلك اعتبروا أنّه يمكن اشتقاق استراتيجية جديدة تقوم على التكيّف القهري وعلى أنّ هدف الحرب لم يعد تحقيق «الحسم الإيجابي»، أي تحقيق الانتصار العسكري الساحق على قوة العدو العسكرية، وهو أمر بات متعذّرًا وعالي الكلفة، بل الذهاب نحو تحقيق «الحسم السلبي»، أي العمل قدر المستطاع على منع العدو من تحقيق إنجازات واضحة أو تجريده من إمكان تحقيقها، على الرغم من أنّ هذا الخيار، بحسب رأيهم، يتضمّن المخاطرة بفقدان المبادرة ودخول العسكريتاريا الإسرائيلية في مزاج سلبي وسيّئ.

 

تعزيز الجبهة الداخلية
وينصبّ التركيز، في الاستراتيجية الجديدة، على تعزيز قدرة صمود الجبهة الداخلية المدنية والعسكرية، أي على الاستعداد وتوفير الوسائل المطلوبة لذلك، ولا سيما القيام بحماية منشآت الجيش الإسرائيلي وتمكينه من مواصلة خوض الحرب، وحماية منشآت البنى التحتية القومية من أجل ضمان الخدمات الضرورية للجيش والمدنيين، وكذلك حماية السكان المدنيين أنفسهم بهدف تقليل الخسائر والأضرار في صفوفهم. ولبلوغ هذا الغرض فإنّ هناك حاجة لتحضيرات مادية وتنظيمية كثيرة مثل إعداد الجهات العاملة في الإنقاذ والإخلاء ومعالجة الجرحى وتجهيزها، وتحضير المساكن المؤقتة للمواطنين الذين تضرّرت مساكنهم، وتعزيز منظومة الإطفاء، ودعمها بمنظومات البنى التحتية القومية للحيلولة دون انهيار الخدمات (الكهرباء والماء والمواصلات والاتصــالات والبنــوك) خــلال الحــرب.
في المجال التنظيمي أيضًا فإنّ المطلوب هو إكمال الاستعدادات لإدارة الجبهة الداخلية في حالة الطوارئ وذلك لضمان أداء السلطات المحلية والحكومية بشكل جيد. ولا يقل دور الأجهزة الإعلامية أهميةً عن ذلك، وكذلك إقامة العلاقة السليمة بين الجمهور والحكومة بهدف الحفاظ على ثقته بإجراءاتها. وتجدر الإشارة إلى أنّ التركيز على تعزيز قدرة الجبهة الداخلية على الصمود في هذه النظرية، لا يلغي أهمية الحرب البرّية ولو على نطاق استنسابي ومحدود. بل العكس هو الصحيح، إذ إن للهجوم البري المدروس والمحدود- في نظر قادة العدو- دورًا حيويًا في استراتيجية «الحسم السلبي» موضع البحث. فلا يمكن بالتالي القبول بوضع يقوم فيه العدو بمهاجمة الجبهة الداخلية المدنية في إسرائيل ويكون معفيًا من العقاب، بل عليه أن يدفع ثمنًا باهظًا إلى أقصى درجة ممكنة. والمطلوب في هذا السياق أيضًا فعل ذلك بأدنى حد ممكن من الخسائر البشرية للقــوات الاسرائيليــة. ولذلك من المرغوب فيه، وفق النظرية الجديدة، تفضيل توجيه النيران عن بعد على الاشتباك والالتحام عن قرب. وبما لا يقل أهمية عما سبق، فإنّ صمود الجبهة الداخلية مشروط، من بين أمور كثيرة، بصلابة الحكومة الإسرائيلية وتماسكها. والتعبير الأمثل عن ذلك هو خطوات الجيش الإسرائيلي الهجومية، وإلحاق أضرار ملموسة بالعدو، والانتباه إلى ضرورة سرعة انتعاش الجبهة الداخلية بعد انتهاء جولة القتال. فانتعاش هذه الجبهة وتعافيها من الأضرار البشرية والمادية والاقتصادية والنفسية التي لحقت بها خلال الأعمال القتالية، يمكن أن يؤثر إيجابًا على قدرة صمودها في جولة القتال التالية.

 

الحرب اللامتماثلة
في المقابل قامت جبهة المقاومة والمواجهة من ناحيتها بتطوير استراتيجية رد جديدة هي استراتيجية الحرب اللامتماثلة، التي تجري بين قوّتَين غير متساويتَين في القدرات، ويسعى الطرف الضعيف فيهما لإظهار قصارى قدرته على الصمود، بينما الطرف القوي يعمل على الاستفادة القصوى من كثافة النيران، وتفوقه التكنولوجي، لتحقيق الغلبة السريعة. وبينما تقوم هيكلية جيش العدو على أساس خوض الحرب «الكلاسيكية» ضد عدو بمستوى دولة، فإن الجانب الآخر مبني لحرب هجينة تدمج بين حرب العصابات والحرب النظامية التقليدية، ويرى في إسرائيل مجتمعًا نفعيًا فاسدًا، ومجتمع رخاء ورفاهية تُتعِبه الحروب، وعتبة صمود مواطنيه متدنية إلى الحضيض (نظرية بيت العنكبوت). كما أنّه مجتمع مهاجرين منقسم على نفسه، يغوص في النزاعات والتعصب والتطرف الديني والإتني وتضارب المصالح، والمستوطنون فيه حساسون جدًا لحياتهم الشخصية وممتلكاتهم وغير مستعدين للحرب والتضحية بالروح من أجل الدفاع عن مصالح مادية ملتبسة في أهميتها. أمّا مجتمع المقاومة والمواجهة فيعتبر نفسه مجتمعًا قويًا وذا معنويات عالية وقادرًا على الصمود أمام ضغوط العدوان مهما كانت قوية. وبمصطلحات التحليل التي أوردناها آنفًا، فإنّ أمل المقاومة من استراتيجية استنزاف العمق الإسرائيلي المطبّقة حاليًا، هو تحقيق الحسم بالتداعي في مجالَي الوعي والمعنويات، ما قد يعني مع مرور الزمن، الحسم في مجال الصراع.