دائمًا معًا

«بيّ البطل»...
إعداد: ليال صقر الفحل

التحق بصفوف الأبطال وأهداني لقبًا يختصر كل الفخر وكل المرارة، ابني بطل تليق به الحياة، لكنّه آمن أنّ وطنه يستحق الحياة فقدم له حياته... في هذا الكلام لأحد آباء الشهداء ما يقول: نعم «بيّ البطل، بطل»... كريم كالصيف في بلادنا، معطاء كأرضها، يليق به التكريم، ويستأهل أن نتذكّره في عيد الأب ونتشارك معه وجعًا نبيلًا وفخرًا عزيزًا، منحنين أمام عزته وعنفوانه. 

لكل ذلك وأكثر، كان احتفال قيادة الجيش هذه السنة بعيد الأب تحت عنوان «بيّ البطل بطل» مناسبة مفعمة بالتقدير والاحترام لآباء يحتضنون صور أبنائهم الشهداء وذكراهم بكِبَر وعنفوان، وهم مؤمنون بأنّ دماء أبنائهم هي ذخيرة تصون لبنان.

 

بيّ البطل... بطل

«أحسست بطعنة في قلبي عند الساعة السادسة صباحًا»، طعنة غادرة ما زلت حتى اليوم أحسّ بها في الموعد نفسه من كل سنة. تختصر كلمات المؤهل المتقاعد يوسف النغيوي والد النقيب الشهيد جورج النغيوي (استشهد في العام ١٩٨٦ في منطقة الدوار)، حال معظم آباء العسكريين الشهداء. فهم يحتضنون حزنهم على مدى السنوات لا يفارقونه ولا يفارقهم إلى أن تنتهي رحلة العمر. لكنّهم أيضًا مفعمون بمشاعر العنفوان والفخر مدركون لعظمة التضحية التي يتشاركونها مع أبنائهم الشهداء. وها هو والد النقيب الشهيد النغيوي يقول: ابني أعطى دمه للبنان واسمه لثكنة عندقت، ولشارع إلى جانب الثكنة يقود إلى منزل العائلة. هو شرف ووسام على صدري وصدر إخوته وأبناء بلدته، أنا فخور كوني والده، مع أنّ غصّة فراقه ما زالت تحرق صدري. صورة وجهه مطبوعة في قلبي وعقلي لا يغيّرها الوقت ولا يمحو تفاصيلها. مرّت سنين طوال على استشهاده، وأنا اليوم أكبر والد شهيد عسكري في الجيش، أهداني لقبًا مرًّا والتحق بصفوف الأبطال الأزليين مكلّلا مع زملائه ساحة شهداء مغاوير الجيش اللبناني بالغار والمجد والعنفوان».

 

في الوجدان

«الشهداء لا يموتون بل هم أحياء في وجداننا لولاهم لما بقي لبنان، ووجودكم معنا ضروري لنا، فنحن نستمد منكم القوة والمعنويات ونستلهم تجربتكم لنحفظ دم الشهداء، خيانة كبيرة بحق الوطن وبحق الشهداء أن نترككم، وألّا نرسم لنا طريقًا على خطاهم، ونمشي في دربهم جميعًا». بهذه الكلمات عبّر قائد الجيش العماد جوزاف عون عن تقديره لمن ربّوا أبناءهم تربية وطنية فقدّموهم قرابين على مذبح الوطن ليبقى لبنان حرًّا سيّدًا مستقلًا.

العماد عون الذي شارك مع عقيلته السيدة نعمت في احتفال تكريم لقب آباء الشهداء العسكريين العزب في نادي الرتباء المركزي في الفياضية بمناسبة عيد الأب، شد على أيادي المكرَّمين مؤكدًا لكل منهم أنّ دماء أبنائهم الغالية ذخيرة تصون الوطن، وأنّ تضحياتهم ترسم الطريق الذي تسير عليه المؤسسة.

لا يفوّت جهاز الرعاية والشؤون الاجتماعية للعسكريين القدامى مناسبة يمكنه خلالها أن يرسم ابتسامة على وجه كل فرد من أفراد عائلات الشهداء، وضمن هذا الإطار يأتي احتفاله بتكريم آباء العسكريين الشهداء العزب، بالتنسيق مع قيادة الجيش. راعت التحضيرات أدق التفاصيل ليكون الاحتفال على قدر أهمية المناسبة ورمزيتها. 

تلقّى الآباء دعواتهم، ومن رغب بالحضور كانت الحافلات في المناطق جاهزة لنقله إلى النادي في الوقت المحدد. الشركاء في التضحية تشاركوا الخبز والملح في مأدبة غداء على شرف المكرمين، كما تشاركوا المشاعر التي عبّرت عنها لقطات مؤثرة في فيلم قصير لأكبر والد شهيد (المؤهل المتقاعد يوسف النغيوي)، وآخر وقّعه المخرج نبيل لبس، جسّد مضمونه وجع فراق «الضنا»، ومرارة فقدان الإبن، ومثّل فيه المخرج والممثل القدير نقولا دانيال والوجه الشاب نيكولا مزهر. وقد علّق الأخير قائلًا: «مثّلت الفيلم منذ وقت، وعندما شاهدته اليوم في حضرة آباء الشهداء لم أستطع تمالك نفسي، فكيف بحالهم هم؟!»

 

«لو كان فيي...»

الشاعر طليع حمدان بصوته الهادر المفعم بحب الوطن والتقدير للمؤسسة وأبنائها ألقى قصيدة مؤثرة من أبياتها: 

« ويا شهيد اللي رحت بكير

قبل ما فيك الوطن يفرح

ياغبنك بمطرح أخير تصير

ولو كان فيي لغيّر المطرح

بدفنك بحوض ورد صغير

النسمة عليك ان دقت بيفتح

وبصير كل ما اشتقت ليك، كتير

بشوفك بنوم الورد لو غمّض

وبشوفك بصبح الورد لو فتّح»

«بدنا نضل نزرع الفرحة لنكمّل بالحياة»، قال الفنان طوني كيوان الذي شارك في إحياء الحفل. ارتفع صوت الموسيقى وانطلقت حلقة الدبكة مع فرقة السيد عماد غاوي. تنحى الحزن قليلًا، أحيت الأغاني الوطنية الحماسة والبهجة، لقد استشهدوا لنحيا وها نحن نؤكد لهم أنّ إرادة الحياة تنتصر، وكلنا أمل بأن يعيش الوطن عرس قيامته. 

علي عبد الكريم والد العريف الشهيد محمد سليمان، وأسعد والد العريف الشهيد جورج نعمة، وحكمت والد العريف الشهيد عباس ابراهيم، وشربل والد الرقيب أول الشهيد جوزيف الحاج وغيرهم العشرات من الحاضرين، أعربوا عن تأثرهم بهذه اللفتة الكريمة من قيادة الجيش، مؤكدين أن المؤسسة العسكرية لا تنسى أبناءها وأهلها. 

أمهات وآباء وأطفال الشهداء وسائر أفراد عائلاتهم، عسكريون مصابون، أنتم أمانة غالية تحتضنها المؤسسة العسكرية، هذا ما كان بالأمس، وهو اليوم وسيكون غدًا، ودائمًا.