نحن والقانون

أحكام المفقود
إعداد: الدكتور نادر عبد العزيز شافي
دكتوراه دولة في الحقوق-محام بالإستئناف

عندما نتكلم عن مفقود، هذا يعني أننا نتكلم على وضع إنساني صعب جداً، ويزداد الأمر صعوبة عندما يتعلق الأمر بمأساة قاسية. وهنا نتذكّر مأساة الطائرة الأثيوبية المكنوبة التي بلغ عدد ضحاياها أكثر من 90، بين ضحية ومفقود، أغلبيتهم من اللبنانيين والأثيوبيين والعراقيين إضافة الى جنسيات أخرى كزوجة السفير الفرنسي في لبنان. ونتوجّه بالتعازي للجميع، أعانهم الله على مواجهة هذه الفاجعة.
إلا أنه لا بد من رأي قانوني في كل ما يتعلّق بالمفقود بوجه عام: تعريفه القانوني، كيف يتم الإعلان عن وفاته، ومن يتولى إدارة شؤون أمواله خلال فترة غيابه قبل إعلان الوفاة وبعدها، تأثير الفقدان على الزواج، ظهور المفقود بعد فترة من الزمن.


تعريف المفقود
المفقود هو الغائب الذي انقطع خبره، ولا يعرف مكانه، ولا حياته من موته. وقد عرّفه قانون الإرث لغير المحمديين الصادر بتاريخ 23/6/1959 في المادة 33 التي نصت على أن «المفقود هو الغائب الذي لا يعرف مكان وجوده ولا يُعلم أحي هو أم ميت».
كما حدّدت المادة 126 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية الصادر بتاريخ 24/2/1948 أن «المفقود هو الغائب الذي لا يدرى مكانه ولا تعلم حياته ولا وفاته».
وهذه الحالة تستدعي الاهتمام في كل ما يتعلق بحقوق المفقود وأمواله نتيجة الغموض والشك الناتجين عن جهل مكان المفقود وحياته أو وفاته، ومصير عائلته وزوجه وورثته وعلاقاته مع الأشخاص الآخرين والغير في كل ما يتعلق بالحقوق والواجبات.

 

كيف يتم إعلان وفاة المفقود؟
المبدأ هو أن إعلان وفاة المفقود يتم عندما يثبت موته الفعلي بطرق الإثبات الشرعية أو القانونية، ومنذ التاريخ الثابت بهذه الطرق.
أما إذا لم تثبت وفاته الفعلية، فإن الفقهاء يجيزون الحكم بموته تقديراً بعد مضي مدة لا يعيشها أقرانه، وكانت عند المسلمين والمسيحيين تراوح بين 90 و120 سنة؛ أي عندما يبلغ عمر المفقود الحد الأقصى من العمر.
إلا أنه بموجب القوانين المرعية الإجراء حالياً في لبنان، يمكن التمييز بين الأحكام القانونية المطبقة على المسلمين وتلك المطبقة على المسيحيين:


أ- إعلان وفاة المفقود من المسلمين:
يطبّق على المسلمين السنة والشيعة قانون القضاء الشرعي السني والجعفري الصادر بتاريخ 16/7/1962 وتعديلاته، لا سيما القانون الرقم 434/95، الذي يحدّد الأصول الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين والذي عدّل بعض الأحكام المنصوص عليها في قانون القضاء الشرعي المذكور.
وقد نصت المادة 386 من هذا القانون على أنه: يمكن الإقرار قضائياً، بناءً على طلب ذي مصلحة، بوفاة اللبناني أو الأجنبي المقيم في لبنان الذي اختفت آثاره في لبنان أو خارج لبنان في ظروف يغلب فيها هلاكه ولم يعثر معها على جثته وفق الأحكام الآتية:
1- يقدم طلب إقرار الوفاة بموجب استدعاء الى المحكمة المختصة بالنسبة الى الطائفة التي ينتمي اليها المطلوب إعلان وفاته، وتبت المحكمة المذكورة بالطلب في غرفة المذاكرة، ومن أجل تكوين قناعتها لاتخاذ القرار اللازم، تعتمد طرق الإثبات الشرعية المختلفة بما فيها القرائن والنشر والإعلان.
2- استناداً الى نتيجة التحريات والتحقيقات المذكورة وإذا كانت الغيبة واختفاء الأثر حاصلين في ظروف يغلب فيها الهلاك، وكانت قد مضت على الاختفاء مدة أربعة أعوام هجرية على الأقل، تقرر المحكمة وفاة الشخص موضوع التحقيقات والتحريات وتقضي بتحرير تركته مع الأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يترتب له من حقوق.
3- ينشر حكم إقرار الوفاة بالإضافة الى الطرق المنصوص عليها قانوناً بكل الطرق التي ترى المحكمة فائدة منها ويبلغ الى النيابة العامة لدى المحكمة الشرعية العليا المختصة والى هذه المحكمة من دون ابطاء.
4- للحكم المذكور صفة الحكم الرجائي القابل للتعديل والاعتراض والاستئناف من قبل النيابة العامة لدى المحكمة الشرعية العليا ومن قبل كل ذي مصلحة، وفي كل الأحوال لا يصبح نافذاً إلا بعد تصديقه من قبل المحكمة الشرعية العليا بعد الاطلاع على مطالعة النيابة العامة لديها، وتولى معاملة التصديق هذه صفة العجلة.
أما بالنسبة الى الموحدين الدروز، فيطبق قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية الصادر بتاريخ 24/2/1948، ونصت المادة 134 منه على أنه يحكم القاضي بموت المفقود الذي يغلب عليه الهلاك بعد انقضاء عشر سنوات من تاريخ فقده، أما في الأحوال التي لا يغلب فيها الهلاك فيترك أمر المدة التي يحكم بموت المفقود بعدها الى القاضي، وذلك بعد التحري عنه بجميع الطرق المؤدية الى معرفة ما إذا كان المفقود حياً أو ميتاً ولا يجوز أن تقل هذه المدة عن عشر سنوات.


ب- إعلان وفاة المفقود من المسيحيين:
نصت المادتان 34 و35 من قانون الإرث لغير المحمديين المعدلتان بالقانون الرقم 434/95، على أنه يحكم بوفاة المفقود إذا استمر اختفاء آثاره وانقطاع أخباره مدة أربع سنوات على الأقل منذ تاريخ غيابه وذلك بناءً على طلب كل ذي مصلحة، وتبت في الطلب المحكمة الابتدائية المدنية التابع لها محل إقامته أو السكن الأخير للمطلوب إقرار وفاته قضائياً، وإذا كان الفقدان حاصلاً خارج لبنان فيكون من اختصاص المحكمة الابتدائية المدنية في بيروت.
وتنظر المحكمة المذكورة في غرفة المذاكرة في طلب إقرار وفاة المفقود قضائياً، وتعتمد من أجل تكوين قناعتها، على مختلف طرق الإثبات القانونية بما فيها النشر في الصحف المحلية والأجنبية عند الاقتضاء ومختلف وسائل الإعلان التي ترى المحكمة فائدتها والأخذ بالقرائن، وخصوصاً في الحالات والظروف التي يغلب فيها الهلاك ولا يعثر معها على الجثة.
وقد اعتبر بعض الاجتهادات القضائية أنه في حالة الوفاة الناتجة عن حكم قضائي، يعتبر المفقود ميتاً بتاريخ صدور الحكم.
إلا أن محكمة التمييز اللبنانية اعتبرت أن  الحكم بثبوت الوفاة هو، في جميع الحالات حكم إعلاني يعود مفعوله الى تاريخ ثبوت واقعة الوفاة وليس الى تاريخ النطق بالحكم القاضي بثبوتها. فالحكم الذي يثبت الوفاة الواقعية هو حكم إعلاني، إلا أن الخلاف يدور فقط حول الحكم الذي يقضي بالوفاة الافتراضية، وهذه الوفاة الإفتراضية تحصل وتكتمل شروطها ويحكم عندئذٍ بثبوتها عند توافر شروطها القانونية، ويقتصر دور القاضي على التثبت منها، فهو لا ينشئ حالة الوفاة بحكمه بل يعلن الحدث بتاريخ وقوعه المفترض قانوناً، ما لم يقم الدليل على أن الغائب أو المختفي قد مات قبلاً أو أنه ما زال حياً بالرغم من توافر كامل القرائن القانونية التي يفترض معها وفاته بتاريخ اكتمالها.  

 

كيف تتم إدارة شؤون المفقود؟
المبدأ أن المفقود يعتبر حياً في حق نفسه وميتاً في حق غيره.
فإذا لم يترك وكيلاً، كان للمحكمة أن تعيّن قيّماً للمحافظة على أمواله، ولا يرث منه أحد، ولا تتزوج امرأته قبل الحكم بوفاته. ويكون الوكيل أو القيّم بمثابة الحارس القضائي الذي يتوجب عليه المحافظة على أموال المفقود وقبض مستحقاته والمطالبة بحقوقه لدى الغير، ولا يستطيع صرف أي مبلغ من أمواله أو التصرف بأملاكه إلا بعد الحصول على إذن المحكمة المشرفة على أمواله.
ويتم تدوين إشارة بالحكم المذكور على أموال المفقود وعقاراته وحساباته المصرفية، ويتم تسجيل كل ما له من حقوق وما عليه من موجبات في سجل خاص تحت إشراف المحكمة المختصة.
وقد نصت المادة 127 وما يليها من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية الصادر بتاريخ 24/2/1948، أنه إذا ترك المفقود وكيلاً قبل غيابه لحفظ أمواله وإدارة مصالحه فلا ينعزل وكيله بفقده إلا إذا ظهرت خيانته أو تقصيره، وليس للوكيل تعمير عقارات المفقود إذا احتاجت الى تعمير إلا بإذن القاضي. وإذا لم يكن المفقود ترك وكيلاً يُنصّب عنه القاضي قيّماً لحفظ أمواله وأخذ غلاته وريع عقاراته وقبض ديونه التي أقرّ بها غرماؤه. وللقيّم أن يبيع بإذن القاضي ما يتسارع اليه الفساد من أموال المفقود المنقولة ومن أمواله غير المنقولة ما يكون آيلاً الى الخراب، إذا لم يكن للغائب نقود تمكن من الترميم ويحفظ القيّم الثمن بمعرفة القاضي ليعطيه للمفقود إذا ظهر حياً أو لمن يستحقه من ورثته بعد الحكم بموته. وللقيّم أن ينفق من مال المفقود على من تجب عليه نفقته وعلى ما يقتضيه حفظ أموال المفقود. وللقاضي أن يأذن للقيّم بالخصومة عن المفقود. وعلى القيّم أن يقدّم في نهاية كل سنة حساباً الى القاضي بدخل المفقود وخرجه، وإذا امتنع بعد إنذاره يعد مقصّراً ويُعزل.
ويبقى القيّم للمحافظة على أموال الغائب الذي لا يعلم موته أو حياته، وبعد ظهور المفقود أو ثبوت وفاته وظهور ورثته، ينتهي مبرّر القيمومة، لأن الشخص أو ورثته أولى بتسلّم الأموال والأملاك بالذات أو بواسطة من يولونه أمر المحافظة عليها.
أما بعد توافر شروط إعلان الوفاة المذكورة أعلاه، وبعد الحكم بوفاته، ينحلّ زواجه ويجوز لزوجته الزواج بآخر بعد انقضاء عدّتها الشرعية، وتوزّع تركته على ورثته وفقاً للقواعد الشرعية التابع لها المعلنة وفاته.
ولورثة المفقود المقرّرة وفاته قضائياً أن ينتفعوا بأمواله، ولا يحق لهم أن يتصرّفوا بها تصرفاً ناقلاً للملكية أو أن يرتبوا عليها حقوقاً عينية، إلا بعد مضي ست سنوات على نشر الحكم المتضمن إقرار الوفاة في الصحف المحلية وصحف البلاد المقدّر وجوده فيها وانقضاء ستة أشهر على هذا النشر (المادة 386 من قانون القضاء الشرعي والمادة 36 من قانون الإرث لغير المحمديين).
ويعلق نصيب المفقود من إرث غيره وقسطه من الوصية إذا أوصى له، الى أن تنقضي الخمس سنوات على صدور الحكم بموته، فيرد بعد انقضاء هذه المدة نصيبه في الإرث الى من يرث مورثه عند موته وقسطه من الوصية الى ورثة الموصي. وإذا ظهر المفقود حياً خلال خمس سنوات بعد الحكم بوفاته أخذ جميع أمواله من أيدي الورثة المعلق له من إرث غيره ومن الوصية، وإن ظهر حياً بعد مضي هذه المدة أخذ ما بقي بأيدي الورثة. ولا يحول ذلك دون استرداد ما اتصل الى الغير من أمواله بسوء نية (وفقاً للمادتين 37 و38 من قانون الإرث لغير المحمديين).
ونصت المادة 135 وما يليها من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية على أنه بعد الحكم بموت المفقود، تقسم تركته بين ورثته الموجودين وقت الحكم على أنه لا يحق لهم التفرغ عن شيء من الإرث قبل مضي سنتين على اكتساب الحكم بالوفاة الدرجة القطعية. وإذا عاد المفقود أو تبيّن أنه ما يزال حياً بعد الحكم بموته فالباقي من ماله في أيدي ورثته يسترده عينياً وما ذهب منه يطالب بثمنه بتاريخ التصرف به.


• أحكام خاصة بالموظف المفقود:
نص البند 3 من المادة 20 من نظام الموظفين الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 112 بتاريخ 12/6/1959 المعدل بالقانون الرقم 434/95 تاريخ 15/5/1995، على أحكام خاصة في حالة فقدان موظف، وهي على الوجه الآتي: إذا فقد الموظف وانقطعت أخباره واختفت آثاره في أثناء الخدمة، صرفت رواتبه لأصحاب الاستحقاق المنصوص عليهم في قانون التقاعد حتى أقرب التاريخين: بلوغه سن التقاعد أو انقضاء عشر سنوات على فقدانه قضائياً من قبل القضاء المختص بالنسبة الى الطائفة التي ينتمي اليها، وتعتبر هذه المدة التي تدفع خلالها رواتبه داخلة في الخدمة الفعلية، وتصفى على هذا الأساس حقوق ورثته مؤقتاً وفقاً لأحكام القانون.
وقد نص القانون الرقم 214/2000 الصادر بتاريخ 26/5/2000 على أحكام استثنائية وخاصة بالموظف المفقود، فنصت المادة الأولى منه على أنه: بصورة إستثنائية، تصفى حقوق الموظف المفقود أو يحال على التقاعد بعد مرور عشر سنوات من صدور القانون الرقم 434 تاريخ 15/5/1995 وذلك إذا لم يبلغ الموظف المفقود سن التقاعد القانوني قبل هذه المدة ولم يصدر قرار قضائي أو رسمي آخر يعتبر الموظف بحكم المتوفى.

 

ماذا في حالات الزواج الثانية؟
إذا غاب الرجل عن زوجته وانقطعت أخباره، وبعد إعلان وفاته تزوجت من رجل آخر، ثم ظهر هذا المفقود، ما الوضع القانوني لزواجها؟ وما وضع ما قبضته من إرث وحقوق شرعية؟
إذا عاد وظهر المعلنة وفاته، تطبق في شأنه حقوقه الشرعية المعتمدة لدى الطائفة التي ينتمي اليها. وتبقى مرعية الإجراء في ما يتعلق باختفاء الزوج الأحكام المنصوص عليها في قانون حقوق العائلة العثماني، كما تبقى مرعية الإجراء في ما يتعلق بحالات الغيبة واختفاء الأثر في غير الظروف التي يغلب فيها الهلاك الأحكام المعتمدة لدى الطائفة التي ينتمي اليها الغائب (الفقرتان 5 و6 من المادة 386 من قانون القضاء الشرعي).
فقانون حقوق العائلة والمناكحات والمفارقات الصادر بتاريخ 25/10/1917 وتعديلاته العام 1921، ميّز بين حالتين:


• الحالة الأولى: إذا حُكم بتفريق امرأة بسبب فقدان زوجها، وتزوجت بآخر، ثم ظهر الزوج الأول، فظهوره لا يوجب فسخ الزواج الأخير (المادة 128 من قانون حقوق العائلة).
فمن حق الزوجة أن تطلب تفريقها عن زوجها المفقود بعد أن يئست من الوقوف على خبر حياته من مماته، خصوصاً في ظروف يغلب فيها طابع الهلاك كالحرب أو الغرق أو حادث مميت، ويكون ذلك أمام المحكمة المختصة، ثم يكون من حقها أن تتزوج من آخر وفق الأصول.
وبالتالي، وفي هذه الحالة، إذا ظهر زوجها السابق، يعتبر زواج المرأة من رجل آخر صحيحاً ويبقى ساري المفعول، إذا كان قد جرى بعد فقدان زوجها واستحصلت المرأة على حكم بطلاقها بسبب هذا الفقدان، حتى ولو ظهر ذلك المفقود بعد زواجها من شخص آخر. ويكون على الزوجة، في حالة ظهور المفقود، أن ترد ما قبضته من إرث، وتحتفظ بما قبضته من حقوق شرعية؛ كنفقة معيشتها ومعيشة أولادها مثلاً.


• الحالة الثانية: إذا حُكم بوفاة شخص مفقود، ثم تزوجت زوجته بشخص آخر، فإن تحققت حياة الزوج الأول ينفسخ الزواج الثاني (المادة 129 من قانون حقوق العائلة).
إذ أن الوفاة تؤدي الى انحلال عقد الزواج، ويكون من حق الزوجة أن تتزوج من غيره بعد انقضاء عدتها الشرعية ووفقاً للأصول.
وبالتالي، وفي هذه الحالة، إذا ظهر زوجها السابق، يعتبر الزواج الثاني مفسوخاً، لأنه بُني على سبب الوفاة، وليس على سبب التفريق كما في الحالة الأولى. ويكون عليها في هذه الحالة أن ترد ما قبضته من إرث ومن حقوق شرعية باستثناء النفقة.

 

المراجع:
• د. صبحي محمصاني: المبادئ الشرعية والقانونية، دار العلم للملايين، بيروت، 1981.
• إستئناف جبل لبنان المدنية، قرار رقم 79/86، تاريخ 1/7/1968.
• تمييز مدني، قرار رقم 29/89، تاريخ 31/10/1989.