رحلة في الإنسان

أزمات منتصف العمر
إعداد: غريس فرح

حقائق وأساطير


في عقولنا الجماعيّة، يترَسّخ مفهوم الانقلاب الذي يُحدِثه منتصف العمر لدى الجنسين معًا. وهو ما يُعرف لدى العامّة بجهلة الأربعين.

ماذا يحدث يا ترى في هذه المرحلة؟ وما هي أسباب حدوثه؟


مفهوم منتصف العمر
بحسب الاختصاصيين، فإنّ مفهوم منتصف العمر يشمل جميع التغييرات التي تحصل وتتسبّب بتصّرفات قسرية تصدر عن معايشي هذه المرحلة: منها على سبيل المثال، التركيز المفرط على الذات، ومحاولة الهروب من التقدّم بالعمر بأشكال تبدو أحيانًا غريبة بعض الشيء.
في الواقع، فإنّه عند مفترق معيّن ما بين الأربعين والستين، يواجه معظم الناس ضغوطًا لافتة، تنعكس على حياتهم بأشكال مختلفة. مع ذلك، فليس جميع المارّين بهذه الحقبة من العمر يصيبهم الاكتئاب في سباقهم مع الشباب الضائع. لكنّ القلق الذي ينتابهم إزاء هذا الواقع يجعلهم يتفاعلون بطرق تتناغم وخطوط شخصياتهم. من هنا نرى عائلات تتحطّم على أعتاب الأربعين. رجال يتركون زوجاتهم سعيًا وراء فتيات بعمر الورود، ونساء تنتابهنّ نوبات القلق، فيقدمن على ممارسات لا تتناسب وأعمارهن.
من هذا المنطلق يُطرح السؤال: هل من تأكيدات علميّة على أنّ التقدّم بالعمر هو وحده المسؤول عن هذه التغييرات، أم أنّ الشخصية الفردية والتأهيل البيئي والعائلي هما أيضًا وراء حصولها؟
 
 

ما بين الرجال والنساء
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى دلائل أزمات منتصف العمر وأسبابها، لدى كل من النساء والرجال. فالمرأة على سبيل المثال تشعر أنّها لم تعد مفيدة كأنثى، وعلى هذا الأساس ينتابها القلق حول مظهرها وأنوثتها، وتميل بالتالي إلى إحداث تغيير في حياتها. واللافت أنّ بعض النساء ينتابهن أحيانًا هذا الشعور منذ بلوغهن الثلاثين من العمر. والسبب أنّ مخيّلَتهنّ الخصبة تجعلهن يستبقن التفكير بالأمور المستقبلية، كالموت والمرض، وخصوصًا إذا أنجبن في سن متأخرة.
في المقابل، فإنّ الرجال، حسب ما تؤكد الدراسات العلميّة الحديثة، يعانون أزمة منتصف العمر أكثر من النساء (6% مقابل 4% للنساء). إلى ذلك يعاني معظمهم في هذه المرحلة من العمر، من عقد النقص، وخصوصًا لدى مقارنة أنفسهم بأصدقاء حقّقوا إنجازات كبيرة. على كلٍ، فإن جميع هذه المتغيّرات تخضع كما ثبت لمؤثرات التربية والبيئة، واللّتان تلعبان دورًا كبيرًا في تحفيز الخوف من منتصف العمر. وهذا يكثر حدوثه في المجتمعات الصناعيّة، حيث الضغوط المتراكمة بسبب تواصل السباق بين الذات والغير. كما يتفاقم هذا الأمر في المجتمعات التي تعطي الأفضليّة لارتباط النساء برجال أكبر سنًا، وذلك يعود إلى الاعتقاد السائد بأنّ المرأة تشيخ قبل الرجل، ما يضع النساء في مآزق حرجة على مشارف الأربعين.
هذه المرحلة الانتقالية إذًا هي مرحلة عدم استقرار نفسي وعاطفي مصاحب للتغيير الهرموني. مع ذلك نجد أنّ عوارضها تتفاقم لدى أشخاص دون سواهم، وذلك وفق عاملين أساسيين: الظروف المرتبطة بالبيئة الاجتماعية والإشباع العاطفي ودرجة تحقيق الذات، وتفاوت نسبة الثقة بالنفس وطرق تحقيق الأحلام الشخصية والمهنيّة.
 
 

الحياة نصف الفارغة
باعتبار أنّ أزمات منتصف العمر غير خاضعة لتوصيف دقيق وثابت، نجد أنّ هذه المرحلة بالذات تحتضن مفهومًا ضبابيًّا من أجل توضيح هذا المفهوم، أُجريت في العام 2011 دراسة في جامعة فلوريدا الأميركية، خضع خلالها آلاف الأميركيين لاستجوابات بهذا الشأن. وكانت النتيجة أنّ معظم المشاركين وصفوا منتصف العمر بأوصاف تتناسب وأعمارهم. مع ذلك، أكّدت الأكثريّة أنّ السبّاق مع الحياة يبدأ ما بين الأربعة والأربعين، والتسعة والستّين. وربما يبدأ كما سبق وأشرنا في عمر الثلاثين بالنسبة للإناث الحريصات على مظهرهن الخارجي. وعلى الرغم من أنّ الأكثرية من الجنسين يسعون في هذه المرحلة إلى استعادة بريق الشباب، وينظرون إلى الحياة من خلال نصفها الفارغ، نجد أنّ الأكبر سنًّا يَسعون إلى الاحتفاظ بما هم عليه وهذا يعود إلى الخوف من الوصول إلى مراحل تنعدم فيها رؤية نصف الحياة الملآن. أما بالنسبة للعمل الوظيفي، فقد لوحظ تردٍ لافت في الإقبال على العمل، وخصوصًا ما بين الخمسين والخامسة والخمسين.
 
 

العوامل البيولوجية ومحطّات الخوف
من ناحية ثانية، يرى الباحثون في بيولوجيّة منتصف العمر، أنّ الجزء الأكبر من هشاشتنا خلال هذه المرحلة يكمن في تركيبتنا البيولوجيّة. هذا بالإضافة إلى محطّات الخوف التي نقف أمامها عاجزين عن إحداث أيّ تغيير.
في هذا السياق توجد تأكيدات على أنّ القردة تمرّ بأزمات منتصف العمر كالإنسان تمامًا. وهو ما أكّدته دراسات تمّت في حدائق الحيوانات، وتناولت إفادات المعتنين بأنواع القردة منذ صغرها. وباعتبار أنّ هؤلاء يعرفون أعمار هذه الحيوانات، فهم يؤكّدون أنّها تعاني في منتصف العمر من تقلّبات مزاجية وفترات من الاكتئاب. وعلى هذا الأساس ترسَّخت النظريات القائلة بأنّ العوامل البيولوجية التي تجمعنا مع أسلافنا القردة، ربما هي المسؤولة عن حساسيتنا تجاه المرحلة المُشار إليها.
إلى ذلك، فإذا ما وضعنا الخوف من التجاعيد والشيب جانبًا، وتخطّينا جميع الافتراضات القائمة تجاه شبابنا الذاوي، نرى من الضرورة الالتفات إلى محطّات الخوف القابعة بعد سن الأربعين، والتي من غير الممكن التغاضي عنها.
فبعد الأربعين يزيد احتمال الإصابة بالاكتئاب نتيجة الضغوط، كما لا يمكننا إغفال ارتفاع نسبة الإصابة بأمراض السرطان والقلب والشرايين. ولا ننسى الدماغ الذي تبدأ خلاياه بالضمور. وهنا يؤكد عالم الأعصاب أنطونيو جورجيو في جامعة اكسفورد، أنّ المادة الرمادية الموجودة في الدماغ، والتي تنمو بسرعة إلى حدود سن الأربعين، تتراجع تباعًا بعد هذا السن. أمّا بالنسبة للنساء، فإنّ هبوط معدّل هرمون الأستروجين يعتبر عذابًا حقيقيًّا.
 
 

اختلافات في الرأي
هذه وسواها من الحقائق، لا تردع البعض عن دحض كل ما يقال عن أزمات منتصف العمر. فهي برأيهم لا يمكن أن تقود إلى حياة خارج نطاق السيطرة، وخصوصًا على مستوى العلاقات الزوجيّة.
صحيح أنّ منتصف العمر يؤمّن أرضًا خصبة للطلاق، إلّا أنّه من منطلق المفهوم المضاد، يبقى على مسافة ما بين المنطق واللاّمنطق، ما يمكّن الزوجين من رؤية حقائق الأمور من أجل استعادة التحكّم بها.
على هذا الأساس أُعيد تقييم الحياة الزوجية في ظلّ تغيّرات منتصف العمر في بلدان مختلفة وتمَّ التوصّل إلى الآتي: لا يمكن القول إنّ أكثرية الزيجات تتعرّض لعدم الاستقرار في منتصف العمر، بل على العكس؛ فقد أشارت آخر الدراسات إلى وجود علاقات متينة خلال هذه المرحلة. وفي حال حصول الطلاق، تكون المرأة هي البادئة بطلبه نتيجة انحراف سلوك زوجها.
على كلٍ، عندما سألت الباحثة الألمانيّة ألكسندرا فرويد جماعات من كبار السن عن العمر الذي يودّون الوقوف عنده، أو العودة إليه لو قُدِّر لهم ذلك، أجاب معظمهم سن الأربعين.
في بعض الحضارات وتحديدًا اليابان والهند وكينيا ومعظم دول الشرق الأوسط، تُعتبر أزمات منتصف العمر مفهومًا دخيلًا؛ فالأزواج هناك يعيشون عمومًا بهدوء، ويستمتعون بالنضوج والخبرة والحكمة، كما يفرحون لرؤية أولادهم يستقلّون ليبنوا حياتهم الخاصّة.
مفهوم منتصف العمر إذًا يتأرجح في ضبابية يفرضها تنوّع الحضارات. هذا إذا ما استثنينا العوامل البيولوجية المؤثرة إلى حدٍ ما لدى كلٍ من الرجال والنساء. ما عدا ذلك، بالإمكان اعتباره أمرًا مبالغًا في تقديره. ويبقى الجواب رهن تقلّبات المزاج وموجات الأفكار والاعتقادات العصريّة الدخيلة.