رحلة في الإنسان

أصحابها عالقون بين التركيز المفرط على الذات والتفاعل السلطوي القلق مع الغير
إعداد: غريس فرح

الشخصية النرجسية
مزيج من الفظاظة والوقاحة والثقة العالية بالنفس

من البديهي القول أن الأصحاء نفسياً غالباً ما يحوّلون إنعكاسات الوقائع لمصلحة توجهاتهم الذاتية، بمعنى أنّهم يرفضون إلى حدٍّ ما، تغليب المشاعر السلبية التي تنال من ثقتهم بأنفسهم أو تقلِّل من شأنهم. إلاَّ أن المغالاة بالثقة وحب الذات ورفض الاعتراف بالخطأ، إضافة إلى تحميل الغير أوزاره، هي بمجملها تجسيدات لانحرافات سلوكية قد تؤثر سلباً على المعنيين بها، وعلى المحيطين بهم، ممّن يضطّرون إلى تحمّل نزق إنفعالاتهم غير اللاّئقة، وانعكاسات تمحورهم على ذواتهم. فكيف تتجذّر الثقة الزائدة بالنفس أو التركيز المفرط على الذات، وهل من وسائل لتصحيح إنعكاساتها، والتأقلم مع الأجواء الضاغطة التي تفرضها في المجتمع؟


حب الذات المرضي

لا أحد يعلم بالتحديد كيف يتأصل حب الذات المرضي، علماً أن بعض  الإختصاصيين يميلون إلى الاعتقاد بجذوره الوراثية، بالإضافة إلى دور التربية والظروف في مجال المغالاة في تغذية الروح المعنوية للفرد، وبلورة مرتبة «الأنا» في انتمائه الاجتماعي. ويعتقد الباحثون أن شعور الأنا يتعاظم لدى الجنسين بالوتيرة نفسها، إلاّ أنه يظهر إلى العلن في صفوف الذكور بنسبة تفوق ظهوره عند الإناث، وذلك إنطلاقاً من النزعة الذكورية إلى السيطرة نتيجة عوامل بيولوجية وإجتماعية عدّة. وقد يتسبّب هذا التعاظم عند البعض بمشاكل وصراعات لا حصر لها، وخصوصاً في حال تغاضي المحيطين بهؤلاء عن التصّدي لتصرّفاتهم غير المنضبطة أو قمعها. هذا يعني أن التمحور على الذات أو النرجسية بالتعبير العلمي، والذي يتغذى في الجذور الوراثية والظروف المؤاتية لنموه، يخضع للضبط والعلاج بنسب مختلفة، علماً أن علاجه يعتبر حتى الآن، الأصعب في مجال إضطرابات الشخصية. وهذا يتعلّق تحديداً بالنرجسيين المعتدّين والناقمين الذين يعتقدون أن مجتمعهم لا ينصفهم بما فيه الكفاية.


من هو النرجسي بالتحديد؟

حسب دراسة أجريت مؤخراً في جامعة فلوريدا، فإن الشخصية النرجسية هي مزيج من الفظاظة والوقاحة والثقة العالية بالنفس. وهي شخصية تتراوح معالمها بين الجنوح إلى الاضطراب المرضي وما يتخلّله من إنفعالات شاذة وغير متوقعة، وبين الهدوء المتعالي والمتّشح بالقلق والشك والحذر. إنها شخصية تمزج بين التركيز المفرط على الذات، وبين التفاعل السلطوي القلق مع الغير. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن كلمة «نرجسية» مأخوذة من الأسطورة الإغريقية للإله نرسيس الذي أغرم بصورته المنعكسة على سطح الماء، بعدما رآها تتحوّل إلى نرجسة جميلة، نتمكن من إستخلاص المعنى الضمني للشخصية التي نحن بصددها. إلاّ أن المفارقة الملموسة بين شخصية النرجسي الواقعية وبين الشخصية الأسطورية، هي أن الأولى تحتاج بعمق، حسب تأكيد الإختصاصيين، إلى حب الناس وتقديرهم، إضافة إلى رؤيتهم لها بنفس الإطار المثالي الذي يعتمده أصحابها لتصنيف أنفسهم. وهنا تكمن المشكلة ويبدأ الصراع بين الشخص المتمحور على ذاته وبين المحيطين به.


بين الإيجابيات والسلبيات

بغض النظر عن مساوئ التمحور على الذات، يرى الإختصاصيون أن المتّسمي به يملكون عموماً سحراً خاصاً يكمن بمقدرتهم على اقتحام الصعاب، وتذليل العقبات وحماية الغير ومساعدتهم عند الحاجة. إلاّ أن هذا السحر الذي غالباً ما يجذب الأنظار ويستقطب الإعجاب، قد يخفي شخصية مضطربة وقلقة. فشخصية النرجسي كما ثبت بالتحليل، هي شخصية بالغة الحساسية تجعل صاحبها ينتفض لأدنى انتقاد، وتؤدي إلى شعوره بالمهانة لأقلّ إشارة قد يعتبرها إنتقاصاً من قدره. وهنا يحذّر الباحثون النفسيون من ردّات فعله السميّة البالغة الحدة، وانتقامه اللاّذع لذاته المجروحة. وتؤكد الدراسات أن النرجسي الذي يحاول على الدوام إرضاء غروره، والبقاء في مركز محوري، يصبح خبيراً باستغلال الظروف لمصلحته. وهذا يعني أنه يصل إلى مبتغاه بشتى الطرق، حتى ولو إضطر إلى الدوس على رؤوس الكثيرين من أصحاب الكفاءة. وكونه يرى أنه يستحق تقديراً خاصاً، فهو يثور لأي خطأ يرتكب بحقه، ويتسبب بأذية صاحبه بدون رأفة.


التركيز على الذات يحد من الإنتاج

على الرغم من سهولة وصول النرجسي إلى القمة، فهو معرّض لارتكاب الكثير من الأخطاء الناجمة عن الإعتداد الزائد بالنفس والتركيز المفرط على الذات، الأمر الذي يعرقل سير العمل ويزرع النقمة في صفوف المتعاملين معه. وكما تشير الدراسات، فإن التأثير السلبي الأسوأ الممكن حدوثه نتيجة للتوجهات المشار إليها، هو عرقلة العمل والإنتاج بسبب عجز النرجسي عن التعاون ضمن فرق متجانسة تحرمه لذّة إستقطاب الأنظار. ومن هنا الإعتقاد أن نجاحه ينحصر عموماً ضمن المراكز القيادية، أو في الوظائف التي تمنحه فرصة الظهور. وفي هذا المجال تؤكد الدراسات أن الرئيس المتمحور على ذاته لا يرى حرجاً بإرهاق الموظفين بالعمل لتحقيق أهدافه، وقد لا يتوانى عن النيل من كراماتهم لأتفه الأسباب.


كيف يتصرّف كزوج أو كشريك؟

إنه الأسوأ كشريك في العلاقة العاطفية، لأنه يحتاج بعمق إلى تعزيز حبه للظهور عبر شخصية الشريك، كما قد يستخدمه بطريقة لاواعية لتحقيق مآربه. وهنا تؤكد الدراسات أن الشخص المتّسم بهذه المواصفات، وعلى الرغم من كبته لرغباته غير المعلنة، فهو يخبئ ضمناً ضعفاً أو هشاشة وراء قناع الاعتداد الذي يظهره للعلن. لذا يحتاج في قرارة نفسه إلى شريك قادر على دعمه والإعلاء من شأنه في نظر الغير. وهذا يعني أنه في هذا المجال، قد يتحوّل إلى قرش يتغذّى بمن يقع في حبه، الأمر الذي قد يسبّب فشل علاقاته على الرغم من الجاذبية التي يتمتع بها. ولا ينسى الباحثون في متاهات الشخصية الإشارة إلى أن ميل النرجسي إلى التسلّط قد ينشأ عموماً نتيجة الشعور بالفراغ، أو بسبب التسرّع في بناء الحياة على أسس هشة لا تؤمن الضمانة المرجوة، الأمر الذي يؤدي إلى نمو شخصية قلقة تنقصها المرونة الضرورية لمسايرة التغييرات وتقبّل الواقع.


قيمة المشاعر السلبية!

حسب المعالج النفسي الإجتماعي والمحاضر في جامعة فلوريدا، الأستاذ روي بوماستر، هنالك شبه تأكيد على أن معظم الناس العاديين يعتقدون ضمناً أنّهم أفضل من سواهم، بمعنى أن الكل تقريباً يعتقد في سره أنه الأذكى والأقدر على العمل، أو يتحدّر من سلالة متفوّقة تفرض نفسها على ما عداها في مجتمعه. ومن هنا الشعور بالغبن الذي ينتاب الأكثرية الساحقة من الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا المجتمع، ويضمرون حقداً يطاول من يعتبرونهم حواجز في وجه تقدّمهم. من هذا المنطلق، تبرز أهمية المشاعر السلبية التي يتم التصدّي لها في العلاج النفسي، باعتبارها تحدّ من تمادي الشعور النرجسي. والسبب أن المشاعر السلبية التي نحتفظ بها ضمن الحدود الطبيعية، كفيلة بالرّدع عن التمادي بالثقة والغرور. فهي تحذرنا في الوقت المناسب، وتجعلنا نلتفت إلى أخطائنا، وتجبرنا على الاعتراف بها لرسم الحدود الفاصلة بين ما نطمح إليه وما نتمكن من تحقيقه. بمعنى آخر إنها تعيدنا إلى حجمنا الطبيعي، وتجعلنا نقف عند الحدّ الذي تتمركز عنده حقوق الآخرين، ليتسنى لنا التفاعل معهم بمنأى عن صراعاتنا الداخلية.


كيف نتعامل مع أشخاص من هذا النوع؟

بعد هذه اللمحة السريعة عن الشخصية التي نحن بصددها، يصبح من الضروري التعرّف إلى كيفية التعامل مع أصحابها لتخفيف الضغوط الناجمة عن الإحتكاك بهم وخصوصاً في أجواء العمل، أو ضمن جدران المنزل. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن شخصية النرجسي المبنية على تعاظم «الأنا» نتيجة مؤثرات بيولوجية وبيئية، وأن هذا التعاظم قد يخفي إضطرابات غير منظورة، يصبح بالإمكان التعامل مع المعنيين بسهولة بالغة، إضافة إلى استقطاب تعاطفهم وحبهم. النرجسي كما سبق وأشرنا، يحتاج إلى التأييد والدعم والمديح لتغذية رؤيته المثالية لنفسه.

 كما ينزعج بسرعة من الإنتقاد وينتفض بسميّة بالغة. لذا، فإذا ما أعدنا تقييم هذه المعطيات وتعمّقنا في جذورها، وبالقلق المرافق لها بسبب الحذر والاستنفار الدائم لحماية الذات، نتمكّن من التعاطي مع أشخاص من هذا النوع عن طريق الأخذ بالتوصيات التالية:
* عدم معارضة النرجسي المعتدّ بنفسه أو انتقاده علانية، وخصوصاً إذا كان في مركز قيادي. والأفضل مهادنته إلى حين يكتشف الخطأ بنفسه.
* المديح الذي يغذّي الشعور النرجسي يساعد أيضاً على امتصاص الشعور بالغبن والذي عادة ما يكون سبب النقمة. لذا ينصح باعتماده ضمن حدود مع أشخاص من هذا النوع.
* المتمحور على ذاته يبدو عموماً متعجرفاً وقاسياً وسريع الإنفعال. ولكن إذا ما أخذنا بالاعتبار حاجته الماسة إلى الحب والدعم، نتمكن من تخفيف قساوة قناعه الخارجي أو انتزاعه.
* يوصى بإفهام المعتدّ بنفسه برفق أن من حوله يتفهم مشاعره ويحاول التعاون معه، كما ينصح بتوعيته بوضوح إلى أنهم أيضاً يحتاجون إلى الدعم والمديح، ويشعرون بالاحباط تجاه قسوته وانفعاله وميوله السلطوية، الأمر الذي قد يغيّر من توجهاته، ويمكّنه من التفاعل تدريجاً في مجتمعه والتأقلم مع واقعه.
* عندما يفهم النرجسي تدريجاً أن رفض الإنتقاد والشعور بالمهانة تجاهه ينبع من الخوف والضعف والإفراط في حماية «الأنا»، فقد يغيّر سلوكه. وعندما يعي أن إذلال الغير بهدف البروز يجلب له الكراهية والشفقة بدل الإعجاب، فقد يسعى إلى تعديل نظرته إلى نفسه.