قضايا إقليمية

أمن إسرائيل المطلق والعالمــي
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

يقول شيمون بيريس في كتابه الشرق الأوسط الجديد: «إن موضوع الأمن يجب أن يتقدّم سلم الأولويات قبل تنفّس الهواء، وبقدر ما نضغط أمنياً على أعدائنا بقدر ما تتوافر لنا فرص البقاء والوجود»

 

يقول الجنرال يفآل آلون «أن من يصادر أحلام أو طموحات بني إسرائيل،إنما يصادر حقاً شرعياً شرّعه الرب، كما ويصادر القوة الروحية الجبارة التي تدفع اليهود للعمل والمثابرة والتضحية في سبيل حلم صهيون وأرض الميعاد»


في الوقت الذي تحتل إسرائيل أراض عربية واسعة في كل من فلسطين وسوريا ولبنان، وفي الوقت الذي يعلن كبار قادة الصهيونية المعاصرة نواياهم بقصف السد العالي في مصر وقصف طهران واجتياح سوريا واحتلال عاصمتها واجتياح لبنان وتدمير كل البنى التحتية الأساسية فيه، مع ما ينطوي عليه ذلك من ارتكاب مجازر وفظائع وانتهاكات للقوانين الدولية والحقوق الإنسانية، وفي الوقت الذي تمنع إسرائيل قيام كيان فلسطيني مجتزأ ومحاصر ومقطّع الأوصال بالمستوطنات والجدران العنصرية، وفي الوقت الذي يعاني الواقع الفلسطيني والعربي كثيراً من التمزّق والاختلافات وفقدان الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى على شتى الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وفي الوقت الذي تدّعي إسرائيل أنها لوحدها تمثّل نصف منطقة الشرق الأوسط برمّتها، ولا تخجل، تصريحاً أو تلميحاً، بالإقرار بأنها تملك مختلف أشكال الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بما في ذلك الأسلحة المحرّمة دولياً التي ظهرت في ما سمي «عملية الرصاص المسكوب» في قطاع غزة مثل الفوسفور الأبيض والقنابل الإنشطارية وما الى ذلك، فإن إسرائيل نفسها تدّعي ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً بأنها دولة مستضعفة ومهدّدة في وجودها ولا تكف عن تقديم الشكاوى الى مجلس الأمن الدولي من قذيفة بدائية هنا أو صاروخ بدائي هناك، وهذا كله تحت شعار الدفاع عن أمنها التام والمطلق بوجه ما تسميه الإرهاب والمخربين. ولا شك أن هذا المفهوم الأمني الأحادي الجانب يلقى تجاوباً وتغطية من قبل الدول العالمية الكبرى ذات المصلحة الأساسية في قيام هذا الكيان الغاصب والمانع لحصول أي تطور إيجابي في أي دولة عربية أو إسلامية في المنطقة، خوفاً من صحوة الشعوب على مصالحها الوطنية العليا وخوفاً من فقدان سبل الاقتراب من منابع الطاقة والمال ومصادرهما الأساسية، ولهذا السبب ترفض إسرائيل ومن يدعمها في المنطقة والعالم حصول أي تطورات حتى على المستوى الدفاعي، ترمي الى محاولة تحسين بعض الدول من أوضاعها العلمية أو التكنولوجية أو الصناعية حتى لو كان ذلك في المجالات الوقائية والمدنية، والأنكى من كل ذلك أن خيارات السلام والإتفاقات والتفاهمات لم تحمِ أصحابها من الجبروت الصهيوني الإسرائيلي ولا من أطماعه الظاهرة أو المستترة.
في ضوء كل ما تقدم لا يمكن اعتبار الذرائع والأعذار الأمنية الإسرائيلية، مجرد محاولات لحماية الذات، كما عبّرت عن ذلك الأدبيات التقليدية للسياسة الخارجية الإسرائيلية، بل لا يمكن اعتبارها سوى منطق ذرائعي هدفه تبرير سياسة السيطرة وفرض الهيمنة على الأرض والموارد المادية والبشرية ضمن دوائر تبدأ بالدول المجاورة ولا تنتهي إلا عند حدود الصين شرقاً وطنجة في المغرب غرباً، وهذا كله من أجل منع حصول أي اختراقات أو إختلالات أمنية ترمي لاستعادة الحقوق المسلوبة، وذلك في إطار نظرية فرض الاستقرار بالردع والقدرة على التهديد به ومن ثم إجبار الأطراف العربية المختلفة على الإستجابة لما تراه إسرائيل مناسباً لاستمرار احتلالها وتوسّعها. وفي هذا السياق يقول رئيس الدولة الحالي شمعون بيريس في كتابه الشرق الأوسط الجديد: «إن موضوع الأمن لا يمكن اعتباره موضوعاً قابلاًَ للنقاش أمام أي رئيس حكومة إسرائيلية، إنه موضوع حياة أو موت بالنسبة الينا جميعاً. وعليه فإن النظر للأمن الإسرائيلي يجب أن يتقدّم سلم الأولويات قبل تنفّس الهواء، وبقدر ما نضغط أمنياً على أعدائنا بقدر ما تتوافر لنا فرص البقاء والوجود». أما الجنرال يفآل آلون فيرى أن «مفهوم الأمن الإسرائيلي، حتى قبل إنشاء الدولة، إنما يعتمد على ما ورد في التوراة من نصوص، حيث جاء أن من يصادر أحلام أو طموحات بني إسرائيل، إنما يصادر حقاً شرعياً شرّعه الرب، كما ويصادر القوة الروحية الجبارة التي تدفع اليهود للعمل والمثابرة والتضحية في سبيل حلم صهيون وأرض الميعاد».
هذا الحراك الإستراتيجي العقيدي نقل إسرائيل - بحسب رأي شمعون بيريس - من مرحلة «العمق الإستراتيجي» و«الضربة المضادة الإستباقية» الى مرحلة «الردع النووي» و«الهجوم الإستباقي» و«الحدود القابلة للدفاع عنها» تبريراً للإحتفاظ بالأراضي المحتلة على أوسع نطاق ممكن وأطول مدة ممكنة، وهذا كله تحت مظلة من الحماية الدولية الشاملة التي تقوم على خلفية الخلاص من عقدة الهولوكوست اليهودي الذي تتهم بارتكابه النازية الأوروبية ومن مخاوف ردة الفعل اليهودية الجامحة للإنتقام من تلك الحقبة السوداء في تاريخ الإنسانية جمعاء.
يتبين لنا إذن أن نظرية الأمن الإسرائيلي لا تكتفي بالضمانات السياسية والدبلوماسية الدولية، وهي متوافرة بكثرة وسهولة وفي كل وقت، بل إنها تطالب ايضاً بتوفير الوسائل العملية الداخلية القادرة على تجسيد هذه النظرية على حد ما قالته رئيسة حكومة العدو الراحلة غولدا مائير: «إن ما نريده ليس ضماناً من الآخرين لأمننا، بل نريد ظروفاً مادية وحدوداً في هذه البلاد تضمن بشكل أكيد عدم نشوب حرب أخرى». وهذا يعني عملياً أن الأمن الإسرائيلي هو ظاهرة معقّدة ومركّبة إقليمياً ودولياً وتتضمّن القوة العسكرية والهجرة اليهودية والإستيطان المتوسّع والهجرة المعاكسة المكبوحة من إسرائيل الى الشتات وتقوية القاعدة الإقتصادية وتوظيف الحراك الدولي الأمني والسياسي والدبلوماسي لصالح الأمن الإسرائيلي المطلق، من طريق توافر كامل المعلومات الإستخبارية اللازمة عن دول المنطقة برمتها لاستخدامها في الوقت المناسب لصالح متطلبات الأمن الإسرائيلي، خصوصاً ضمن الدوائر القريبة في كل من الضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان وصولاً الى إيران وباكستان والسودان.
لقد استخدم وزير الدفاع الإسرائيلي الراحل موشيه ديان مصطلح حرب ««اللاخيار» مع المحيط العربي، وتحدث اسحق رابين، رئيس الحكومة الأسبق، عن «الحرب الراقدة» لوصف العلاقة القائمة بين إسرائيل ومحيطها المباشر وغير المباشر. في ما بعد استخدم مسؤولون إسرائيليون لاحقون ما أسموه «الحرب المنخفضة الحدة» للدلالة على انعدام الخطط الواضحة بين الحرب والسلم في تعامل إسرائيل مع محيطها الإقليمي. وفي هذا السياق برزت ايضاً نظرية «كي الوعي» الفلسطيني والعربي التي تعني بث روح اليأس والاستسلام وعدم جدوى استمرار الكفاح المسلح كوسيلة ناجعة لاسترجاع الحقوق المسلوبة، وبالتالي فالأرض الخالية من العرب، أي من الزمان أو التاريخ العربي، هي المجال الحيوي الذي يمكن توطين الشعب اليهودي فيه وتحويله الى كيان عدواني استيطاني يقوم على خدمة المصالح الإستراتيجية الغربية في إطار الدولة الوظيفية. أما الأرض التي يستولي عليها الصهاينة فيجب أن يتم تعقيمها وسلخها من زمانها التاريخي العربي وتحويلها الى مكان يهودي صرف مع ضرورة الإقرار العربي الإلزامي بمثل هذا التعقيم وذاك السلخ. ومثل هذا المكان العنصري والموبوء بالحقد والكراهية والاستعلاء على الآخر إنما يحميه ما سماه حاييم ارونسون «الحائط النووي» الإحتكاري الذي يحمي إسرائيل داخل حزام مسلح من المستوطنات والأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية.