كلمة وداع

ابراهيم مرعشلي الفن والعفوية

في ثمانينيات القرن الماضي شهدت بيروت توترات أمنية، من إطلاق نار على خطوط التماس وقذائف، وأحياناً تفجيرات واشتباكات، بحيث اتخذت الحياة فيها خصوصية ارتبطت بالوضع الأمني بشكل الزامي، إضافة الى انقطاع في الكهرباء والمياه وشح في الخدمات، وكان على القادم إلى المدينة من باقي المناطق ان يدرك هذه الخصوصيات، فإذا اراد الذهاب الى مكان أو آخر يجب عليه ان يستفسر عن الأمن قبل كل شيء.

 

 توجهنا الى بيروت ذات يوم آنذاك لسبب اضطراري، وكان علينا ان نبيت الليلة فيها، ثم نعود ادراجنا في اليوم التالي من حيث أتينا. فكّرنا: أين سنمضي هذه الليلة يا ترى؟ واستقرّ الرأي على حضور مسرحية لإبراهيم مرعشلي في مسرح فرساي في الحمراء. توقفنا امام المسرح من دون أي شك او تفكير حول ركن السيارة، وتوجهنا الى الداخل حيث اشترينا البطاقات ورحنا نتداول الحديث بشكل طبيعي بانتظار بدء المسرحية، الى ان تناهت الينا ضجة كبيرة انطلقنا بسببها الى الخارج لنرى تجمعاً بشرياً مضطرباً حول السيارة، وعناصر امنيين مع اسلحتهم. فور وصولنا، وبكل عفوية، فتحنا باب السيارة من اجل تحريكها الى مكان آخر ظناً منّا ان الحاضرين يريدون وضع سيارتهم مكانها، لكن احد هؤلاء هجم علينا صارخاً سائلاً: هذه السيارة لكم؟ قلنا نعم. فازداد الصراخ وارتفعت الاصوات: نحن “ملدوغون”. لقد اوقفتموها في مكان مريب واعتقدنا انها مفخخة. هدأت خواطر الجموع واقتنع الأمنيون ان لا نوايا سيئة في الموضوع. ثم كان ان عدنا الى المسرح.

 

كان ابراهيم هو مركز المسرحية، دارت المشاهد بمعظمها حول شخصيته، وقلّما رأينا مشهداً لا يكون حاضراً فيه. لكن الكهرباء انقطعت مرات عديدة كعادتها في تلك الأيام، فكانت المسرحية تتوقف بسبب ذلك، وتتوقف رقصاتها الجماعية، وينسحب الممثلون الى الخلف بانتظار عودة النور، ثم يحضرون بعدها وفي مقدمتهم ابراهيم الذي يستأنف الحوار، فنستأنف بدورنا البسمة التي قلّما عرفناها خلال ذلك الزمن المتوتر.

 

في أحلك الظروف، كان ابراهيم مرعشلي يستحضر في شخصه الانسان العادي شعوراً وذوقاً وتفكيراً من دون تكلّف ومن دون مبالغة. كان يمثل الناس تماماً، يقول ما يحاولون قوله ولا يقدرون. قابل هموم الحياة بفكاهة شعبية، مؤدّبة محببة، حلت للسامع ولذّت للمشاهد. انتقى مشاهده من داخل النسيج الاجتماعي. بدأ مع شوشو ومع المسرح اليومي اللبناني ­ المغامرة التي حطّمتها الأحداث عام .1975وصل الى السينما في اكثر من عمل، الى ان كان مؤنس الناس عبر شاشة تلفزيون لبنان في النصف الثاني من الثمانينيات. كان المواطنون أسرى منازلهم بسبب الأوضاع الأمنية، وكانوا ينتظرون من الاستاذ ابراهيم افندي ومن الكابتن بوب، سلوى وحيدة، في زمن فقدان الاستقرار، سلوى كانت تعيد الأمان الى النفوس والأمل الى العقول.

 

 لم تكن حياة ابراهيم الفنية مسيرة ذات بداية او نهاية، كانت لحظات متواصلة متألقة متأنقة منذ ان بدأ حتى ان فارقنا الى العالم الآخر. كنت الاحظ ان حياته بين الناس تشبه أداءه على المسرح، وكنت أحار واقول في نفسي: هل أنه ذهب بأداء المسرح الى الحياة أم انه انطلق الى الحياة من خشبة المسرح؟ تماهت الحالتان الواحدة في الأخرى، فالحياة مسرح كبير والمسرح حياة مختصرة مختارة. ويسأل المرء ايضاً: هل ان الانسان ممثل يتبختر على الخشبة وسط الصخب والعنف كما قال شكسبير في مسرحيته الشهيرة “مكبث” أم هو، كما جسّده ابراهيم، كائنٌ عفويٌ فطريٌ بعيدٌ عن التصنع والاقتداء الأعمى بالمدارس الأجنبية؟

 

 كان ابراهيم شعبياً بسيطاً معبراً بمعنى قبول الناس لأعماله، فيما أقبل البعض من مدعيي الثقافة على اعمال لم يفهموها وافترضوا انهم فهموها كل على غاربه، وذلك ظناً منهم بأنهم يرفعون من شأنهم ويُحسبون مثقفين وموهوبين ومبدعين.

 

 فارقنا هذا الفنان الغالي ونحن بأمس الحاجة الى من يدافع عن ذوق الناس، وعن تفكيرهم وعن خواطرهم الحقيقية، في ظل غزو ثقافي يحمل من التفاهات والخلاعات ما لم يعد لنا قدرة على مواجهته. هذه هي الحياة. تحب إنساناً فيرحل. تميل الى فنان فيغيب تاركاً اعماله وذكرياته. لكن الناس يفهمون الفن ويقدّرونه بعد رحيل صاحبه اكثر مما فهموه وقدّروه حيث كان بينهم، وانت يا ابراهيم رحلت وبقيت عفويتك معنا، وبقي اخلاصك رفيقاً حاضراً بيننا.

.م.ت