ثقافة وفنون

الإعلام العربي وانهيار السلطات اللغوية
إعداد: وفيق غريزي

كتاب جديد للدكتور نسيم الخوري

من موقعه كأستاذ لمادة الصحافة في الجامعة وكمدير سابق لكليّة الإعلام والتوثيق في لبنان، وعبر مؤلفاته (ومنها: ترانيم الأمة الخرساء، فنون التحرير الإعلامي، مدخل الى حداثة العرب - بالفرنسية، الإعلام الصهيوني والفلتان الأخلاقي، فن الخبر، مذكرات وطن مستورد، لم يبق إلا اللغة، الطاقة الإتصالية...) يواصل الباحث نسيم الخوري دوره في تأكيد الحوار بين العرب والعالم وبين اللبنانيين، محمّلاً وسائل الإعلام الكثير من الإنحدارات والإنهيارات التي تتخبط بها الساحة العربية في عصري الفوضى المنظمة والعولمة.
وقد جاء كتابه الأخير «الإعلام العربي وانهيار السلطات اللغوية» (531 صفحة من القطع الكبير) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، سلسلة أطروحات الدكتوراه المميزة، «ثمرة ربع قرن من البحث والتنخيل والمعاناة في ميداني مكابدة الحبر والأكاديميا في الجامعة أستاذاً، وطالباً في جامعة أخرى، للحصول على دكتوراه دولة ثانية في الإعلام واللغة الإعلامية... وهذا ما يجعل من الإنسان الرقمي المعاصر طالباً أبدياً في الجامعة الفضائية الوهمية الزجاجية التي تجعلنا كبشر نعيش جميعاً ومعاً في عصر الفضاء...»، كما ذكر الباحث في مقدمة الكتاب.

يشكل هذا الكتاب سجلاً حافلاً بكلّ ما يتصل بميادين الإعلام والإتصال والإعلان والسلطة ومفرداتها ومصطلحاتها المعاصرة، في سياق تحليلي يربط في ما بين العلوم المختلفة مثل علوم النفس والإجتماع والألسنية واللغويات والفلسفة والتاريخ والأدب ومدى تحولاتها في ضوء التقنيات المتسارعة، ويتساءل: «كيف ندرس الكلام العربي والعرب في طليعة المتكلمين وكلامهم أنهر ومحيطات لا يمكن إيقافها من أجل رصدها ودراستها، والإشكالية هي في أن كلام العرب لسان لا يبلى ولا يتغير وهو يوازي اللغة بالمفاهيم الغربية، وهنا المعضلة الكبرى..؟».

لقد صمدت اللغة العربية في وجه التتريك حاملة خلال الألفية الأولى الفكر والعلم والأدب، وشغلت مكانة مرموقة دولية، ثم صمدت خلال الألفية الثانية في وجه الاستعمار الأجنبي الذي دأب على سلبها صلاحياتها وقوتها وسلطاتها وحضورها كأداة للتداول والإبداع، لكنها تبدو تتراجع فوق ألسنة أجيالنا الى شكل مخيف، وهي تبدو تلوى وتتبعثر أمام رياح العولمة ومشتقات التعبير الضوئي، الأمر الذي قد يقودها وهي تمرّ في الشاشات نحو الليتورجية والموت. وقد لا يبقى منها سوى التمتمات والصلاة في الجوامع وفوق المنابر النادرة، بمعنى آخر قد تؤول لغة العرب الى حدودها الدينية المقدّسة التي قد تجعل منها لغة منبوذة من أبنائها، في الوقت الذي يتهالك فيه الغربيون على تعلمها كجسر لتحقيق السلطات المستوردة.

يعالج هذا الكتاب على نحو شمولي جدليات اللغة والسلطة والسيادة والقوة والحق والإعلام، مفنداً السلطات العامة والخاصة للغة العربية. كما يبحث في انهيارات السلطات التي تحميها، دينية كانت أم تعليمية أم حقوقية أم تربوية أو بمعناها العام في الأنظمة الديمقراطية. ويتخذ الكاتب من لبنان نموذجاً صارخاً كحالة للدراسة العينية، مشيراً الى محطات الإنهيار الواضحة وغير البريئة في وسائل الإعلام يرفدها هذا الفتون العارم بكل غرب أو غريب. ويشير الباحث الى طغيان المحكيات في المدارس والجامعات والمواعظ الدينية والمرافعات القانونية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية حتى الإخبارية منها.

ويرى الكاتب في بحثه القيم نوعاً من التحولات الملموسة للسلطات نحو وسائل الإعلام وعصر العولمة الذي يحتلّ حيزاً مهماً موثقاً، يكشف الحجاب عن التشظيات التي تخلفها هذه الوسائل على مستويات المجتمعات كلها، بدءاً من تشظيات ميكي ماوس مروراً بألعاب الأطفال وبرامجهم في الشاشات الإلكترونية، الى سلطات أجهزة التحكم من بعد ودورها في تقدم الغريزة البشرية على حساب العقل، وصولاً الى قضمة التفاحة التي اقترفها آدم وزيّن بها ماكنتوش نصوصه الضوئية الإلكترونية التي يغطس العالم في لجّتها اللامتناهية ليحطّ رحاله في سحر الفأرة الإلكترونية. إنه «عصر الماوس» التي يسميها المؤلف باب المعرفة: يكفيك أن تنقر بإصبعك طَرقات ثلاث فوق رأس الفأرة الفاضلة على تقدّم البشرية وكشوفاتها، لتنفتح أمامك كلّ خزائن المعرفة في العالم. الثقافة لعبة والعلم لعبة أخرى وهذا صحيح طالما الحياة لعبة! كتاب جديد وطريف ويختزن تفاصيل ومعلومات هائلة، وتحتاجه المكتبة العربية رفعاً للتحديات وحرصاً على لسان العرب طالما اللسان إنسان.