رحلة في الإنسان

الإغتراب عن الثقافة والعادات يفجّر العصبيات الضيقة
إعداد: غريس فرح

هل توجد علاقة بين اتساع رقعة العولمة وتنامي ظاهرة الإرهاب

يكثر الحديث اليوم عن تنامي ظاهرة الإرهاب وانعكاساتها على المستويين المحلي والعالمي. وعلى الرغم من تباين الآراء حول تحديد مسببات هذه الظاهرة وإيجاد الحلول المناسبة لها، فإن الإجماع العام على إدانتها، قد حرّك الجهات المعنية على أكثر من صعيد، خصوصاً وأن تداعيات العنف العقائدي أصبحت تطاول المجتمعات كافة، بغض النظر عن الإنتماء الديني والعرقي.
لقد نشأ مفهوم عالمي يربط الإرهاب المستجد والمتنامي بظاهرة العولمة المرافقة له. وهو مفهوم يرتكز أساساً على بديهيات أو عوامل طبيعية واضحة، علماً أن هذه العوامل لم تتسبب سابقاً بهذا الفيض الجارف من العمليات الإرهابية. ومن هنا كان لا بد من الاستنتاج أن تنامي الإرهاب بالصورة التي نشهدها اليوم، يعتبر ظاهرة غريبة نشأت أصلاً نتيجة تداخل معطيات العولمة مع ردات فعل العوامل الطبيعية المشار اليها، ومن ثمّ تحولت، تحت تأثير التفاعلات البيئية المحلية الضيقة، الى عنف غرائزي، في إطار ما أصبح يعرف اليوم بالإرهاب العقائدي.
لكن، كيف يتم ربط العولمة بالعنف، وما هو دورها في تفجير ظاهرة الإرهاب الحالية التي تتبرأ منها الدول والأديان كافة؟

 

تداخل العولمة والعنف!
إن الدراسات النفسية والإجتماعية التي تناولت مؤخراً تداعيات تداخل العولمة والعنف، أشارت بوضوح الى أن امتداد العولمة الذي أفرزته المجتمعات الغربية الصناعية، قد تسبب مع الوقت باقتلاع تدريجي للمفاهيم التقليدية التي تميز بعض الشعوب، واستبدالها بأخرى مستوردة، ألقت بظلالها على ما أصبح يعرف اليوم بـ«القرية العالمية الصغيرة»، وهنا المفارقة الكبرى.
فهذه «القرية العالمية» بالذات التي أسهمت في فتح حدود الدول ومواردها وعقول أبنائها بعضهم علـى البعض الآخر، تسببت قسراً، حسب تعبير الإختصاصيين النفسيين، بانتكاسة إرتدادية في الكثير من المجتمعات العالمية. والسبب كما يفسره الإختصاصيون، لا يتعدى كونه ردة فعل فطرية لا واعية، تمثّلت بالرفض القاطع لطغيان الحضارة العالمية، ومحاصرتها للحضارات المحلية في عقر دارها، ومن ثمّ بسط هيمنتها كقوة فاعلة تتحكم بالأرض والموارد، وتستثمر العقول، وتعمل على طمس الهوية والانتماء. وحسب ما يؤكده الإختصاصيون النفسيون، فإن ردة الفعل هذه تمثلت بداية بالخوف على الإنتماء والهوية، بعدها تسلّحت بالانعزال وبالتطرف والعودة الى الأصول، ومن ثمّ بالعنف والإرهاب المرتهن للأفكار والانتماءات الضيقة من أجل رد هجمة الحضارات الدخيلة.

 

هل يخدم العنف الاحتفاظ بالهوية؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الإرهاب هو ظاهرة ترتكز على التسلح بالعنف لإثارة الخوف في نفوس المعتدين على أصحاب الأرض والعقيدة، نرى أن هذه الظاهرة قد تحولت عن أهدافها الأساسية والتي هي في الأصل «تخويف أو إرهاب الدخلاء»، وأصبحت تتسبب بإراقة دماء الأبرياء ممن لا ذنب لهم في ما يحدث. كما أصبحت، وبدون معرفة الدائرين في فلكها، تخدم المصالح السياسية والإقتصادية للجهات المقصودة بالعمليات الإرهابية. وهنا يجدر بالإشارة أن الإختصاصيين لم يحصروا ظاهرة الإرهاب بحضارة أو ثقافة معينة لأن توالي الأحداث العالمية، أظهر بوضوح أن العنف المتفشّي في العالم قد تجاوز الحدود كافة، وطاول أكثر من طائفة وعرق لأسباب مختلفة، في مقدمها مواجهة الهيمنة الخارجية.
كذلك فإن نتائج الدراسات في هذا المجال، أظهرت بوضوح أن العنف المرافق لظاهرة الإرهاب العالمي، لم يتمكن حتى الآن من إصابة أهدافه. وهذا يعني أن نمو الإرهاب لم يخدم القضية التي يتجنّد من أجلها من يعتبرون أنفسهم أصحاب حق، بل على العكس، فهو قد تسبب بحروب متنقلة باتت تهدد الانتماءات القومية والعرقية والطائفية في غير مكان من
العالم.


الإرهاب وغسل الأدمغة
يشدد الباحثون النفسيون على أن الأفراد المنتمين الى شبكات الإرهاب لا يدركون عمق المهمة الملقاة على عاتقهم ولا أبعادها ولا تداعياتها السلبية. فهم فئات تُستغل آلياً عن طريق تحريك الغرائز والمشاعر الفطرية المجسدة بالولاء للعصبيات الضيقة، وتُدفع الى تنفيذ مخططات مدروسة تخدم واضعيها. وهذا يعني أن معظم الأفراد المعنيين بالإرهاب هم ضحايا غسل إيقاعي منظّم لأدمغتهم الفتية والتي يتم توجيهها وفق إستراتيجيات مدروسة، ومن ثم إطلاقها بعد برمجتها باتجاه أهداف معينة. واللافت أن القيمين على برمجة الضحايا ينجحون عموماً في تحقيق أهدافهم، وخصوصاً عندما يجدون في ضحاياهم الأرض الخصبة أو الاستعداد الفطري لرفض الثقافات الدخيلة، في ظل التعقيدات الاجتماعية الناجمة عن تأثيرات العولمة.

 

المشكلة معقدة لكن الحل غير مستحيل
في هذا السياق، لا بد من الإشارة الى أن الحديث عن العولمة والعنف يتّسم عموماً بالغموض والتعقيد والتشعب، علماً أن ظاهرة العولمة نشأت أصلاً نتيجة تمدد الرأسمالية العالمية عبر التطور العلمي والتقني وسهولة المواصلات والاتصالات المعاصرة. بهذا تيسّرت القاعدة الاقتصادية والمالية التي سهّلت غزو الشبكات الغربية للأسواق العالمية، فتكونت المجتمعات الصناعية، واتسعت الهوّة بين فئات المجتمع الواحد. ولا ننسى دور وسائل الإعلام والإعلان في نشر التقاليد والعادات الغربية وفرض هيمنتها. وهو ما أحدث صدمة في صفوف من لا يملكون الاستعداد الكافي والثقافة العميقة لتقبّل التغيير، وفي الوقت نفسه، الصمود في وجه المتغيرات. وهو واقع أدخل، كما سبق وأشرنا، الخوف الى نفوس الحريصين على عدم الإنتقال من تقاليدهم الى تقاليد جديدة، وأشعرهم بصدمة الإغتراب الثقافي، وفقدان الهوية المحلية. وهذا الشعور حوّلهم مع الوقت الى أرض خصبة لتقبّل العقائد المتطرّفة، والتي تدعو الى التسلح بالعنف لرد هيمنة القوى الدخيلة.
إنها مشكلة عالمية مستعصية، لا تحلّ، بحسب الباحثين بعنف مقابل، بل بالتخطيط الواعي لأسس تربوية وإجتماعية ودينية صحيحة. أسس تدعو جميع الأفرقاء الى احترام القيم الانسانية وتقبّل الآخر، مع الاحتفاظ بحق الإبقاء على الهوية والانتماء والسيادة. وهنا تضطلع التنشئة الوطنية بالدور الأكبر، بحيث يتصدر الولاء للوطن الاعتبارات كافة. وبهذا يصبح الجهاد في سبيل الوطن والدفاع عن الأرض هو الحق الوحيد المشروع. أما التخويف بالوسائل الإرهابية على حساب دماء الأبرياء، فهو ما ترفضه وتدينه القوانين والأعراف والأديان كافة.