قضايا إقليمية

الإفلاس الأخلاقي على مستوى القيادة الإسرائيلية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية


جذور الإنعزالية والتعصّب العنـــــــصري والشك بكل الأمم تواصل إنتاج الجرائم

 

تقوم المعتقدات الصهيونية الحاكمة في اسرائيل حالياً على انغلاق متطرف وتعصب عرقي وعلى عنصرية حاقدة وأهداف سياسية في منتهى الخطورة على شعوب المنطقة وسلام العالم

 

تعتمد اسرائيل منذ نشوئها التمييز العنصري أساسًا لفكرها وسلوكها، وتعتقد قياداتها السياسية والعسكرية بأن لليهود بالذات حقوقًا تكوينية طبيعية منذ نشأة الإنسانية على الصعيدين القومي والعرقي في هذا الوجود، وبناء عليه تكون في الأصل والأساس أبعد شيء عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين البشر. وينبثق عن تجذر هذه الايديولوجيا، نهج عدواني متوحش يتجلّى في المجازر التي ارتكبها اليهود الصهاينة في دير ياسين وكفرقاسم وسواهما في فلسطين، وفي قبية في الأردن. كما يتجلى هذا النهج في مجازر بحر البقر وتصفية الجنود والأسرى المصريين منذ العام 1948 وحتى العام 1967 في مصر، وفي مجازر صبرا وشاتيلا وقانا الأولى والثانية وتدمير الضاحية الجنوبية لبيروت في لبنان، وكذلك هي الحال أيضاً في السودان وتونس والعراق وصولاً إلى مجزرة المواطنين الأتراك المشاركين في أسطول الحرية الداعي إلى فك الحصار الغاشم والظالم عن قطاع غزة منذ نحو أربع سنوات.
كل هذه الجرائم المتوحشة تمّت بذريعة «الحاجات الأمنية الجغرافية» التي تشكل بدورها ذريعة لمزيد من الإحتلال والتوسّع والسيطرة على حساب الدول والشعوب المجاورة، مع ادعاء الحق المطلق والذاتي لاحتكار القوة العسكرية (التقليدية وغير التقليدية) والتحكم بالمصادر والموارد الطبيعية فوق الأرض وتحتها ومن دون أن يكون لأي طرف حق بالإعتراض.
وفي السياق ذاته لم يجد رئيس أركان جيش العدو السابق الجنرال دان حالوتس غضاضة من التباهي بالقول، عندما سئل عن إحساسه لدى معرفته بقتل نحو 15 مدنيًا من الأطفال والنساء في قطاع غزة إثر قصف مبنى سكني بقذيفة تزن ألف كيلوغرام لقتل شخص واحد، إنه لم يشعر سوى باهتزاز خفيف في جناح الطائرة من طراز F16 التي كان يقودها شخصيًا خلال قصف المبنى. وهو وأمثاله من القادة العسكريين الإسرائيليين لا يخجلون من التبجّج المتكرّر بأنهم سيعيدون لبنان وسوريا وفلسطين وسواها من الدول العربية إلى العصور الحجرية في حال وقوفها بوجه الأطماع الصهيونية المدعومة بالنفاق الدولي اللاأخلاقي واللاإنساني. وفي هذا السياق أيضاً كان قصف القرى اللبنانية الآمنة والوادعة بالقنابل العنقودية التي تنشر عند انفجارها مئات القنابل الصغيرة وتغطي مساحات شاسعة لتتفجّر وتقتل المدنيين الأبرياء هنا وهناك. وكذلك هي الحال بالنسبة إلى قنابل الفوسفور الأبيض التي أحرقت أعداداً كبيرة من الفلسطينيين الفقراء المحاصرين في غزة، وبأسلوب التطهير العرقي والتدمير المنهجي لمقومات حياة شعب آمن.
إذا كانت الوصية الأساسية في تعاليم الدين اليهودي «لا تقتل»، فإنّ المعتقدات اليهودية الصهيونية الحاكمة في اسرائيل حاليًا إنما تقوم على انغلاق شوفيني يميني متطرّف وعلى تعصّب عرقي وعنصرية حاقدة وأهداف سياسية في منتهى الخطورة على شعوب المنطقة وسلام العالم في الوقت عينه. وهذه المعتقدات تقوم أيضًا على اعتبار أن البقاء اليهودي عبر العصور هو أشبه بمعجزة لا يمكن تفسيرها إلا على أساس العقيدة الدينية التي تعتبر بأنها قادرة على التعويض عن غياب جميع العوامل الأخرى لحفظ التلاحم القومي اليهودي. وفي هذا السياق يقول المفكر الصهيوني أحادها عام: «لقد كنّا يهودًا لمدة ثلاثة آلاف سنة لأنه لم يكن بوسعنا أن نكون شيئًا آخر، ولأن قوة جبارة تربطنا بالديانة اليهودية وتفرض نفسها على قلوبنا، ولأن الديانة اليهودية تعيش فينا جنبًا إلى جنب مع جميع الغرائز الطبيعية التي تنمو في الإنسان منذ لحظة ولادته،  ويضيف: «إن الحق التاريخي الذي يخوّل اليهود الاستيلاء على أرض فلسطين يستمدّ مقوماته الجوهرية من الديانة اليهودية». إلا أن مثل هذه النظرية تتغافل عن أن اليهود لا يشكلون أمة واحدة، ولا يكونون مجموعة قومية أو عرقية كما ولا توجد هناك تركيبة إثنية يهودية ولا جنس يهودي متميز، وإنما مجموعة متناثرة من عناصر بشرية تنتمي إلى أجناس أوروبية أو أميركية أو آسيوية أو أفريقية الخ. وهم ليست لهم لغة واحدة بل يتكلمون كل لغات الشعوب التي يعيشون بينها.
وقد شكّلت عصور التيه والشتات والنبذ جذور الإنعزالية والتعصّب العنصري اليهودي الصهيوني، وجذور الشك بكل الأمم مما أفضى إلى وجود الشعب اليهودي «المختار» والشعوب الضالّة والكافرة والسيئة من الأغيار «غوييم». وقد جاء في كتاب التلمود الذي هو تفسير للتوراة على طريقة حاخامات إسرائيل: «كتب على شعوب الأرض أن لحومكم من لحوم الحمير وزرعكم من زرع الحيوانات ولهذا السبب فالمباركون أولاد الحق هم اليهود وأروحتهم التي تضمّخت على جبل سيناء تبعد عنهم كل قذارة». وجاء في التلمود أيضًا: إذا وقع وثني (أي غير يهودي) في حفرة فاسددها عليه بحجر كبير. ومحرّم على اليهودي أن تأخذه شفقة على وثني، بل عندما تراه قد تدهور في نهر أو زلّت قدمه فكاد أن يموت، فاجهز عليه ولا تخلّصه. اقتل الجاحد بيدك إذا استطعت ومن يسفك دم الكفار بيده فإنما يقدم قرباناً لمرضاة الخالق.
على هذه الأسس إنبنى فكر القادة الصهاينة بمختلف ألوانهم الثقافية والسياسية، والدينية، وانطلاقًا من هذه الأسس لا تبدي اسرائيل وقادتها أي استعداد للتعاطي مع العرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا، إلا بمقدار ما يبدون من استعداد للتخلي عن حقوقهم الوطنية الشرعية والقانونية، ويرضون بالعيش في ذلّة وقلة داخل الكيان أو خارجه. وفي ظلّ هذا التوجه ارتكب القادة الصهاينة ولايزالون يرتكبون يوميًا، المزيد من جرائم القتل المتعمّد وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الأمر الذي استلزم المطالبة بمحاكمتهم أمام محكمة الجنايات الدولية، خصوصًا وأن بعض جنود العدو أنفسهم قد شهدوا علنًا على ارتكاب مثل هذه الجرائم في فلسطين ولبنان والمياه الدولية والأجواء الدولية. هذه الجرائم دفعت ببعض المنظمات الحقوقية العالمية إلى المطالبة بتشكيل محاكم خاصة على غرار المحاكم التي حققت في جرائم رواندا أو سيراليون وكمبوديا وصربيا لمطاردة واعتقال ومحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة من أمثال باراك ونتنياهو وليبرمان وأشكنازي وسواهم. وكلنا جميعاً لا نزال نتذكر تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق حول الحرب على غزة برئاسة القاضي اليهودي الصهيوني الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، الذي أثبت ارتكاب الجيش الصهيوني جرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، مما يوفر الأساس لتقديم قادة العدو للمحاكمة أمام محكمة الجنايات الدولية. والجدير بالذكر أن نيكول إبنة غولدستون قد أكّدت في إذاعة العدو أن أباها صهيوني ويحب اسرائيل وأنه خفف من قسوة التقرير الذي لو كان وضعه غيره «لخرج أكثر قسوة بكثير». وهذا صحيح لأن التقرير حاول المساواة بين الضحية والجلاد وتلافى إعطاء الجرائم الإسرائيلية صفة «جرائم ضد الإنسانية».