الاستراتيجية الاميركية الجديدة بين اعادة الانتشار العسكري واعادة التأهل الاعلامي

الاستراتيجية الاميركية الجديدة بين اعادة الانتشار العسكري واعادة التأهل الاعلامي
إعداد: د. فردريك معتوق
استاذ في الجامعة اللبنانية - معهد العلوم الاجتماعية

 مقدمة

ميزة الاستراتيجية أنها تقوم على تقويم شامل للمعطيات القائمة على الأرض، وعلى رؤية مستقبلية لما ينبغي أن تؤول إليه بعد السيطرة عليها سيطرة فاعلة. وهذا تحديداً ما تقوم عليه الاستراتيجية الأميركية التي طوّرت أدواتها طبقاً لتعدُّل المعطيات الميدانية خلال العقود المنصرمة، بحيث أن ما نلمسه اليوم هو تبلور استراتيجية جديدة رسمت لنفسها أهدافاً جديدة بأسلوب جديد وتقنيات وتكتيكات مستجدّة. فما هي معالم هذه الاستراتيجية  الأميركية الجديدة؟

نقرأ مثلاً في مقال حول هذا الشأن في مجلة "الشؤون الخارجية" الشهرية الأميركية، الناطقة شبه الرسمية بالسياسة الأميركية الخارجية (1) أنها باتت تقوم اليوم على المرونة (Suppleness) واللّيونة (Flexibility)  .ويشير اعتماد هذين المبدأين إلى توجّه جديد لم تكن تعتمده الولايات المتحدة قبل عقد من الزمن، لا بل قبل سنتين ونصف السنة تحديداً، حيث أن أحداث 11 أيلول 2001 قد تمخضت فعلاً عن توجّه جديد في الاستراتيجية العالمية الأميركية؟

وسنقوم برصد هذه التحوّلات على المستويين العسكري والإعلامي، كما هي مطروحة على الأرض، من زاوية ارتباطها بالشرق الأوسط تحديداً، والذي يبدو في صميم هذه الاستراتيجية. فالشرق الأوسط برمته يقع حالياً في "عين العاصفة" الأميركية التي هبّت على العالم بعد 11 أيلول 2001 منطلقة من هدفين كبيرين وغامضين في آنٍ هما: القضاء على الإرهاب وتعطيل أسلحة الدمار الشامل. 

 

1­ الترجمة العسكرية

لو تعقّبنا المراحل التي مرّت بها الاستراتيجية العسكرية الأميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي بعد 1945 للاحظنا أنها قامت على تطويق (Containment) وحصر النفوذ السوفياتي في أوروبا والعالم. فاستراتيجيّة السدّ هذه قد تمحورت جوهرياً حول أوروبا الغربية التي راهن الجباران الأميركي والسوفياتي عليها، لغناها الاقتصادي والعلمي ولموقعها الجغرافي الوسيط بين الطرفين.

فطوال مرحلة الحرب الباردة قامت الاستراتيجية الأميركية على تأمين سدّ منيع لمصالحها في العالم عامة وأوروبا خاصة بنشرها سلسلة من القواعد العسكرية الكبيرة تقوم بحماية مجال نفوذها الجيو ـ سياسي. ومن هذا المنطلق قامت الولايات المتحدة، بموافقة من الكونغرس، ببناء وتمويل شبكة واسعة من القواعد العسكرية، ما بين 1945 و 1990 في كلٍّ من إيسلندا وبريطانيا وألمانيا وأسبانيا واليونان وتركيا والمملكة العربية السعودية (3) والمحيط الهندي وتايلاندا واليابان (2) وكوريا الجنوبية .

وتُضاف إلى هذه القواعد الأساطيل الحربية الأميركية (الأسطول السابع في المحيط الهادئ والخامس في المحيط الهندي والسادس في البحر المتوسط) التي شدّت أواصر التطويق الجيو ـ سياسي الذي كان يستهدف الاتحاد السوفياتي كعدو أساسي لمصالح الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والثقافية عبر العالم .

هدف الاستراتيجية الأميركية خلال مرحلة الحرب الباردة كان عملياً حماية أوروبا من خلال ست قواعد عسكرية تقف في المرصاد أمام مخاطر تمدّد الهيمنة السوفياتية والشيوعية، وأيضاً حماية اليابان وكوريا الجنوبية من خلال أربع قواعد عسكرية، كجزء من الآلة الصناعية والاقتصادية الغربية، وأيضاً حماية المملكة العربيّة السعودية، من خلال ثلاث قواعد عسكرية ، كحليف اقتصادي أساسي في الشرق الأوسط.

معالم تلك الاستراتيجية العسكرية كانت واضحة وثابتة، تسمح للولايات المتحدة الأميركية بلعب دور العرّاب الأكبر للنظام الليبرالي بالمفهوم الأميركي للكلمة، بحيث أن استقراراً واسعاً تحقق عبر العالم بفضل هذه المظلة العسكرية التي استفاد منها غير بلد، ومنها لبنان .

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في ظل هذه الاستراتيجية جاء موقع العالم العربي طَرَفياً، بمعنى أنه لم يكن في صلب الهمّ الأميركي سوا في شقه النفطي السعودي. فالصداقة  الاميركية ­ السعودية كانت تعكس، كمّاً ونوعاً، خصوصية العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط الذي لم يثر اهتمامها فيه سوى مخزونه النفطي.

ففي سلّم الأولويّات الاستراتيجية كانت منطقة النفط الشرق أوسطية تأتي بعيداً بعد أوروبا واليابان، حيث كانت أميركا تسعى لحماية طاقات ومقدّرات صناعية واقتصادية وحضارية غربية الجوهر، في حين أنها لم تكن تهدف، في الشرق الأوسط، سوى لحماية مادة خام .

وهذه الاستراتيجية ذات المستويين (Two - step) مرّت من تحت أقدام العالم العربي بسهولة، من دون أن يدرك قادتها أو يطالبوا بتصحيحها جوهرياً، صابّين اهتمامهم على التفاعل السلبي مع "البعبع الإسرائيلي" الذي رسمت له الاستراتيجية الأميركية دور عامل الإلهاء والتعويض لمسار تطوّر المنطقة ككل.

ففي سياق استراتيجيّة سَدّ وتطويق النفوذ الشيوعي والسوفياتي في أوروبا واليابان، بقوة الحضور العسكري البرّي والجوي والبحري، أتت استراتيجيّة متفرعة، تقوم على تلزيم إسرائيل عملية الإلهاء والإعاقة الدائمة للبلدان العربيّة، باستثناء العربيّة السعودية كمحمية أميركية مباشرة. وقد استفادت إسرائيل من عملية التلزيم الإقليمية هذه ، كالمتعهد الصغير الذي يفرح للفوز بعقد لتنفيذ مشروع في بقعة ما من العالم .

لكن الاستراتيجية الأميركية الكبرى التي تمخضت عن هذه الميني _ استراتيجية لم تكن تعني سوا تلزيم شق من المهمة، من دون أن يعني ضمانة فعلية ودائمة لإسرائيل، على عكس ما روّجه بشكل ساذج بعض الإعلام العربي (ولازال يردّده بشكل ببغائي). فحماية الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل مؤمّنة للدولة العبرية، طالما أنها تنفّذ بنود عقد التلزيم الذي أُبرم معها، من دون أن يعني ذلك حماية استراتيجية فعلية لها .

قد يبدو هذا الكلام غريباً، ولكن في سياق هذه الدائرة الاستراتيجية الصغرى، يلعب الفلسطينيون والإسرائيليون معاً دور أحجار الداما التي تحركها الولايات المتحدة لإبقاء النار مشتعلة في المنطقة، إلى حين السيطرة كلياً عليها. ولو كانت السياسة الأميركية تريد فعلاً لإسرائيل مستقبلاً استراتيجياً قابلاً للحياة في المنطقة لكانت أرغمتها منذ زمن بعيد، وبغير أسلوب، على التصالح مع العرب، كما فعلت في جنوب إفريقيا عندما عقدت العزم على رسم مستقبل فعلي لهذه البلاد التي عاشت، بحماية منها، أبشع ألوان التفريق العنصري والعداء المتبادل بين السود والبيض.

أما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن المنصرم، فقد اختارت الولايات المتحدة لنفسها استراتيجية أخرى، دون تعديل خريطة قواعدها العسكرية السابقة لا كمّاً ولا نوعاً، تقوم على نظرية الاستقرار الإقليمي (Regional stability)، بحيث أرادت أن تبقي العالم تحت سيطرتها العسكرية، ولكن من دون استنفار لقواتها ولا استجاشة لمشاعر العداء ضد "العدو" السوفياتي الذي غاب بملء إرادته عن الساحة العالمية. وظل ذلك الوضع قائماً حتى دخلت أميركا، وأدخلت معها العالم، أي مرحلة ما بعد أحداث 11 أيلول 2001 المأساوية.

أما الشرق الأوسط فقد بقي خلال تلك الفترة يعيش في ظل المعادلة الاستراتيجية الأميركية السابقة، مع استمرار لعقد تلزيم الإلهاء العسكري والسياسي الموكَل للدولة العبرية. ففسخ العقد الأمني والسياسي العدائي لم يحصل خلال تلك المرحلة، وذلك بقرار أميركي وليس بقرار إسرائيلي. وبقيت مصالح النفط في العمق العربي محمية، وإضعاف العرب والإسرائيليين الاستراتيجي قائماً، بحيث بتنا اليوم نقرأ مفاعيل هذه الاستراتيجية على الدولة العبرية التي يهاجر الناس منها أكثر مما يفدون إليها، ويحتجّ الروس علناً وينهار الاقتصاد المحلّي. فهل أن كلّ ذلك في مصلحة الإسرائيليين الاستراتيجية، أم لغير مصلحتهم وهم بالتالي مجرد دمى في اللعبة ككل؟

التعديل الحقيقي الذي طرأ على الاستراتيجية الأميركية لم يحصل إبّان سقوط الجبّار السوفياتي . فمرحلة التسعينات شكّلت ما يسمّيه رجال الاقتصاد مرحلة “جني الأرباح” بالنسبة للأميركيين الذين سعوا إذ ذاك للمحافظة على الاستقرار الإقليمي العام كما ذكرنا. حصل التعديل الحقيقي للاستراتيجية الأميركية بعد أحداث 11 أيلول 2001

فبناءً على اقتراح الجنرال جايمس جونز، قائد القوات الأميركية في أوروبا، اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة تقضي بإنشاء سلسلة قواعد عسكرية صغيرة، لحالات الطوارئ، تسمح بالتواجد السريع للقوات المسلحة الأميركية حيث تشهد المصالح الأميركية اعتداءً عليها. فهذه القواعد العديدة والصغيرة الحجم من شأنها أن ترتبط بالقواعد الأميركية السابقة الموجودة، على المستوى اللوجستي، غير أن ميزتها هي التدخّل السريع والنوعي المناسب حيث تدعو الحاجة . علاوة على أن قاعدة تحرك هذه القواعد الجديدة، كما حدّدها الجنرال الذي اقترح إنشاءها، هي المرونة واللدونة، بحيث أنها تتعامل بشكل مناسب مع الحالة الأمنية الطارئة المطروحة في محيطها المباشر.

اعتُمِدَتْ فكرة الجنرال جونز، وسرعان ما “فرّخت”، بعد 11 أيلول 2001, 12 قاعدة عسكرية أميركية جديدة عبر العالم، في البلدان الآتية: المجر، بلغاريا، رومانيا، جورجيا، أوزبكستان، كيرخزستان، أفغانستان، باكستان، قطر، دجيبوتي، الفيليبين والعراق. (2)

وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى سلسلة عمليات عسكرية واكبت عملية الترسيم الجديدة للاستراتيجية الأميركية لمرحلة ما بعد 11 أيلول 2001, يمكن تلخيصها كما يلي:

        ­       إعادة انتشار القوات العسكرية الأميركية في جنوب كوريا الجنوبية، بعدما كانت متمركزة منذ الستينات على خط التماس الحدودي مع كوريا الشمالية، مما يعني إظهار نيّة واضحة في تبريد هذه الجبهة على الرغم من التهويل الإعلامي المعاكس.

        ­       الإبقاء على قواعدها الجوية والبحرية الموجودة في اليابان، مع سحب عدد من جنودها الموجودين في قاعدة “أوكيناوا” باتجاه قاعدة “دييغوغارسيا”، في المحيط الهندي، بحيث يصبحون أقرب من الشرق الأوسط.

        ­       الانسحاب شبه الكامل من العربيّة السعودية وإعادة الانتشار في قطر وداخل العراق.

 

عِبرَ ما قبل وما بعد

الملاحظة الأولى هي أننا أمام كمّ هائل من العمليات التي تحققت مباشرة على الأرض، وليس أمام إعلان للنيّات أو خُطب من دون أفعال (كالتي يعجّ بها العالم العربي على نحو خاص) والعالم الثالث على نحو عام. فالأميركيون الذين كانوا قد أسسوا قواعدهم العسكرية السابقة على مدى عقد كامل من الزمن (1945 ­ 1954( وعددها 15 قاعدة، أنشأوا، في أقل من سنتين عملياً (2001 ­ 2002) ما لا يقلّ عن 12 قاعدة عسكرية جديدة. وإن حذفنا القواعد العسكرية السابقة في العربيّة السعودية والتي هاجرت إلى العراق وقطر، يصبح أن عدد القواعد العسكرية المرتبطة بمرحلة الحرب الباردة (والتي دامت 45 سنة ) يوازي حالياً تلك التي أُنشِئَتْ بعد أحداث 11 أيلول” (1)(أي منذ سنتين ونيف فقط).

ماذا يعني ذلك؟

يعني أولاً أن ما حدث في 11 أيلول 2001 قد هزّ الولايات الأميركية في العمق، بل ويشير بوضوح إلى أن ما حدث يشكّل خطراً مصيرياً ، من المنظور الأميركي، ينبغي التعامل معه بشكل استراتيجي. وهل أوضح من إنشاء القواعد العسكرية الجديدة التي أتينا على ذكرها كإشارة ملموسة لمدى جدّية الطابع الاستراتيجي للتخوف الأميركي العميق الناشئ عن أول اعتداء مباشر في عقر دار الولايات المتحدة الأميركية؟ فلا مجال للتأويل أو لتغليب التعجّب أو التحفّظ، ذلك أن ما ينبغي التعامل معه هو ظاهرة سياسية ـ عسكرية ملموسة، موجودة بكل ثقلها على الأرض وعلى الخريطة الجيو ـ سياسية العالمية، إذ أن أميركا قد زادت بنسبة 100% قدراتها العسكرية عبر العالم خلال العامين الأخيرين بعدما ضاعفت عدد قواعدها العسكرية الجوية والبحرية على حدّ سواء.

أما الملاحظة الثانية فهي تتعلّق بالإطار الجيو ـ سياسي لعملية المضاعفة هذه، حيث نلاحظ هنا أن محوراً استراتيجياً جديداً قد قام وهو الشرق الأوسط. وكانت عمليات تدخّل قوات حلف الأطلسي والقوات الأميركية في البوسنة وكوسوفو، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، قد شكّلت نوعاً من "بروفا" لما يجري، إذ أن استراتيجية ما بعد 11 أيلول 2001 كانت جاهزة وقائمة قبل هذا التاريخ على ما يبدو، لكنها كانت موضوعة على نار خفيفة، فجاءت أحداث 11 أيلول لتنقلها إلى نار حامية.

خلال مرحلة الحرب الباردة كانت أوروبا محور الاهتمام العسكري الأول. أما اليوم فقد غدت، بالنسبة للولايات المتحدة محور الاهتمام الاقتصادي الأول، وحلّ مكانها، في أولوية الاهتمام العسكري، الشرق الأوسط. فالقواعد العسكرية المستحدثة بعد 11 أيلول تحيط معظمها بالشرق الأوسط: من البلقان (المجر، بلغاريا، رومانيا) إلى تخوم تركيا (جورجيا) وتخوم إيران (أوزبكستان، كيرخزستان) وباكستان والجزيرة العربيّة (قطر ودجيبوتي).

فعملية إعادة الانتشار العسكرية التي رافقت القواعد العسكرية الأميركية عبر العالم، ترافقت مع إعادة تعريف للأولويات في الاستراتيجية الأميركية . وهذا ما يفسّر إمساك الأميركيين بالوضع في العراق وبقواهم العسكرية الذاتية، ويُبطل الفكرة الشائعة سابقاً والقائلة بأن الولايات المتحدة كانت قد أوكلت لإسرائيل أمن المنطقة.

لم يعد نفط العربيّة السعودية هو الذي يهم، دون سواه، الولايات المتحدة، بل المخزون الاستراتيجي للمنطقة ككل، الموجود بشكل أساسي في العراق. ومن هنا فإن تطويق منطقة الشرق الأوسط اليوم بالقواعد العسكرية يشبه تطويق المعسكر الاشتراكي إبان الحرب الباردة. وفي إشارة إلى عمق التبدّل الذي حصل، نلاحظ أن بعض بلدان الكتلة السوفياتية السابقة قد دخلت طوعاً في هذه العملية الجديدة (رومانيا، بلغاريا، المجر، جورجيا، أوزبكستان، كيرخزستان)، الأمر الذي يدلّ إلى عمق وسرعة التحوّل الذي حصل.

فالولايات المتحدة لم تطوّع فقط الشرق الأوسط بهذه الاستراتيجية العسكرية الجديدة، بل أيضاً بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، التي وجدت نفسها متورطة في إعادة توظيف استراتيجية حسمت بشكل نهائي انتماءاتها السياسية والأيديولوجية السابقة. لقد أصابت أميركا بذلك عصفورين بحجر واحد.

فتطويق العالم العربي وإيران هذا، قد تزامن مع عملية مزدوجة : من خارج المنطقة، كما سبق وأشرنا إليه، ومن داخلها، عبر البوابة العراقية، بحيث أن الإمساك بالشرق الأوسط بات يبدو محكماً على المستوى العسكري. وقد قيل في هذا السياق إن الولايات المتحدة تريد من خلال هذه العملية السيطرة على المخزون الاستراتيجي للنفط العراقي (والذي يُعدّ من الأكبر في العالم) وعلى النفط السعودي ولكن بأساليب ضغط مختلفة تفرض الولايات المتحدة كمحدّد أساسي لأسعار النفط في العالم من الآن فصاعداً.

فهذه الرسالة الجديدة وشديدة اللهجة بدأت تُفهم بشكل جيّد في المنطقة، حيث نلاحظ تعاملاً جدياً معها من قِبَل إيران وليبيا أيضاً. ويبدو أن سبحة التسليم بالواقع الاستراتيجي الأميركي الجديد ستطال مختلف البلدان في القريب العاجل.

وجديد الاستراتيجية العسكرية الأميركية الذي قام على التطويق والاختراق في آنٍ واحد، يشير إلى عمق المعرفة التي تتحلّى بها اليوم الولايات المتحدة، في العلوم الاستراتيجية كما يشير إلى نيّة أميركية في الانتهاء من خطاب "الهوبرة" العربيّة الذي يسود العالم العربي منذ خمسة عقود من الزمن.

فبعملية الاختراق العراقية المباشرة ، المدعومة من عملية إعادة الانتشار العسكرية عبر العالم، ومع مضاعفة قواتها على نحو خاص حول الشرق الأوسط، أسقطت الولايات المتحدة هيبة الأنظمة القائمة في المنطقة.

أما ادعاء الخطاب الأميركي بأن هذه العملية (الكامنة قبل 11 أيلول 2001 والمكشوفة اليوم) تهدف إلى نشر الديموقراطية في المنطقة فيعود إلى سكان المنطقة أنفسهم. فبقدر ما سيتعاملون مع أنفسهم بشكل ديموقراطي (كما حصل لليابان بعد احتلال الأميركيين لها بعد 1945) ستتحقق الديموقراطية عندهم، بخاصة في العراق. أما إن فضّلوا السيناريو الأفغاني (لا لطالبان ولا للأميركيين) فستبقى الحيرة القاتلة ضاغطة على مستقبلهم. فسيناريو “لا صدّام ولا الأميركيون” سيناريو غير موضوعي، عشائري وعصبي، يقوم على غرائز الرفض العشوائية التي أوصلت العالم العربي سياسياً إلى ما هو عليه.

علماً أن هذا السيناريو هو أكثر ما يفرح قلب صقور الدولة العبرية الذين لا يريدون الاستقرار في المنطقة من ناحية، ولا يريدون أن ينافسهم أحد، لا حالياً ولا مستقبلاً، في القرب من الولايات المتحدة من ناحية ثانية.

فخيار الديموقراطية ، في أوروبا ما بعد هتلر، لم يكن خياراً أميركياً بقدر ما كان خياراً ألمانياً وفرنسياً وإيطالياً وإسبانياً وبريطانياً. هم الذين وجدوا لأنفسهم مصلحة فيه وتعاملوا معه بشكل جدّي وإرادي. وما من شك أن ما سهّل هذه العملية في أوروبا آنذاك تجذّر الديموقراطية في بلدان أوروبا الغربية منذ زمن الثورة الفرنسية . أما في العالم العربي فالمناخ الذهني سلبي ويقوم على الاكتفاء بسياسة أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب . مع العلم إن هذا الاستعداد الذهني، السلبي، لم يتمخّض حتّى اليوم سوى عن وضعيّة عامة يختصرها مثل شعبي آخر يقول “لا مع جدّه بخير ، ولا مع جدّته بخير”.

من هنا فإن ما سيحدث في العراق في السنوات القادمة سيشير إلى نيّة التحوّل الموجودة في العراق والمنطقة، أو إلى نيّة التصلّب العصبي الموروثة عن البُنى الاجتماعية والذهنية القديمة والتي ستعرقل، بمؤازرة إسرائيلية متعددة الأشكال ، انتصار الديموقراطية على ذهنية العصبيّات المتجذّرة في المنطقة منذ الأزمنة الغابرة، تماماً كما كانت متجذّرة في اليابان قبلذاك. لكن تعامل اليابانيين مع مستقبلهم على قواعد جديدة وقبولهم بسنّ دستور جديد لبلادهم عام 1956, سمح لهم بالتعامل الإيجابي والخلاق مع المعطيات الاستراتيجية العالمية الجديدة.

هذا الرهان الصعب الذي يتطلب تضحيات جمّة هو بين أيدي العراقيين أنفسهم وبين أيدي الأميركيين، الأوصياء على شؤونهم في الوقت الراهن، بحيث أن الديموقراطية لن تحلّ في ربوع العراق طالما أن العراقيين لم يحسموا أمرها في ما بينهم. فأمامهم سيناريوان: سيناريو اليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية (والذي لم تكن حالها أفضل من حال العراق اليوم، مع هزيمة عسكرية عظيمة خلّفت تدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي ، واقتصاد منهار وتسريح ثلاثة ملايين جندي في اليابان والبلدان التي كانت قد احتلتها قواتها، بين ليلة وضحاها، وتنحّي الإمبراطور عن قيادة البلاد سياسياً ، وبطالة وفقر عارمين) أو سيناريو أفغانستان.

يتطلب السيناريو الأول قدراً كبيراً من ضبط النفس وكبح الغرائز والعصبيّات، فهذا هو ما أنقذ الإنسان الياباني وأدخله في عصر الحداثة. أما السيناريو الثاني فأسهل وفي متناول اليد، إذ أنه لا يتطلب سوا البقاء على حال التشرذم والتفتت المذهبي والاثني الموجودة منذ قرون في العراق كما في أفغانستان.

في أفغانستان لا يسعى الأميركيون للولوج بالوضع العام سوا إلى حالة من الاستقرار تؤمن مصالحهم ومصالح خط أنابيب النفط المزمع إنشاؤه في البلاد. أما في العراق فإن البلاد كانت وستغدو مستقبلاً أكبر مصدّر للنفط في العالم. لذا فإن تعامل الاستراتيجية الأميركية مع هذه البلاد، في ما يتعلق بإرساء أسس النظام الديموقراطي فيها، أكثر موضوعيّة. ذلك أن للأميركيين مصلحة استراتيجية في كسب هذه البلاد اقتصادياً وسياسياً على حدّ سواء، للإفادة طويلة الأمد من خيراتها النفطية في إطار من الاستقرار الأمني والاجتماعي ومن الهدوء السياسي؛ كما ان للأميركيين مصلحة في إنجاح التجربة الديموقراطية في العراق بغية الضغط سياسياً، من داخل العالم العربي نفسه، على العربية السعودية وسوريا من ناحية وإيران من ناحية ثانية، بهذا الاتجاه.

فإن فهمت القيادات العراقية الجديدة هذه المسألة وتعاملت معها بشكل إيجابي، فسوف تنجح التجربة الديموقراطية في البلاد وتُفتح صفحة جديدة. أما إن مانعت، فيعني ذلك أنها لم تدرك مصلحتها الاستراتيجية، وأنها ستبقى تراوح مكانها داخل دائرة السيناريو الأفغاني. وهذا ما سيفرح أرباب العصبيّات في العراق، ناهيك عن الفوائد الاستراتيجية الجمّة التي ستجنيها إسرائيل من جرّاء عملية التعويق هذه، وهي الدولة التي تجد لنفسها مصلحة في تأخر وتشرذم العالم العربي، كي تستأثر، ولو شكلياً، بأنها “الديموقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط” .

أما لو عدنا إلى الدولة العبرية، فهناك سؤال يتبادر مباشرة إلى الذهن: ما موقعها حالياً في هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة؟

مما لاشك فيه أن إسرائيل خسرت من أهميتها في الاستراتيجية الجديدة. ذلك أن التلزيم السابق المعطى لها قد سُحِبَ منها ولم يُترك لها منه سوا حرّية الحركة داخل أراضي 48 والضفة. الأمر الذي تستغلّه (قبل موعد توقّفه) بوحشية لافتة. فإسرائيل، في سياق الاستراتيجية الأميركية الجديدة، قد عادت إلى حجمها، وإلى دورها القامع للفلسطينيين، داخل حدود ضيقة. علماً أن هذا الدور الثانوي، مقارنة مع ما يجري في المنطقة ككل، لا يعدو كونه إضعافاً مستمراً وثابتاً للإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء، إلى أن يحين موعد فرض السلام عليهما معاً، بحسب مقتضيات وتوقيت المصالح الاستراتيجية الأميركية.

فإسرائيل، “المحصورة في قنينة” اليوم، على المستوى الجيو ـ سياسي، لا تستطيع أن تصبّ غضبها على عرّابها الأميركي، لذلك تقسو ببربرية على الفلسطينيين، آملة في أن تتعدّل الخطة الاستراتيجية العامة. لكن الولايات المتحدة، ومهما كانت قوّة اللوبي الصهيوني فيها، تمسك أميركياً بالمنطقة ولا تسمح لملتزم ثانوي لسياساتها في المنطقة بتخطي قرارها الاستراتيجي العام.

من هنا فإن العدّ العكسي قد بدأ بالنسبة لإسرائيل التي تحجّم دورها الإقليمي ووهن وضعها الداخلي (اقتصادياً واجتماعياً) وبهتت صورتها الإعلامية وتراجعت أهميتها الجيو ـ سياسية بعد دخول الأميركيين أنفسهم على خط السيطرة العسكرية على المنطقة، من الخارج والداخل.

 

مرونة ولدونة

يتبيّن لنا أيضاً أن شعاري المرونة واللدونة اللذين رفعتهما الاستراتيجية الأميركية الجديدة هما فعلاً قيد التطبيق .

فعملية تمفصل القواعد العسكرية الكبيرة (في ألمانيا وإيطاليا وتركيا مثلاً) مع القواعد العسكرية المستحدثة بعد 11 أيلول 2001) (في المجر ورومانيا ودجيبوتي مثلاً) الأصغر حجماً، تندرج في سياق هذا المبدأ الذي يعتمد على تنسيق قوتين من حجمين مختلفين في آن معاً. فالصغير أسرع من الكبير ، ميدانياً، لكن الكبير أطول نَفَساً وأكبر طاقة .

لذلك لابدّ من الإشارة إلى الإبداع الاستراتيجي الأميركي الذي يتعامل بشكل عقلاني ومنطقي مع كلّ مرحلة جيو ـ سياسية طبقاً لمعطياتها الميدانية والتي لا تتطابق بالضرورة مع معطيات المرحلة التي سبقتها. فالعدو المتربص خلف جبهات محدّدة، في زمن الحرب الباردة، دفع بالاستراتيجيين الأميركيين إلى اعتماد استراتيجية ثابتة، بقواعد عسكرية ضخمة عند خطوط التماس الجيو ـ سياسية مع الاتحاد السوفياتي القائم آنذاك.

أما اليوم ، فإن اختلاف العدو وعدم انحصاره في بقعة جغرافية محددة وثابتة، دفع بالاستراتيجيين الأميركيين، الراغبين في القضاء على الحركات الإسلامية المسلحة، المنعوتة بالإرهاب، إلى اعتماد إعادة انتشار عسكرية تعتمد سرعة التدخل ومحاصرة الشرق الأوسط، مصدر هذا “السارس السياسي” المزعوم. من هنا تنسيق الطاقات العملانية الخاصة بالقواعد العسكرية الكبرى، القديمة، مع القواعد العسكرية الجديدة والأصغر حجماً، التي تسمح بحركة متنوعة ومن زوايا جغرافية مختلفة .

فالمرونة ، مرونة التفكير والحركة، ليست مجرد مبدأ كلامي على ألسنة الاستراتيجيين الأميركيين الحاليين. أنها ولا شك جزء من العبقرية العسكرية الأميركية التي إنما نشأت في الأساس في خضم حرب الانفصال الأميركية (1861­ 1865) التي شهدت مواجهة فكرية وعسكرية بين النظام السياسي القائم في ولايات الشمال والنظام السياسي المعتمد في ولايات الجنوب، على أساس اختلاف جوهري في ما يتعلق بالعبوديّة. فالقوات الانفصالية ، في الجنوب، كانت قد اعتُبرت إذ ذاك قوات إرهابية،  دفعتها وقاحتها في إحدى المرّات إلى بلوغ محيط العاصمة واشنطن، فاعتمدت بعدها قوات الشمال تنسيق عملياتها العسكرية الكبرى مع عمليات اختراق صغيرة، في قلب المنطقة التي كانت تسيطر عليها قوات الجنوب.

فالمبدأ الاستراتيجي هو نفسه، لكن تطبيقه على أرض الواقع يأتي في سياق متجدّد اليوم، ذلك أنه يقع، بالكامل، خارج الولايات المتحدة وفي إطار عالمي شديد التعقيد. إلاّ أن أوجه الشبه الداخلية بين الماضي والحاضر لا تخلو من دلالة، بسبب تواصل العلوم الاستراتيجية عبر العالم أجمع. فالكليات الحربية تعلّم طلابها، أينما كان، الاستراتيجيات الحربية التي ابتدعها اليونان القدامى والقرطاجيون والصينيون والرومان والعرب والفرس والهنود والأوروبيون، الخ. ومبادئ الماضي قد تصلح، معدّلةً، اليوم، وإن تبدّلت ساحتها.

أما اعتماد مبدأ اللدونة فهو يندرج أيضاً في سياق العبقرية الاستراتيجية الأميركية التي وجدت نفسها ملزمة، في حربها على أسلحة الدمار الشامل مثلاً، على تحييد كوريا الشمالية مؤقتاً، بسحبها قواتها العسكرية من خطوط التماس معها، بغية التفرّغ للمهمة الأكبر، المتمثلة في النفط والإرهاب.

ففي الشرق الأوسط لم يعد اليوم هاجس المحافظة على منابع النفط وخيراتها الاقتصادية على رأس الأولويات، بل أيضاً وبشكل متزامن، خطر ما يُسمّى بالإسلام الحركي الذي يعمل على الحلول مكان الفكر الشيوعي والاشتراكي واليساري السابق. فالهدف إذاً هدفان: أحدهما اقتصادي والآخر أيديولوجي، ولابدّ بالتالي في هذا المضمار من لدونة مستمرة تسمح بمعالجة هذا الشأن بالتزامن مع الشأن الآخر، وبالعكس.

إن كلمة إرهاب بالطبع ليست مناسبة، لكن ما تنمّ عنه من مخاوف سياسية وعسكرية استراتيجية ليس مبالغاً به. فالفكر الحركي الإسلامي يحاول اليوم، كما فعلته العقيدة الشيوعية مطلع القرن العشرين، السيطرة على أنظمة سياسية قائمة بغية تحقيق أيديولوجيته. وقد نجح الأمر في إيران، إنما سُعي إليه في الجزائر وأفغانستان وباكستان دون نجاح. بالتالي فإن المسألة ليست هاجساً فارغاً أو وهماً، بل أنها تتعلق بمشروع طوباوي تدرك الولايات المتحدة نفسها موضوعيّته في النفوس، وهي التي راهنت سياسياً وعسكرياً عليه في أفغانستان في حربها السابقة ضد الاتحاد السوفياتي.

فالاستراتيجيون الأميركيون يدركون اليوم أن هذا الكيان العصبي الهائل الذين استخدموه ضد الآخرين، قد انقلب اليوم على الولايات المتحدة ويهدّد مصالحها الآنية والمستقبلية. لذا فإن أهميته الميدانية ليست موضع تشكيك، لعلم الأميركيين بمقدار الطاقة الكامنة في هذا الإسلام الحركي.

ففي إطار “النفط والإرهاب” ، كمعادلة استراتيجية جديدة، لم تعد العلوم العسكرية وحدها المفيدة، بل إن سلسلة علوم أخرى غدت مطلوبة، تؤمنها مراكز الأبحاث الأميركية التي تعمل على معاضدة أرباب الاستراتيجية العسكرية الأميركية بتحاليل ثاقبة ومناسبة حول خصوصيات هذا العدو الجديد. وتنسيق المعارف النفطية مع المعارف الحركيّة الإسلامية بات اليوم أبرز ما تطلبه الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي وجدت نفسها، بعد 11 أيلول 2001, أمام معادلة جديدة وغير متوقّعة فرضت تعاملاً جديداً مع معطيات جيو ـ سياسية جديدة.

وبما أن قلب هذه المعادلة الجديدة ، معادلة النفط والإرهاب، يقع في الشرق الأوسط، عمدت الاستراتيجية الأميركية الجديدة إلى تطويقه، كما عمدت إلى التعامل معه بشكل خلاّق.

 

2­ الترجمة الإعلامية

في سياق المرونة واللدونة المعتمدتين راهناً، تبيّن للأميركيين أن ثمة حاجة لتفعيل الحضور الإعلامي المباشر في المنطقة. فتطويق الشرق الأوسط، كما سبق وأشرنا، عملية تحصل من الخارج والداخل على حد سواء: من خارج الشرق الأوسط ومن داخله ؛ من داخل العلوم العسكرية ومن خارجها.

وبما أن الشق الأيديولوجي مهم في هذه المواجهة، فقد عملت الاستراتيجية الأميركية (التي يُنتج جزء منها في الكونغرس الأميركي) على إعادة تأهيل صورة الولايات المتحدة في العالم العربي تحديداً من خلال إعادة تأهيل إعلامية بنيوية قضت، بعد 11 أيلول 2001, بإنشاء محطة إذاعية جديدة ومجلة جديدة ومحطة تلفزيونية جديدة، تحمل كلها صورة النسر الأميركي على جبينها. علماً أن هدف هذه الوسائط الإعلامية الجديدة هو بث الثقافة الأميركية في عمق النسيج الاجتماعي العربي، وبخاصة الشبابي، باللغة العربيّة وليس بالإنكليزية.

 

راديو سوَا

كان الرئيس جورج بوش قد وافق على 2002 على إنشاء محطة إذاعية أميركية، ناطقة باللغة العربيّة، بإدارة مالية وإدارية وسياسية أميركية. فباشرت هذه الإذاعة بثها في آذار 2002, متوجهة نحو الشباب العربي، ببرامج موسيقية وغنائية كثيفة تتخلّلها بعض البرامج السياسية.

وقد حلّت عملياً “راديو سَوا” مكان إذاعة “صوت أميركا” السابقة، التي كانت قد أُنشِئَتْ عام 1942 لمواجهة حضور الاتحاد السوفياتي في العالم، بخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإنشاء المعسكر الاشتراكي. فصوت أميركا السابقة كانت إذاعة سياسية أميركية، ناطقة باللغة العربيّة، تناصر الأنظمة الملكية القائمة في العالم العربي وتنشر وجهة نظر السياسة الأميركية في شؤون العالم بأسره.

لكن هذه الإذاعة قد خسرت بريقها الأيديولوجي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، الأمر الذي أدّى إلى تراجع عدد مستمعيها بشكل لافت. وقد دعت المعطيات الجديدة الولايات المتحدة إلى مراجعة حضورها الإعلامي في هذه المنطقة من العالم والتفكير بإذاعة جديدة، في ظل تنامي العداء لها في الأوساط الشبابية التي إنما تراهن عليها الثقافة الأميركية على المستويين السياسي والاقتصادي. فانتشار الثقافة الأميركية في العالم العربي من شأنه أن يزيد من الاستهلاك الاقتصادي للسلع الأميركية في المنطقة، كما أنه سيسمح حتماً بمحاربة ذهنية معاداة أميركا السائدة على المستوى الشعبي، على المدى الطويل.

من هنا جاءت موافقة الكونغرس الأميركي لتكرّس هذا القرار الاستراتيجي الأميركي، بالتصويت الإيجابي على ميزانية سنوية قدرها 35 مليون دولار لمحطة "راديو سوَا"، اعتباراً من سنة 2002.

فهذه الإذاعة التي تبث 24 ساعة على 24, تعمل على التغلغل في ثنايا تشكيلة التصوّرات الخاصة بشباب العالم العربي. فمذيعوها هم كلهم من الشباب، وكذلك معدّو برامجها (علماً أن قسماً لا بأس به من العاملين فيها هم من اللبنانيين، أصحاب المهارة في الحقل الإعلامي الحديث، ماضياً وحاضراً).

وتشير مبادرة الولايات المتحدة هذه إلى حيويّة الرصد الأميركي للمنطقة. فلو قارنا مثلاً ما حدث لإذاعة “صوت أميركا” مع ما حدث لإذاعة"مونتي كارلو" الفرنسية، نلاحظ أن حضور هاتين الإذاعتين، السياسيتين، قد بهت وتضاءل خلال التسعينات من العقد المنصرم،  وهو عقد انتهاء الحرب الباردة. فإذاعة صوت أميركا التي كانت تقدّم صورة "حربجيّة" للولايات المتحدة لم تعد مقبولة ومطلوبة في العالم العربي اليوم. وكذلك صورة راديو"مونتي كارلو" السياسية.

إلا أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة قد عملت فوراً على مراجعة مسارها في هذا المضمار وتمخضت عن إنشاء إذاعة شبابيّة جديدة، أظهرت الحضور الأميركي في حلّة جديدة، بينما لم تستبدل فرنسا طقمها السابق بآخر جديد وأشدّ جاذبيّة. ففرنسا لم تقم بمراجعة مماثلة لحضورها كما فعلت الولايات المتحدة على الرغم من إصابة إذاعتها بالداء نفسه الذي أُصيبت به “صوت أميركا”. وهذا ما يشير دون أي شك إلى حيويّة المتابعة الاستراتيجية الأميركية للعالم العربي.

فالرصد الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، محطّ طموحاته الاقتصادية، والعالم العربي خصوصاً ، محطّ همومه السياسية المستجدّة، رصد علمي. ولذلك فهو رصد يمهّد لرهان رابح. ولمن فاته الاطلاع على الوضع السكاني في العالم العربي المعاصر نذكر بأن ثلثي العرب اليوم هم دون الثلاثين سنة. لذلك تحديداً تخاطب وسائل الإعلام الأميركية الجديدة العالم العربي من نافذة شبابه، الذين يشكلون السواد الأعظم من سكانه.

فإطلاق المشاريع الإعلامية الأميركية يقوم على معرفة حثيثة لما هو قائم على الأرض. والتعامل يأتي هنا وظيفياً، لا استنسابياً. وهنا قوّة هذا المشروع الإعلامي الأميركي الجديد وسواه من المشاريع الإعلامية على السواء. فالرهان السياسي المستقبلي مبني على رصد موضوعي للواقع ولما هو مطلوب على مستوى هذا الواقع، ولا يقوم الرهان على تصوّر عام للأمور .

يُضاف إلى ذلك أن الرهان الأميركي المستقبلي يعمل على المشاركة في تعديل معالم هذا التصوّر كما هي مرسومة ميدانياً (العداء العام لأميركا من منطلق سياستها المنحازة لإسرائيل ).فإذاعة راديو سوَا” تضع قسماً لا بأس به من شباب العالم العربي على موجة وجهة النظر الأميركية بأسلوب محبَّب (الموسيقى والغناء) ، لا بأسلوب بالي وغير مناسب (التحليل الإخباري أو التعليق السياسي).

فالمقاربة اختلفت وكذلك جمهورها. لم تعد الإذاعة الأميركية تتوجه إلى الراشدين والمسنّين، كما في زمن “صوت أميركا”، بل أضحت تتوجه اليوم إلى جمهور شبابي يحمل أذواقاً ثقافية جديدة ولا تشغله الهموم السياسية الكبرى كثيراً، من منطلق شيوع ثقافة الفردانية التي نشأ عليها في المدرسة والأسرة والمجتمع. وتشير هنا الإحصاءات (4) إلى ازدياد مطرد لعدد مستمعي راديو سوَا في العالم العربي، منذ آذار 2002 الأمر الذي يعكس نجاح الخطوة على الأرض.

 

مجلة  Hi

انطلقت هذه المجلة الأميركية، الناطقة باللغة العربيّة، في تموز 2003, أي بعد سنة ونصف تقريباً من انطلاق "راديو سوَا". ومثل زميلتها الإذاعية، تتوجّه هذه المجلة المخصصة للمنوّعات، إلى الجمهور الشبابي العربي.

وقد أُنشِئَتْ بقرار من الكونغرس الأميركي الذي خصص لها ميزانية سنوية قدرها 4 ملايين دولار أميركي.

تُطبع هذه المجلّة، بالكامل، على ورق لمّاع، وهي لافتة بإخراجها. يُنشر من كلّ عدد من أعدادها 50,000 نسخة على الأقل، سرعان ما تتلقفها الأوساط الشبابية الشغوفة بالموسيقى الحديثة في معظم البلدان العربيّة.

تعتبر هذه المجلة أنها “نافذة على الثقافة الأميركية” ، في حين أنها، فعلياً ، نافذة على الثقافة العربيّة. فعمّ تتكلّم هذه المجلّة ؟

أنها تتكلّم عن المطربين والمطربات الأميركيين والعرب الشباب، وعن مشكلات السمنة والتسجيل في الجامعات الأميركية (العدد الأول)، متجنبة عن قصد التطرق إلى الموضوعات السياسية الشائكة (كفلسطين والعراق)، أي أنها تتجنّب لفت الانتباه إلى المسائل الخلافية التي لا إجماع عليها، لا بين العرب والأميركيين ولا بين الأميركيين أنفسهم.

أما كشبّاك شكلي للحوار، فتعرض المجلة في إحدى زواياها فسحة أمام تبادل الآراء. فنقرأ مثلاً عدداً من آراء الشباب العربي بالأميركيين، وعدداً من آراء الشباب الأميركي بالعرب. وتشدّد المجلة، في هذا الصدد ، أن هدفها هو بناء جسر بين الشباب العربي والشباب الأميركي.

 

غير أن الواقع، على مستوى هذه المجلة كما على مستوى جميع الوسائط الإعلامية التي"تعكِّز" عليها السياسة الأميركية عبر العالم، هو أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة لا تسعى إلى بناء جسور مع أحد، في موقف أحادي الاتجاه لا يقبل التفاوض أو المناقشة. والأمثلة على منطق القوة هذا عديدة، سواء تجاه منظمة الأمم المتحدة التي تريدها الولايات المتحدة مطواعة وراضية باستلاب قرارها، أو تجاه أوروبا، الحليف السابق، الذي تتعامل أميركا معه اليوم على أساس أنه مجرد بلدان مترهِّلة ومصابة بغياب الإبداع والتراجع الفكري والثقافي.

فأميركا التي تعامل الأوروبيين اليوم على هذا النحو، كيف لها أن تتعامل مع الشباب العربي على أساس حوار وجسور، وهي التي لا تعرف سوى سياسة الجسور المتحركة (pont-levis) التي كانت تُستخدم في الحصون القروسطية في أوروبا، والتي تخضع لمشيئة سيّد الحصن لا لمشيئة قاصديه ؟

أرباب الاستراتيجية الأميركية يعلمون ذلك تماماً، لكنهم لا يبوحون به، بل إنهم يعتمدون موقف وزير خارجية نابوليون، الداهية تاليران، الذي كان يردّد أن الكلمات هي أفضل أدوات لتمويه أفكارنا.

وتجدر الإشارة هنا أيضاً، وفي السياق نفسه، أن الكونغرس الأميركي قد أقر، في نهاية عام 2003, تخصيص مبلغ قدره 23 مليون دولار للمساهمة في “إعادة تأهيل” الصحافة العربيّة.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الاستراتيجية الأميركية مُدرِكة تمام الإدراك أن الصحافة العربيّة تقوم ، عموماً، بدور داعم لمصالحها. لذا فهي تريد تفعيل هذا الدور من الداخل، لعلمها أن “هذه الصحافة تجيد مخاطبة الرأي العام في بلدانها، وكلمتها مسموعة على مستوى عامة الناس والمسؤولين على حدّ سواء”. فبغية الإمساك بزمام المبادرة من الخارج (عبر وكالات الأنباء العالمية) ولكن أيضاً من الداخل، عمدت الاستراتيجية الإعلامية الأميركية إلى الإستفادة من جميع المعطيات الموجودة على الأرض، متابعة سياستها الشبابية الخاصة، ولكن دون إغفال ما هو متاح لها من إمكانيات تواصل عبر الصحافة الموجودة على الأرض والمتوجهة عموماً للفئات العمرية الأكبر.

محطة الحُرّة

تأتي هذه المحطة التلفزيونية في السياق الاستراتيجي الإعلامي نفسه الذي جاءت في إطاره إذاعة "راديو سوَا" ومجلة Hi، مستهدفة إرساء قواعد التغيير على المدى الطويل في هذه المنطقة من العالم الناطقة بلغة الضاد. فهذا ما كان قد صرّح به بُعيد إقرار إنشائها، السيد هنري هايد رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، في صيف 2003.

هذه المحطة التلفزيونية الجديدة التي ستباشر البثّ في شباط 2004, أي بعد سنة على إطلاق المجلة وسنتين على إطلاق الإذاعة، ستستكمل الكوكبة الإعلامية الأميركية في الفضاء العربي، بعدما استأثرت شركات أميركية كبيرة بسوق الإنترنت في المنطقة عبر بوابتي دبي وبيروت.

وتبلغ الميزانية السنوية التي قرّرها الكونغرس الأميركي لهذه المحطة التلفزيونية الجديدة، الأميركية التمويل والسياسة، والناطقة باللغة العربيّة، 30 مليون دولار لسنة 2003 لإعداد التجهيزات وتدريب العاملين فيها، علماً أن فريق عمل محطة “الحُرّة” سيضمّ العديد من اللبنانيين. وقد وعد أصحاب الشأن في الكونغرس رفع هذه الميزانية، خلال سنة 2004, إلى 40 مليون دولار .

يضمّ فريق هذه المحطة الجديدة ما بين 75 و100 إعلامي، ناطقين باللغة العربيّة، في مزيج من الطاقات الشبابية والمخضرمة على حدّ سواء.

أما القاعدة التي سينطلق منها البث، فهو مدينة فيرفاكس (Fairfax) في ولاية فيرجينيا (Virginia)، أي من قلب الولايات المتحدة إلى قلب العالم العربي. ويُفترض بهذه المحطة التلفزيونية الأميركية الجديدة أن تنقل بأمانة وجهة النظر الأميركية الرسمية، للوقوف في وجه محطتي "الجزيرة" و"العربية" اللتين لا تتعاملان مع الأخبار العربيّة على النحو الذي يتناسب مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة .

وفي الواقع تهدف محطة “الحُرّة” إلى تعديل طويل الأمد في عمق العالم العربي (Hinterland) الثقافي والسياسي، بغية صدّ ومكافحة أيديولوجية الإسلام الحركي التي مالت إليها كثيراً فئات واسعة من المجتمعات العربيّة. فكما قال ابو النواس في ما مضى، “داوِها بالتي كانت هي الداء”. إذ أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة ترى أن مجابهة الإسلام الحركي في العالم العربي اليوم تمر ليس فقط بالضربة العسكرية والتدخّل الأمني، بل أيضاً بالمقارعة الفكرية والأيديولوجية. لذلك ستعمد محطة “الحُرّة” ، كما هو مقرّر لها، إلى الإكثار من المقابلات والتوك شوو، بهدف دحض النظريات المناوئة أو المعادية لأميركا.

أي أن هذه المحطة التلفزيونية ستستعيد بعضاً من الدور الذي كانت تلعبه إذاعة “صوت أميركا” حتّى التسعينات، بتأمينها مروحة واسعة من الحجج المؤيدة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة. إلا أنها ستعمد أيضاً إلى جذب الفئات الشبابية من خلال برامج المنوّعات والمسلسلات التي ستقدّمها، أي أنها ستعمل كمحطة تلفزيونية شاملة، لا تهتم بالشأن السياسي فحسب (كمحطتي الجزيرة والعربية)، بل أيضاً بالمنوّعات والتسلية التي يشغف بها كثيراً الجمهور الشبابي العربي، بخاصة عندما تعتمد اللون الأميركي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المجهود الإعلامي الأميركي يبدو أسهل بكثير من مجهودها العسكري. فالناس في العالم العربي مقولبون على الثقافة الأميركية. فأذواقهم العامة، المُدرَك منها وغير المُدرَك، تلتقي من حيث لا يدرون مع أذواق الشباب الأميركي (ما عدا في ما يتعلق بوضع المرأة في عالم الإنتاج والعمل)، بخاصة في ما يتعلق باستهلاك التسلية واستهلاك السلع الغذائية والتكنولوجيا المتقدمة. وقد أثبت ذلك حتّى الآن رواج كلّ من المحطة الإذاعية الأميركية الجديدة والمجلة الشبابية الناشئة بحيث أن محطة “الحُرّة” ستقوم باستكمال المشهد العام ليس إلاّ.

فالتشخيص الأميركي للمشهد الإعلامي العام صائب، بمعنى أنه يعتمد على تشكيلة من الوسائط الإعلامية المختلفة، دون تغليب السمع- بصري مثلاً على السمعي أو على الكتابي. فكل سجلات المخاطبة الإعلامية موجودة في هذه الاستراتيجية الإعلامية الشاملة. وإذا ما أضفنا إليها الاهتمام الخاص الذي يوليه الكونغرس الأميركي للصحافة العربيّة القائمة حالياً في العالم العربي، نفهم مدى عمق الاهتمام الأميركي بالشأن الإعلامي العربي.

صحيح أن معدّلات القراءة قد تراجعت جداً في العالم العربي خلال العقدين المنصرمين، لصالح الشاشة الصغيرة، غير أن أرباب الاستراتيجية الأميركية يعلمون (من خلال التقارير والتحاليل التي ترفعها لهم مراكز الأبحاث الاستراتيجية) أن أصحاب القرار، في المجالات كافة، يقرأون الصحف، أو على الأقل يتابعونها باهتمام. ذلك أن الصحافة العربيّة المستقلة، عكس صحافة الأنظمة، قد كسبت احترام الرأي العام العربي ولا تزال. من هنا فإن إيلاء الشأن الصحافي (لا الكتابي العام) الأهمية التي يستحقها قد انعكست في إقرار الكونغرس دعم هذا القطاع .

 

نضيف إلى ذلك أن خطى الاستراتيجية الأميركية ثابتة، على المستوى الإعلامي كما على المستوى العسكري. ففي سنة 2002 الإذاعة، وفي سنة 2003 المجلة، واليوم، في سنة 2004, المحطة التلفزيونية. وربما مستقبلاً غير ذلك أيضاً، مما يشير إلى أن لا تراجع في تنفيذ الأميركيين لاستراتيجيتهم، بل تصاعد مطرد وتضاعف ثابت. فالذين يتكلمون عن تراجع أميركا في الشرق الأوسط أو العالم العربي لا يحسنون برأينا قراءة المعطيات الميدانية التي تشير إلى عكس التقهقر والتراجع، بل كلّ الأمور تشير إلى أن خطة السياسة الأميركية تترجم ميدانياً بوتيرة مدروسة وتصاعدية، بحيث تصل ، بعد عقد من الزمن، إلى الوضعيّة المطلوبة. ألم يقل العرب ذات يوم: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة؟

يطبِّق الأميركيون اليوم هذه الحكمة على العرب أنفسهم.

 

3­ كيف نقرأ هذه الاستراتيجية الجديدة

  تتميز الاستراتيجية الأميركية الجديدة بسلسلة مميزات بالغة الأهمية لمن يود أن يفهم منطق الأمور في السياسة الخارجية الأميركية. نذكر من أبرز هذه المميزات، كما هي ظاهرة في الأفعال والمبادرات:

 

الانتقال من استراتيجية الحرب الباردة إلى استراتيجية الحرب الحامية:

بعد فترة طويلة من المواجهات الملتوية أو بالتوكيل مع الاتحاد السوفياتي السابق والأنظمة المتحالفة معه، ها هي الولايات المتحدة اليوم تجاهر بخططها العدوانية ولم تعد تعمل على إخفائها. فعدّوها يجد عسكرها (في إفغانستان)( وأجهزتها عبر العالم) أجمع بالمرصاد له، بحيث أنه ملاحق باستمرار.

لم تعد الولايات المتحدة تفاوض ، بل تطالب الدول والأنظمة كافة التعامل معها تحت طائلة المسؤولية، أي العقاب. وهذه اللهجة غير الديبلوماسية التي نسمعها على ألسنة الغالبية العظمى من المسؤولين الأميركيين (ما عدا السيد كولن باول) تعكس تبدّل طبيعة الاستراتيجية. فما هو معتمد بعد 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة هو استعادة الهيبة العسكرية التي كانت أميركا قد فقدتها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبخاصة بعد الهزيمة في فيتنام.

فاللهجة العسكرية الجديدة، كلهجة تهكّمية ومتغطرسة، لم نكن نسمعها منذ نصف قرن سوى في بلدان جنوب الأرض التي تسودها الديكتاتورية (في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والعالم العربي) أضحت اليوم من عدّة الشغل عند المسؤولين السياسيين الأميركيين. ويفهمون العالم جهراً أن المعطيات الديبلوماسية السابقة، السائدة أيام الحرب الباردة، قد أصبحت غير ذات جدوى، علماً أن هذه اللهجة التي يستخدمها ساسة واشنطن تصيب العالم بأسره ما عدا دولة واحدة هي بريطانيا، المتحالفة مع استراتيجيتها، الأمر الذي يعني أن العرب والأوروبيين والأفارقة والآسيويين موضوعون كلهم في كيس واحد، دون تمييز يُذكر.

 

حيويّة استراتيجية فعلية ولافتة

هذا ما يمكننا أن نلاحظه عند إطلاعنا على النسق العام للاستراتيجية الأميركية اليوم. فهذه الاستراتيجية التي بوشر باعتمادها منذ سنتين ونيف فقط، مثيرة للإعجاب على المستوى التقني المحض. ويتزامن فيها شقان، واحد عسكري وآخر إعلامي، بشكل جدّ متكامل.

القيّمون على المبادرة العسكرية يدركون تماماً ماذا يفعلون، وكذلك هي الحال بالنسبة للقيمين على المبادرة الإعلامية. والكونغرس الأميركي مدرك تماماً لما يفعله هؤلاء وأولئك. فالأداء العام مدروس ومطبّق مرحلة بمرحلة، من دون إرباك أو تردّد، كما يحلو لبعض وسائل الإعلام العربيّة الرسمية أن تصوّره في العراق مثلاً. فالأميركيون غير منهكين هناك، على الرغم من الخسائر في الأرواح (المتوقّعة من الناحية العسكرية أصلاً). فها هم قد تبنّوا أخيراً فكرة اللواء الأجنبي (La légion étrangère) التي كان الجيش الفرنسي قد اعتمدها منذ زمن لمواجهة الجيوش الألمانية الأكثف عدداً، خلال الحروب الأوروبية الداخلية، بحيث أن الجيش الأميركي بات يجنّد اليوم أناساً يطمحون لنيل الجنسية الأميركية في ألوية ووحدات تعمل في العراق، لتخفيف الضغط عن الجنود الأميركيين الأصليين. من هنا التلاعب بأرقام الضحايا الذين لا يشملون هذه الفئات العسكرية غير المحسوبة على الجنسية الأميركية بعد.

كذلك فإن القدرات الاستراتيجية الأميركية ظاهرة في هذا التنسيق اللافت بين الشأنين العسكري والإعلامي. ذلك أن المعركة، كما هي مطروحة، لا تهدف فقط إلى هزم العدو، بل أيضاً إلى كسب نفوس أبناء العالم العربي. فبغض النظر عن جوهر هذه العملية، يبقى أن شكلها وأداءها ينمّان عن إلمام شديد بماهية السيطرة .

وتجدر الإشارة أخيراً في هذا السياق إلى براعة الاستراتيجيين الأميركيين في تحريك أحجار الشطرنج على رقعة العالم، فيسحبون العناصر من القواعد العسكرية السعودية لإعادة نشرها في دبي والعراق ودجيبوتي، ويبرّدون الجبهة الكورية للتفرغ بشكل أيسر للشرق الأوسط، ويحيّدون إيران للحصول على حرية حركة أكبر في العراق.

 

من الأطراف إلى القلب

هكذا برأينا غدا الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأميركية الراهنة، لكن مع مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام.

فالشرق الأوسط الذي كان حاضراً في الاستراتيجية الأميركية السابقة، ولكن على هامش الجوهر الأميركي ـ السوفياتي للصراع العالمي، بات اليوم في صميم هذه الاستراتيجية بعدما أقحمته فيه أحداث 11 أيلول 2001 التي أحدثت صدمة جُرحية (Traumatisme) عند الأميركيين، علماً أن أطماع النفط كانت دائمة الحضور، غير أن الصدمة الأمنية العميقة التي شكّلتها هذه الأحداث بلورت عند القادة السياسيين الأميركيين رؤية وموقفاً في آن.

فالرؤية تمحورت حول إدراك قيام عدو استراتيجي جديد، لا يقل خطراً عن الأيديولوجيا الشيوعية السابقة، لقدراتها التجييشيّة. والدراسات التي كانت مراكز الأبحاث الأميركية قد رفعتها إلى المسؤولين حول الاستعدادات التعبويّة الكامنة في العصبيّة الدينية الإسلامية، وبخاصة السنيّة، كانت قد اختُبرَتْ بنجاح في أفغانستان، على يد الاستخبارات الأميركية والباكستانية المتعاونة. من هنا معرفة الأميركيين ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الموجة الأيديولوجية إن اتسع نطاقها وتمتّنت وارتدّت على المصالح الأميركية.

لكن الجدير ذكره أن هذه العصبية الدينية التي تعاملت معها الولايات المتحدة في ما مضى باحترام وتقدير، ناعتة المقاتلين الأفغان إبّان حربهم ضد السوفيات بـ “مقاتلي الحرية” و “جنود الحرية”، باتت تقدّم اليوم على أنها مجرد “إرهاب”. وعلى هذا الأساس، وبعد إخضاعها لعملية إعادة التحديد والتعريف المعرفية، غدت الولايات المتحدة تتعامل معها، في معقلها وعبر العالم أجمع، كما كانت بريطانيا العظمى تعامل ظاهرة القرصنة منذ قرنين إلى الوراء.

إذاً لا حوار ولا تفاوض ولا حرب باردة، بل تعقّب عسكري ومحاربة حامية، مع تطويق قانوني وإعلامي مُحكم.

 

 تصميم على السيطرة على المنطقة والاستعداد لدفع ثمن ذلك سلفاً

هذا ما نستشفّه أيضاً من تعامل الولايات المتحدة مع هذا التهديد الجديد الذي تجرأ على تهديد مصالحها وهيبتها.

فالاستراتيجية الأميركية التي أبصرت النور بعد 11 أيلول 2001 قد انتقلت بسرعة فائقة من مرحلة القرار إلى مرحلة التنفيذ. فالكونغرس الأميركي يعمل لها عن كثب، والماليّة الأميركية تموّلها دون تهادن. فالقواعد العسكرية الجديدة تغزو خريطة العالم والوسائل الإعلامية تعاضدها بفعالية.

فالقيّمون على الاستراتيجية الأميركية لا يرسمون خططاً على الورق، بل ينفذونها مباشرة على أرض الواقع؛ وهم لذلك على أتمّ الاستعداد لدفع ثمن هذه العملية قبل جني أرباحها. فالاستثمار الإعلامي الذي أتينا على ذكره والذي يكلّف الخزينة الأميركية عشرات ملايين الدولارات سنوياً، وربما أكثر في المستقبل القريب، لا يتحفّظ عليه الكونغرس ولا يجادل فيه نوّاب الأمة وممثلو الشعب.

وميزة الاستثمار الاستراتيجي المدروس التي ميّزت الأميركيين في الماضي، أثناء الحرب الباردة، والتي لا تزال تميّزهم اليوم، في حربهم الحامية الراهنة، هي سرّ نجاح السيطرة الأميركية على العالم، إلى جانب سلطان الدولار على الاقتصاد الدولي. فالرؤية الاستراتيجية لها ثمنها، ولا يمكن توقّع جني أرباحها دون دفع هذا الثمن سلفاً.

هذا ما يفعله الأميركيون وربما الإسرائيليون على نطاق أضيق بالطبع، ولكن هذا ما لا يفعله بعض حكّام العالم العربي، على الرغم من الرساميل الطائلة المتاحة لهم والتي تبقى دون استثمار استراتيجي، أقلّه على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

 

بُني جزء من الاستراتيجية الأميركية على الخصوصية المعرفية:

فالمعرفة ، في يد الأميركيين سلاح لا يقل أهمية عن الأسلحة المادية الأخرى. وقد كشفت المعلومات الأخيرة، على سبيل المثال، أن تعقّب صدّام حسين في العراق حصل بناءً على رسم أنتروبولوجي لخريطة القرابة في أسرته، المولجة في المنطق العشائري بأمنه وحمايته، أي أن الأميركيين قد استخدموا الأنتروبولوجيا في حربهم في العراق، تماماً كما كانوا قد لجأوا إلى هذا العلم بغية اتخاذ قرارهم في القضاء على الإمبراطور الياباني أو المحافظة عليه، بعد كسر اليابان عسكرياً في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

 ففي الاستراتيجية الأميركية الجديدة سهر على اختراق الأذهان وعدم الاكتفاء باختراق المواقع العسكرية. ومن هذا المنطلق يعمل الأميركيون اليوم في الشرق الأوسط على عبور الأذهان بالفكرة والصورة واللحن، عبر الصحافة والبثّ الإذاعي والتلفزيوني.

فسياسة الولايات المتحدة تلجأ، في سيطرتها على العالم، إلى جميع الأدوات المتاحة لها، ومنها العلوم الإنسانية (علم نفس وعلم اجتماع وأنتروبولوجيا) التي تستفيد منها بشكل براغماتيكي لبلوغ أهدافها، حتّى أنه بإمكاننا أن نعتبر هذه الميزة من المميزات الأساسية في الاستراتيجية الأميركية، حيث أننا لا نجد مرادفاً فعلياً لها في استرتيجيات الاتحاد السوفياتي السابق.

فالأميركيون لا يحكمون العالم فقط بالدولار وبقواعدهم العسكرية، بل أيضاً بالمعرفة، وهذا أمر يثير الاحترام بحدّ ذاته.

 

 ولبنان في كلّ ذلك؟

لابدّ أن نتساءل أخيراً أين يقع لبنان في هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة؟

إنه يقع على أطراف الشرق الأوسط النفطي، لكنه يقع في قلب الشرق الأوسط الإعلامي، علماً أن الوقت لازال مبكراً لتأكيد هذه الفرضيّة التي تحتاج إلى بحث مستقل.المراجع

1­     Kurt M. Cambell & Celee Johnson Ward, "New Battle Stations", in Foreign Affairs, vol. 82, No 5, September - October 2003.

2­     Gerard CHALIAND, Place de Géo-Politique, éd. Robert Laffont, Paris, 2003

3­     "Afrique" intelligent, no 2237, 23-29 Nov. 2003.

4­     يشير إحصاء للوكالة الفدرالية الأميركية، (Broadcasting Board of Governors) المسؤولة عن البرامج الراديوفونية والتلفزيونية الأميركية خارج الولايات المتحدة، إلى أن 30% من الأردنيين و 37% من الإماراتيين قد تابعوا برامج راديو سوا ما بين شباط 2002 وشباط 2003.