بلى فلسفة

التنّور
إعداد: العقيد أسعد مخول

من محطات الخير التي كانت منتشرة عندنا في الرّيف الجميل تنّور أتي في الطليعة من حيث الأهمية والأصالة ونضارة العطاء. ناره المتوهّجة دلّت إليه، وأرغفته الطيّبة حملت رسالته الى الأفواه المشتهية، والى العقول المتوثّبة للأفضل والأحلى، خصوصاً وأن المعرفة تندحر عند البطون الخاوية رافعة رايات الاستسلام. كان مركزه في غرفة ترابية السقف، تقوم على جدارين اثنين من الحجر يرتفعان فوق تلّة حرجية. وقد تم اختيار تلك التلة مرتفعة مميزة تؤمّن الاتصال بأبناء القرية بالصوت والنار، وتطلق دخان الحطب الى الفضاء عالياً بحيث لا يؤذي البيوت وصفاء العيون. كما أنّ توافر النسيم العليل هناك كان يخفف من حرارة الجمر التي لا بد أن تصيب وجوه الحسان الخابزات، وأن تلفح زنودهن المكتنزة اللافتة. وكانت جارتنا بلّوطة هي صاحبة التنّور، تشاركها العمل فيه جاراتها المحبوبات، جمعاً للغصون اليابسة من الغابة من أجل استعمال الجمر في القعر الدائري، وبسطاً لقِطع العجين الواحدة الى جانب الأخرى تمهيداً لتعريضها للنّار، حيث يبدأ التوشيح بالألوان الزاهية التي تبعث الشهية من كل اتجاه. وكثيراً ما احتار الوصّافون بين أن يكون الحلى أشدّ زهواً في الوجوه الفاتنة تلك أو في الأرغفة المنطلقة من جوف التنّور، وهذا ما دوّنه أمين نخلة الأديب في أوراقه: " فلا واللّه ما رأيت رغيفاً قد احمرّ كخدّك، ولا رغيفاً قد احترق كقلبي ! ". وكان خبز التنّور متوافراً في كل البيوت يوماً يوماً كجرائد هذا العصر، أصله وفصله من سنابل القمح ومن قصبات الذرة المتماوجة في الحقول، والتي تنتهي حبّاتها الى الأبيض الدقيق حين تكسر رؤوسها بمطحنة الحجر في الوادي المجاور، فتتغيّر ألوانها ويضيع "الشّنكاش". وكانت بلّوطة حين تبدأ بتحويل كتل العجين الى أرغفة دائرية رقيقة تلقي بجسمها الممتلئ على الأرض وتطلق ساقيها واحدة الى اليسار وواحدة الى اليمين وكأنهما عقربا ساعة يتحرّكان كيفما أراد الزّمن، وكيفما حكمت الظروف. لكنها كانت تُتبع حركة السّاقين بنشر ظلال تنورتها الرمادية الى الأمام بحيث يبدو المكشوف من ركبتيها موشّحاً بهيبة الاحترام والوقار، ومبرّراً بمقتضيات العمل وظروفه وأولوياته وأحكامه وقواعده. لم تكن جارتنا تتعمد أن تظهر بمظهر التهذيب، كما أنها لم تكن تتصيّد التّستر، وكان وجهها مغموراً بنور المحبّة، وإشراقة القروية الأصيلة التي يحق لها أن "تحاضر في العفّة" وفي كل أمر جميل. وتجذب الخبّازة نحوها قطعة الخشب الدائرية المعدّة لتدوير العجين وترقيقه، كما تطلق صدرها البريّ المتحرر، ابن الغابات والمراعي، للاقتراب من العجين المقدّس، وتروح يداها بالتوقيع على الخشب الى أن تستدير الأرغفة وتصبح جاهزة لمواجهة دائرة النّار. وكانت تلك المرأة تسمّى لدى مثقفينا القلائل " التنّارة " نسبة الى تنّورها، وقد تكون تنورتها هي الأخرى منسوبة الى هذا الإسم المشهور، وإن يكن الاحتمال بعيداً. وكان نظام التنّور عندنا مجانياً لا مال فيه، وكفى فيه أن تأتي كل جارة بعجينها وحطبها وهمّة يديها وخفّة عقلها وبراعة لسانها وحسن معشرها، لكي تعود بخبز طيّب. وجلسة التنّور هي بحبوحة من الوقت لسرد الحكايات وتبادل الأخبار. وإن صودف أن كانت بلّوطة تخبز بمفردها، وهذا نادر، فإنها تحوّل اهتمامها للاصغاء الى ألسنة النار، ناسبة الهمدرة المنبعثة من لهيب الحطب الى لسان إحدى الجارات الغائبات متوقعّة ومفترضة ما يمكن أن تكون قائلته في " قفاها ".

 * * *

امتدّت أنياب المدينة الى خبزنا فانتشر صيته فيها، وأصبح لا بدّ من توطينه في أحيائها الى جانب الأفران والمطابخ والمطاعم حيث يدفع " الضيف " مالاً حين يريد الحصول على طعام. وقررت بلّوطة النزول الى ميدان العمل المديني فاستدعت عمّالاً من هنا وهناك لمساعدتها، وطلبت منّي الاشتراك معها في إدارة الأمور من السّهر على التنفيذ الى تسليم الرواتب... أما شراء الطّحين وتأمين الحطب والماء فكانا من مهماتها هي لأنهما أمران أساسيان ويتطلبان خبرة في التعامل مع " السّوق " ، وتلك حالة لا يخوض غمارها إلاّ الرّاسخون في التجارة. كنت في السّابق أتجنّب أن يكون عملي في مؤسسة تديرها امرأة، وذلك قبل أن "ينوّر" اللّه عقلي وقبل أن أصبح منفتحاً على مسلّمات العصر الحديث الذي تتولى إدارة الكثير من مؤسساته نساء يرفعن الصّوت ويتوعّدن، ويؤدّبن ويعاقبن... ويكافئن ويرضين. كما كنت أخشى مواجهة المدينة حيث الغبار والضجيج والنّفاق حتميّات تاريخية لا يخلو منها مكان. ثم إن التنور هو في حكم الدنيا للنساء، وهو في الأمثال طعم حواء ورائحتها، فكيف اتدخّل في شؤون ولايته؟ لكنني قررت المغامرة مدفوعاً بخوفي من البطالة وحاجتي الى القرش، وانطلقت للعمل وفي حسابي أن عمّال تنّورنا سيكونون مثل تلامذة مدرسة الضيعة، يدخلون ويجلسون ويعملون ويسألون ويجيبون ويسكتون ويخرجون... وفقاً للنظام والقانون. لكن حالة مؤسستي الجديدة كانت مختلفة، إذ أنّ واقعها اقتضى الكثير من العلاقات مع المحيط والجوار ضماناً للنجاح وسعياً الى التطوير. وقد لاحظت في البداية أنّ عوامل عديدة تدخل في سير عملها في المدينة، فهناك من يؤثّر في تزويدها بالماء والكهرباء، وهناك من يؤثّر في تأمين طحينها ويتدخل في تحضير عجينها، وبفعل ذلك بدأ رفده بعمّال يليهم عمّال، مع توصية بفلان وتحذير من فلان ونصيحة بخصوص فلان. وقد سعيت الى التّوفيق بين المرجو والمفروض، وبين المقبول والمرفوض، وكنت مصراً على ربط الأجر بالإنتاج في كل حال. وهكذا ضَبطتُ أحد المخالفين ورحت أكافح مخالفاته بحيث كرهني وهدّد بمغادرة العمل إلا إذا فعلت أنا ذلك وأرحته. لكنّني لم أفعل، بل تمسّكت بكرسي سلطتي، ورأيت أنني بذلك إنّما أرفع مشعلاً بسيطاً لا بدّ منه في محراب العدالة. إلا أن أمراً خفّف لمعة ذلك المشعل، وحدّ من بريقه، وفاقه في حدة الاشتعال، لم يكن الأمر احتراق الحطب اليابس ولا توهّج أنوار المصابيح، لكنه كان اكتشافي عاملاً آخر ليس لديه وقت للعمل في التنّور ولا للمخالفة، لأنه منشغل بالعـمل والمخالفة معاً في مكان آخر، عاملاً لا يحضر لرؤيتنا ولا يدعونا للذهاب إليه لرؤيته، وكنت أدفع راتباً لاسمه مثنّى وثلاثاً... من دون أن أدري. حاولتُ المعالجة، إلا أن الفشل أصابني، كما لفّ أملي التعب والقنـوط. سكبـت الماء في التـنور لعلـني أطفئه وأمنع تحـوّله مطيّة للخـطأ، لكن ألـسنة النّار استـمرت صارخة في جوف الطين، فهجرت المكـان وسحـبت يدي من شـؤون العجين. ومذّاك لم أعرف خبز التنّور.