رحلة في الانسان

الحسد آفه اجتماعية لها حسناتها
إعداد: غريس فرح

حدده سقراط على أنه «قرحة الروح»، ووصفه ويليام شكسبير في مسرحية هاملت «بوحش العيون الجشعة وتناوله الشاعر الإيطالي دانتي في مسرحيّة الكوميديا الإلهية بأبشع الأوصاف. هذا عدا عن اعتباره خطيئة بنظر الأديان، كونه – يحفّز الرغبة بحيازة مقتنى الغير.
فالحسد كان ولا يزال صفة ممقوتة من الجميع، مع ذلك، وجد فيه علم النفس الحديث مزايا حسنة، وخصوصًا على صعيد تطوّر الأفراد والجمعيات. كيف يفسّر هذا المنطق، وما هي الحسنات المتأتية عن الحسد؟


الحسد شعور مؤلم
حسب الباحثين، فإن الحسد لا يؤذي الغير فحسب، بل يتسبب بتدمير الذات، وخصوصًا في حال عدم التمكن من التسلّح بالانضباط عند مقارنة النفس بمن هم أفضل حالاً. لكن يبدو أن لكل شعور إنساني حسنات وسيئات. ومن هنا كانت الخطوة الجريئة من قبل علم النفس الحديث باتجاه تحليل الحسد، واكتشاف تأثيره المباشر وغير المباشر في المجتمع.
صحيح أن الحسد كما سبق وأشرنا يؤلم أصحابه لدرجة أنه يجعلهم يتلذذون أحيانًا بإيلام الغير. لكن ليس من الضروري أن يتّشح هذا الشعور دائمًا بروح الشر، بل من الممكن، كما تؤكد الأبحاث، أن يتخّذ في حال تمت السيطرة عليه، روح المنافسة المشروعة. وهذا يحصل عندما يشحن أصحابه بحوافز تؤهلهم للقيام بمهمات ناجحة. وتكمن اللعبة هنا بتعلّم الحسود طرق التحّكم بمشاعره وتصويبها وجهة البناء والإنتاج.

 

وجه الحسد البنّاء
الفكرة إذن هي تقديم الحسد، ليس من وجهة النظر الداكنة فحسب، بل من الوجهة الأكثر إضاءة. صحيح أن صفاته الراسخة في الأذهان هي على حدٍ كبير من البشاعة، إلاً أن النظرة العلميّة المعاصرة، باتت تفصل ما بين شقيّه السلبي والإيجابي. فالعلم يؤمن أن الحاسد يستحق فرصة ينتقل خلالها من التعبير المباشر عن نقصه، إلى ردم الهوة التي تفصله عن من يعتقد أنهم أكثر كفاءة وأوفر حظًا. وهذا ما يؤهله لدخول حقل المنافسة التي هي أساس مجتمعنا الإنتاجي المعاصر.
على كلٍ، فالحسد كما يبدو درجات، وكذلك تأثيره على التصرّفات، وهذا ما أكّدته الدراسات التي اختبرت مجموعات بشرية حيال أوضاع أثارت حسدهم بنسب متفاوتة. فمنهم من عبّر عن حسده بشكل شعور بالإحباط الممزوج بالإعجاب بالشخص الذي يحسدونه، ومنهم من عبّر عن ذلك بطريقة سلبيّة مشحونة بالشر والرغبة بأذية الشخص المعني.
أفراد الفئة الأولى، تمكّنوا مع الوقت، وعن طريق التدريب الذاتي، من تخطّي شعور الإحباط، وصولاً إلى مستويات حققوا معها أهدافهم. أما أفراد الفئة الثانية، فقد راوحوا مكانهم وأغرقوا أنفسهم بمشاعرهم البائسة، وهؤلاء، احتاجوا إلى علاج نفسي تخلله تدريب على ردم الهوة التي يفتعلونها بينهم وبين الغير من جراء حسدهم. وهذا يحصل في حال تمكنوا من الوصول إلى وضوح الرؤيا عن طريق تفعيل التفكير العقلاني.

 

أهميّة التفكير العقلاني
على الرغم من أن معظمنا يشتهي الحصول على أشياء يمتلكها الغير أكثر ممّا يعترف بذلك، فإننا نخفي عمومًا مكنونات نفوسنا. وهذا يحصل لأننا جميعًا نعلم أن الحسد آفة إجتماعيّة وأن الحاسد هو شخص غير سوي. ومن هنا العمل على ضبط الإنفعالات اللاإرادية التي توّلدها مواقف مثيرة للحسد. هذا يعني أننا في حال كهذه، نعمد إلى التفكير العقلاني. لكن المشكلة أن هذا التفكير يتدنّى أو يصبح مستحيلاً في المواقف الضاغطة، أو التي تتخطى المقدرة على الإنضباط. وهنا لا بد من أن تنكشف الأحاسيس الفطرية التي يبرزها الحسود للعيان. ولكن، هل يعقل أن يبقى الإنسان المعاصر تحت رحمة انفعالاته، أم أنه يتمكن من السيطرة عليها في مطلق الأوقات؟
الباحثون في هذا المجال يقرّون بوجود مواقف تضعف المنطق السليم، لكنهم يقرون أيضًا بضرورة التدريب الذاتي من أجل التغلّب على هذه المواقف. أما بالنسبة لشعور الحسد فيعتبرونه حالة حياتية، ملازمة للمبدأ التطّوري الذي واكب الإنسان منذ وجوده.

 

الحسد والرؤية التطّورية
في الواقع فإن الرؤية الإيجابية التي أفرزتها الدراسات عن الحسد، تعود أصلاً إلى الرؤية التطوّرية التي كوّنها الباحثون في تاريخ الجنس البشري. فالإنسان الأول تمكّن من البقاء والترقّي لدوافع فطرية أرغمته على مواصلة الطريق نحو الأفضل. من هذه الدوافع الحوافز التي أفرزتها المقارنة بين إنجازاته وإنجازات سواه في محيطه الطبيعي.
هذه المقارنة وما اكتنفها من تفاعل المشاعر، وفي مقدّمها الحسد، حسّنت أوضاعه إلى حدٍ بعيد، وأدت إلى تعلّمه أسس المنافسة البدائية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحسد يثير في الإنسان مشاعر مختلفه ومتناقضة. والدليل أن مطلق شخص إذا ما رأى جاره قد ابتاع سيّارة جديدة وفخمة، فقد ينتابه شعور برغبة شراء مثيلها أو أفضل. لذا فإن علماء النفس ينصحون بعدم كبت المشاعر بل على العكس، تطويرها نحو الأفضل.
فالشعور الذي يلحق بنا الألم قد يقودنا إلى النجاح. ومن أجل التخلص من الحسد المؤلم أو المفعم بالشّر، ينصح  بالتركيز على الأمور الممكن التحكّم بها. فإذا ما تألم أحدهم مثلاً من نجاح زميله في حقل ما، فما عليه سوى التخطيط لهدف مستقبلي قادر على تحقيقه. أما في حال تمكن الحسد الطاغي من كبح جماح الحوافز، فمن الأفضل دحره عن طريق استبداله بمبدأ القناعة الذاتية.
فالتركيز على النقص لا يجر سوى الألم. فلماذا لا نركّز إذًا على حسنات قد نجدها في ذواتنا؟