رحلة في الانسان

الخجل ليس عيباً... فلماذا نخفيه
إعداد: غريس فرح

 جميعنا بدون ريب يطمح الى التحلي بشخصية قوية ومنفتحة تزينها الجرأة والاندفاع وحرية التعبير عن الرأي. إلا أن الخجل المتأصل في نفوس الكثيرين يحول أحياناً دون بناء هذه الشخصية "الحلم"، ويسجن المعانين من مضاعفاته في واقع ضيّق فيه الكثير من الخوف والتردد والشعور الدائم بالنقص. فالخجول يمني النفس على الدوام بما لا يتمكن من تحقيقه لضعف في شخصيته ونقص في إرادته وتصميمه، لذا فهو يعجز عن مجاراة الآخرين فيحقد وتتملكه الغيرة، وقد يلوم نفسه فيصاب بالإحباط، أو يلوم سواه، فيصبح عدائياً ومتمرداً. الخجل كما ثبت مؤخراً، لا يقتصر على فئة ضئيلة من الناس، بل يطاول نحو أكثر من ستين بالماية منهم. إلا أن محاولة التستر عليه من قبل الاكثرية الساحقة، تظهر معظم المعانين منه بمظاهر تتناقض وطبيعتهم، الأمر الذي يزيد من معاناتهم، ويؤثر سلباً على حياتهم العائلية والإجتماعية والمهنية، بالإضافة الى إنتاجهم وتحصيلهم العلمي. من هنا السعي لمعرفة المزيد عن شعور الخجل الكامن وراء الأقنعة الإجتماعية، وبالتالي توعية الخجولين الى حقيقة مشاعرهم ومساعدتهم على التأقلم مع واقعهم وصولاً الى المستوى الذي يصبون إليه. ولتحقيق ذلك، لا بد من إلقاء المزيد من الضوء على عوارض الخجل، وعلى طرق مواجهته ومعالجة مضاعفاته.

 

معاناة داخلية
 يعرف الخجل بالمفهوم التقليدي على أنه معاناة داخلية تنشأ عن العجز والخوف من الاندماج الطبيعي في المجتمع لأسباب منها الفطري، ومنها المكتسب. إلا أن الدراسات التي تناولت مؤخراً مجموعات بشرية خجولة من كافة الفئات الاجتماعية، أكدت على أهمية الضغوطات الخارجية المؤثرة في العامل الوراثي. وهذا يعني أن الخجل الذي يعتبر جزءاً من الطباع الفطرية، لا يتحوّل الى مشكلة نفسية إلا إذا تعرض المتميزون بهذه الطباع الى ضغوطات تبرز التفاوت بين طبيعتهم المنطوية وطبيعة أقرانهم المنفتحة. وباعتبار أن الخجول يعتبر خجله عيباً خلقياً، ويميل الى التشبه بالجريئين والاجتماعيين، فإن انفضاح أمره من خلال التجارب التي تبرز عجزه يولد في نفسه الصراع بين ما يطمح إليه وبين قدراته التي يحدها الخوف والتردد. بهذا تبدأ مشاكله النفسية بالبروز وقد تصبح مع الوقت مشاكل مرضية ما لم يسعَ الى تداركها.

 

 الخجل شعور طبيعي
 هذا الواقع الذي يعاني منه الكثيرون، كان مثار جدل العديد من الاختصاصيين الذين أكدوا في النهاية أن الخجل الفطري لا يعتبر عيباً أو مشكلة تستوجب التستر بل على العكس، لأن محاولة إخفاء الخجل من خلال تقمص شخصيات مزيفة، قد يحد من مقدرة المعنيين على مجاراة الواقع وقد يدفعهم مع الوقت، وخصوصاً في حال تعرضهم للضغوطات، الى حافة الأمراض النفسية. صحيح أن الخجل يسجن أصحابه في أنفاق تعيق اندفاعهم وحيويتهم، وتجعلهم أقل فعالية من سواهم في مجالات الدراسة والعمل والحياة الاجتماعية عامة، إلا أن الوعي الذاتي لهذا الشعور باعتباره طبيعياً وغير معيب، يسهل على الخجولين اتخاذ خطوات عملية تمكنهم من الاندماج في المجتمع بدون الاضطرار الى القسوة على أنفسهم وزعزعة قواعد طبيعتهم الحساسة.

 

أهمية الاعتراف بالواقع
 الخطوة الأولى في هذا المجال تبدأ بالاعتراف بالخجل وتقبله كجزء من الذات، بعدها يبدأ البحث عن المشاعر المتراكمة نتيجة الصراعات الناجمة عن التجارب الحياتية، وخصوصاً خلال أعوام الطفولة والمراهقة. هنا يشير الاختصاصيون الى أن هذه المشاعر قد تختلف باختلاف طبائع الافراد الخجولين ضمن بيئتهم العائلية والاجتماعية. فمنهم مثلاً من يجرحه بعمق ابتعاد الأصدقاء بسبب عجزه عن مجاراة سرعة اندفاعهم، الأمر الذي يجعله مع الوقت يتحصن لا إرادياً بمشاعر الانتقام للذات، ورد الإهانة بالاستعلاء على الغير. ومنهم من تدفعه عقدة النقص الناجمة عن شعور الخجل الى التسلّح بالغضب والإنفعال كقناع يخفي وراءه الضعف غير المستحب.

 

الخوف من الإنتقاد
 الى ذلك ثبت من خلال الدراسات أن الخجولين يتصفون عموماً ببطء التأقلم والاستيعاب، كما ينتابهم قلق عام في المناسبات الاجتماعية. أما سبب ذلك فهو خوفهم الشديد من الانتقاد وبالتالي لتركيزهم المبالغ على ذواتهم. من هنا افتقارهم اللافت الى المقدرة على حل المشاكل ومواجهة الصعاب. ومع ذلك يتمكن الخجول من تحقيق الانجازات التي يحققها أقرانه، إلا أنه يتطلب وقتاً أطول بسبب نقص مقدرته على التأقلم، بالإضافة الى ميله الزائد الى التروّي والمماطلة وتضييع الوقت لخوفه من الفشل. من هنا شعوره بالحاجة الى الدعم الاجتماعي الذي يفتقده بسبب بطء مجاراته لأقرانه، الأمر الذي يدفعه الى التفتيش عن أصدقاء جدد يؤمنون هذا الدعم. لذا يضطر أحياناً الى معاشرة من هم أدنى من مستواه الثقافي والإجتماعي والفكري، أو يبحث عن زمالة الخجولين والمحبطين. ومن الخجولين من يميل الى إدمان الكحول والمخدرات والميسر كجزء من عملية تزييف الشخصية.

 

 تقييم الآخرين
 بسبب نقص ثقته بنفسه، يعطي الخجول أهمية كبرى لتقييم الناس لشخصيته وعمله. فهو يظن أنه المعاني الوحيد من الخجل والإحباط، وإن أنظار الغير مصوّبة إليه باستمرار لتقيّمه وتنتقد حركاته وسكناته، وهذا بالطبع يؤخر تقدمه وانطلاقه ويحول دون تحقيق أحلامه. من هنا نرى أن الخجولين يعيشون في دوامة التفتيش المستمر عن أهداف غير واقعية تزيدهم عجزاً ووهناً.

 

 ما هو الحل؟
 الخجل كما سبق وأشرنا جزء من الطباع الفطرية التي تميّز شريحة كبرى من الناس، لذلك من المستحسن أن يتقبل الخجول نفسه، ويتعايش مع إيقاع قدراته وصولاً الى تنميتها ضمن حدود الواقع. ومن أجل تفادي سلبيات الصراعات الداخلية، من الضروري أن يعلم الخجول أنه ليس وحيداً وسط هذا الصراع، لأن من يخاف من تقييمهم وانتقادهم له، هم أيضاً يخافون انتقاده وانتقاد سواه. وعندما يعلم أن الكثيرين أمثاله يجدون صعوبة في التأقلم مع معطيات الواقع، وبناء العلاقات، إضافة الى التحدث بطلاقة في المناسبات العامة، يشعر بالاطمئنان، ويبدأ بالتعبير عن مشاعره براحة وحرية. عندها تأخذ مشكلته طريقها الى الحل، ومع الوقت يعلم أن الصعوبة تكمن في بداية كل طريق، بعدها تصبح المعابر جميعها سالكة. المهم أن يسقط الخجول أقنعة التستر على خجله باعتباره ضعفاً أو عيباً، أو سراً يحتفظ به دون سواه. والأهم أن يتعلم كيف يرسم خطوط شخصية جديدة تؤهله لاقتحام الحياة بخطوات ثابتة تعيد إليه الإطمئنان والثقة والسعادة.

 

خطوات على طريق الحل
 لإعطاء المزيد من المعلومات للخجولين بهدف إعادة تأهيلهم للاندماج في المجتمع، واتخاذ المبادرات، ينصح الاختصاصيون باتباع الخطوات التالية:
 ● عدم التركيز على الذات في المناسبات الاجتماعية وحلقات العمل والدراسة، لأن المهم أن نحظى بلذة الانخراط في هذه الحلقات، لا أن نكون محورها.
● من الضروري أن يتعلم الخجول تقنية الاستماع الى الغير ومشاركته لمشاكله وهمومه. فهذا التصرف يجعله موضع ثقة المعارف والأصدقاء ما يعلي من شأنه ويرفع معنوياته.
● من المعروف أن الناس يحبون الأشخاص الذين يخاطرون بفتح مواضيع للمناقشة في المناسبات. لذا من المستحسن أن يستفيد الخجول من هذه المبادرة، وذلك بعد التأكد أن الموضوع الذي يطرحه لا يثير الحساسيات. بهذا يعتاد على اتخاذ المبادرات، فتقوى ثقته بنفسه وثقة الآخرين به.
● يؤكد الاختصاصيون أن الفرق بين الاجتماعي والخجول يكمن في طريقة تقبله لانتقاد الغير أو رفضهم له. لذا ينصح الخجول بأخذ هذه الناحية بعين الاعتبار، والتعامل مع الانتقاد والرفض بصبر ورحابة صدر. فمجابهة السلوك السلبي بالسلوك الإيجابي يعزز من مكانة المعنيين بالذم ويرفعهم الى منصب القيادة.
● الخجول، كما ثبت بالدراسات، لا يتحمل المواقف المحرجة، لأن الخجل والقلق يبطئان ردة فعله المطلوبة للدفاع عن نفسه في الوقت المحدد، الأمر الذي يشعره لاحقاً بالندم والخيبة.
   لمواجهة هذه المواقف، من المستحسن أن يتعلم الخجول تقنية الاسترخاء التي تحصنه في وجه القلق، الأمر الذي يفسح المجال كي تعمل آلية تفكيره وبديهته بسرعة ووضوح، ويمنحه بالتالي المقدرة على المواجهة واقناع الغير بصواب موقفه. كما يعلمه كيف يعتذر بشجاعة وثقة.
 ● إن بناء الصداقات والعلاقات الاجتماعية يمهد تدريجاً لدحر شعور الخجل. أما السبب فهو أن التواصل الإيجابي مع الغير يعزز جهاز المناعة ويهدئ الأعصاب، ويؤمن سلامة التفكير والرؤية بعيداً عن التشنج والخوف.
 ● من المعروف أن تنمية القدرات والكفاءات العلمية تزيد الثقة بالنفس. من هنا ينصح الخجول بالاستزادة من العلم والمعرفة، والعمل على تحقيق الأهداف. بهذا ينتفي شعوره بالنقص ويبني تدريجاً شخصيته القيادية.
 ● من الضروري أن يعي الخجول أهمية الانخراط في المؤسسات الاجتماعية وخصوصاً الخيرية منها، فمساعدة الغير تشعر المانح بلذة العطاء والتفوّق، وترفع من معنوياته.
 ● في حال شعر الخجول بنقص الدعم الاجتماعي الذي يحتاجه، ينصح بطلب مساعدة الاختصاصيين بالعلاج النفسي السلوكي.